حين غصَّ
المؤتمر بالحاضرين وصرنا نبحث عن المقاعد لمن لم يجلس بعد، حتى استنفدنا طاقة
الفندق، كان فريق الإنشاد قد بدأ يصدح:
يا رسول الله
هل يرضيك أنا .. إخوة في الله للإسلام قمنا
ننفض اليوم
غبار النوم عنا .. لا نهاب الموت، لا، بل نتمنى
أن يرانا الله
في ساح الفداء
إن نفساً
ترتضي الإسلام ديناً .. ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى
الإسلام في الأرض مهينا .. ثم تهوى العيش نفساً لن تكونا
في عِدادِ
المسلمين العظماء
يا رسول الله
قم فانظر جنودا .. لم يكونوا في الوغى إلا أسودا
كرهوا العيش
على الأرض عبيدا .. ورأوْا فيك نعيما لن يبيدا
كل شيء ما سوى
الدين هباء
تثير تلك
الكلمات ذكريات عميقة مستقرة في تاريخ النضال الإسلامي كله، كلماتٌ مرتْ عليها نحو
ثمانين سنة ولا تزال ندية، إلا أنها في تلك الموقف تثير العين لكي تتقلب بين
الوجوه التي غصَّت بها القاعة، فإذا بالبصر يسرح بين كل الناس: الشيخ والكهل
والشاب والمرأة والصبي، العالِم والداعية وطالب العلم، الصوفي والسلفي والإخواني
وغير ذي الاتجاه والتنظيم، العربي والكردي والتركي والأمازيغي والإفريقي، الأبيض
والأحمر والأسود، ذو العباءة وذو البذلة وذو القميص العربي والقميص الإفرنجي، كأن
عالم الإسلام اجتمع في قاعة!!
سائر من حضروا
كانوا من نخبة علماء الأمة وصفوتها، والعادة أن هؤلاء ممن تنوء كواهلهم بالأعباء
والمشاغل، فإذا دُعِي أحدهم إلى مؤتمر كان الأمر يحتاج إلى ترتيب مسبق يبدأ قبلها
بوقت طويل، أما هذا المؤتمر، فقد هُرِع إليه أولئك الحاضرون، وسعوا إليه سعي من
يعرف أنه يتشرف بحضور المؤتمر لا أن المؤتمر يتشرف به!!
يروي الشيخ
محمد الصغير في كلمته أنه اتصل بالشيخ محمد الحسن ولد الددو، فقال له: اقترح
الموعد الأنسب لك لنرتب، فقال الشيخ الددو: هذا أمر تُقطع له المسافات وتُلغى له
الارتباطات، حددوا أنتم وأخبروني!
وقد فعل ذلك
فعلا، طار من موريتانيا إلى المؤتمر ليحضره في بضع ساعات، ثم طار إلى موريتانيا
مرة أخرى!
ومثل ذلك فعل
غيرُه ممن سافر خصيصا لأجل المؤتمر، ثم عاد بعدها مباشرة إلى بلده وعمله! ومن
هؤلاء شيخ قد شاب شعر رأسه ولحيته، خرج قبل شهور من عملية قلب مفتوح، وتحامل على
ضعفه، وتجاوز أنه ضرير، فجاء من عاصمة غربية بغير قائد، يطير به قلبه إلى مؤتمر
نصرة النبي ﷺ.
ولما أحسَّ
الشيخ نواف التكروري –رئيس هيئة علماء فلسطين بالخارج- أن الوقت طال على الحضور،
قرر أن يتنازل عن كلمته، لكنه عاد فقال: "استحييتُ أن أُطلب للكلام في موقفِ
نُصْرَةٍ للنبي ﷺ ثم أتنازل عنها"! لقد كانت كلمة الشيخ نواف من أكثر ما
أثَّر فيّ من بين كلمات المؤتمر، كانت كلمة رجل محب ملتاع!
ولما ارتقى
منبر الكلمة الشاعر أنس الدغيم، إذا بالقاعة تهدر، فصدق الحبيب القائل "إن من
البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة"، فلقد طارت القلوب مع كلماته الباذخات،
ودفقه المنهمر، فكأنما كانت قذائف حب لا أبيات قصيدة!
تكلم الجميع
فأحسن وأتقن وأجاد، إن حب النبي عميق في صدور المسلمين، كيف لا، وقد وصف النبي ﷺ
رجالا من أمته بقوله: "إن من أشدّ أمتي حبا لي، قوم يود أحدهم لو رآني بأهله
وماله" (رواه مسلم)، ولقد كانت لي كلمة، فتحيرت ماذا يُقال بعد الذي قيل، هل
غادر العلماء من متردم؟!
قال لنا شيخ
كريم: كنا ندخل إلى الناس من باب المسرى فتُفتح لنا القلوب والأبواب، وتدخلون أنتم
من الباب العالي! باب الذي أُسْرِي به نفسه!
ولما اجتمعنا
بعد المؤتمر، في الأمانة العامة، ثم في مجلس الأمناء، إذا بكل واحد يحمل في جعبته
من القصص ما يُمكن جمعه تحت عنوان "كرامات المؤتمر وبركاته"!
فهذا رئيس
تحرير مجلة المجتمع، الأستاذ سالم القحطاني، بمجرد أن سمع عن فكرة الهيئة
ومؤتمرها، حتى عزم أن يجمع أبرز مقالات الدفاع عن النبي في مجلة المجتمع منذ
صدورها، وما إن أشار بذلك حتى نزلت البركة، فإذا بالكتاب مطبوعا بعد أسبوع واحد!!
وهذا عالمٍ في
الصدر من أهل العلم، وفي الصدر من أهل بلده، يسأل: هل لديكم عضوية ولو بدرجة
خادم؟!.. وقال: لو أن العمل استمر على الوتيرة التي بدأ بها، فلعله يكون المؤسسة
التي تجدد هذا الدين في هذا القرن!
وهذا عالمٌ في
أهله وبلده، وهو مسؤول سابق، ومرتبط بموعد سفر على طائرة، أصرَّ أن يبقى حتى يشهد
البيان الختامي للمؤتمر، ولو اضطره هذا لتغيير موعد السفر المحدد مسبقا، ثم استأذن
إدارة المؤتمر أن يسمحوا له بالمغادرة دون أن يتناول الغداء!
وهذا مسؤول
سابق يقول في مجلس خاص: قد حضرت الكثير من المؤتمرات فما شعرتُ بسكينة مثل التي
غشيتني في هذا المؤتمر!
وهذا شيخ آخر
يقول: على غير عادتي، وأنا الملول، لم أشعر بملل قط في هذا المؤتمر!
رأيتُ من لا
يُجْلَسون إلا في الصدر إذا انعقدت المجالس، رضوا –أو اختاروا- أن يجلسوا في
الزوايا والخبايا، ما يرى الواحد منهم أنه قد نقص قدرا، ولم ير الوفد أنه أُزري
بمكانه!
ورأيتُ في
المؤتمر من جاوز الستين والسبعين، وهو من ضيوف المؤتمر، قد نصب نفسه لئلا يجلس إلا
إن جلس الضيوف جميعا، يرى نفسه خادما لضيوف جاءوا في نصرة رسول الله، ويتحمل على
رغم سنه ومكانته أن يظل واقفا، ويجلس من هم دونه في السن والقدر، لكونهم ضيوف
النصرة لرسول الله ﷺ.
ولما رأى
أحدهم هذه المواقف، تدخل فذكر أنه يعاني من أمور صحية تجعله إذا وقف لنصف ساعة لا
يستطيع ليلته تلك أن يجلس أو أن ينام لما يصيبه من آلام، فإذا به يستحيي أن يجد في
الضيوف واقفين، فظل لنحو الساعتين واقفا، ولما أعدّ نفسه لليلة عصيبة، مرَّت
الليلة عليه بسلام كأنه لم يكن يشتكي شيئا!
كان مجلس
عاطفة متقدة في ظلال الحب النبوي الشريف..
ولما انتهى
المؤتمر، وبينما أنا في الطريق إلى البيت، طالعت رسالة غاضبة من صديقٍ من خلصائي
وأصحابي الأقربين، وحاولت الاتصال به فإذا به لا يرد، وظللت أطارده يوما كي أفهم
ماذا أغضبه، وهو الذي لم أكن أتصور أن يغضب مني أصلا، فلما صفت نفسه عاتبني ولامني
أني لم أدعه إلى المؤتمر. والسبب في أني لم أدعه أني أعرف انشغاله بكتاب يؤلفه قد
استغرق كل وقته، حتى لقد امتنع معه أن يخرج إلى أي مكان، ولما كان خبر المؤتمر
شائعا ما خطر ببالي أنه لم يعرف به، وقدَّرت أن مشاغله تمنعه، فإذا به يغاضبني كل
هذا الغضب لأني لم أدعه. يقول: مثل هذا المؤتمر لا يُفَوَّت مهما كانت المشاغل!
استطعتُ في
المؤتمر أن أقتنص قبلة على يد الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وقد كنتُ أعرف منه أنه
يمانع هذا، ولكن ما إن قبلت يده حتى انكبّ بحركة مفاجئة لم أتوقعها فقبَّل يدي!!
فكاتمت دموعي وأنا أرى الرجل الممتلئ علما قد سال تواضعا!
قد كان يوم
المؤتمر هذا يوما فارقا، ما أحسبه يُنسَى أبدا، وأسأل الله تعالى الذي أنعم علينا
فجعلنا في هذا الأمر، أن يتم نعمته علينا فيجعلنا أهلا له، وأن يجبر كسرنا
وتقصيرنا، وأن يعفو عن خطئنا وزللنا!
ثم لا ننسى الفضل لصاحب الفكرة، فضيلة الشيخ محمد الصغير، فقد فاجأنا جميعا بهمته ونشاطه وحضور ذهنه، فوق ما نعرفه عنه من غيرة على الحق وصدع به، نسأل الله له ولنا الإخلاص والسداد والقبول.
نشر في الهيئة العالمية لنصرة النبي ﷺ
والله لقد اغرورقت عيني وكادت تسيل دموغها وانا عل مشارف نهاية المقال
ردحذفاحسن الله لكم وأجزل لكم الجزاء.