ليس من أحد
يسير في طريق الحق في هذا الزمن إلا وهو يتخوف على نفسه السجن والأسر والتعذيب،
ويكون هذا من أشد هواجسه وأدومها وأكثرها إلحاحا على نفسه!
ولا أعرف أحدا
يفضل السجن على الموت، بل كل من أعرف يفضل الموت على السجن!!
وفي ظل هذه
الهواجس يثور السؤال المتكرر: ما كان لك ولهذا؟!.. أما كان خيرا لك أن تسكت وتصمت
وتعيش مثل الناس؟!.. ماذا لو نزل بك السجن الآن، فكيف يكون حال أبيك وأمك؟ كيف
تفعل زوجك؟ كيف سيتربى أبناؤك؟!!
تلك الأسئلة
التي ينثرها الشيطان في روعك تزيد ضراوة وشراسة إذا ضاق الخناق عليك، وشعرت بالخطر..
يهرع المؤمن
ليتلو على نفسه آيات (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وأحاديث (واعلم أن الأمة
لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة
لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).. وبقدر ما في
زاد الرجل من إيمان بقدر ما يطمئن قلبه بهذه الآيات والأحاديث!
يعين على هذه
الطمأنينة أن الطغاة لا يغفرون، ولا يصدر عنهم العفو.. إن الاسم حين يسكن سجلات
الطغيان لا يُمحى.. الطاغية نفسه يخبرك ألا سبيل أمامك إلى التراجع، فلا عفو هنا
ولا توبة.. ولئن كان الطاغية يتصرف كأنه إله، فإنه لا يفكر أبدا أن يكون كالإله في
عفوه ورحمته وقبوله التوبة وإحسانه إلى التائب!
وحيث قد أغلق
الطاغية الطريق من جهته، فلم يبق أمامك -أخي الذي اختار طريق الحق- إلا أن تواصل
الطريق.. فانظر كيف كان الطاغية من أسباب الثبات والتقدم!!
فلقد أقسمتُ
أن لو كان الطغاة يغفرون ويقبلون التوبة، لعاد إليهم كثيرون.. ولكن الله ذو رحمة
بعباده الصالحين!
لكن أمرا آخر،
غير متوقع أيضا، عرفته من أسباب الثبات.. ذلك هو محنة من لم يكن له في الأمر نقير
ولا قطمير.. فإنك حين ترى السجون حافلة بمن لم يفكر يوما في المواجهة أو المقاومة،
وترى ما ينزل بهم من العذاب والنكال والإذلال، يندفع إلى رأسك فورا تفكير عنيف
يسأل مفترسا: كيف هذا؟ ولماذا؟
ثم لن تجد
جوابا إلا ما يندفع إلى قلبك بأنه: لا فرار من القدر، فما أصابك لم يكن ليخطئك،
وما أخطأك لم يكن ليصيبك.. فالقدر فوق الأسباب.. وما كل من سار في الطريق لقي
الأذى، ولا كل من ابتعد عنه نجا..
وهكذا، يكون
الفرار هو الفرار إلى الله..
تذكرتُ هذا
الأمر، إذ قرأت "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون.. وهي من أشهر
أعمال أدب السجون في العالم العربي، كتبها صاحبها عن قصة حقيقية لمعتقل قضى ثمانية
عشر عاما في سجن تزمامارت المغربي الرهيب، الذي هو علامة على عصر الملك الحسن
الثاني.
وقد شاء الله
أن تعالى، وذلك من حكمته، أن يبقى اسم تزمامارت علما على هذه الحقبة برغم كل ما
بذله ملك المغرب لمحو هذا السجن من سجلات التاريخ.. عدد من المذكرات والأفلام
الوثائقية والحلقات التلفازية التي أحيت ذكرى تزمامارت حتى صار عصيا على النسيان.
فمن لم يكن من
أهل القراءة فلقد تيسر له أن يستمع، ومن لم يكن من أهل السرد فقد تيسرت له
الدراما.. وهكذا يضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء!
وبعيدا عن
تزمامارت الآن، فإن أكثر ما جذبني في تلك الرواية أن الذين قضوا في تزمامارت
ثمانية عشر عاما لم يفكروا لا في المقاومة ولا المواجهة ولا التمرد، كانوا مجرد
جنود، وكانوا ينفذون الأوامر.. بل إن بعضهم ركب السيارات العسكرية لمجرد أن يصل
إلى المدينة أو لمجرد أنه نُسِي في إجازة سابقة، فخرج معهم لمجرد أنها وسيلة
مواصلات!!
وهكذا إذن،
شاب لا يفهم في السياسة ولا يعرف شيئا عن الدين، فهو بين مدرسته العسكرية في
أهرمومو وبين بيت الدعارة وبين بيت أهله.. وجد نفسه فجأة مدانا في محاولة انقلاب،
دفع ثمنها ثمانية عشرة سنة من عمره!
الجنون والموت
من الغيظ هو نتيجة منطقية لاختلال المنطق وانعكاس كل شيء.. وقد مات عدد منهم
بالجنون والقهر بالفعل.. ستون سجينا مات نصفهم بالفعل.
لئن كان في
مناهضة الطغاة شيء من السلوى، فهي تلك السلوى.. إن الأسير الذي أغاظهم فسجنوه ليس
مضطرا لمواجهة هذا الجنون، على الأقل هو يعرف أنه يدفع ثمن الطريق.. وتلك سلوى
عظيمة لا يعرف قدرها إلا من اصطدم لأول مرة بالفرعونية والطغيان فتفاجأ بكل هذا الطوفان
من الوحشية اللا منطقية واللا معقولة واللا مفهومة والتي لا يمكن حتى التصرف معها
بحال!
تلك العتمة
الباهرة..
لن أحدثك
كثيرا عنها، فإنها من أشهر الروايات، وستجد آلاف المراجعات والمقالات المنشورة
عنها.. يهمني أن أشير إلى ما أرى أنه يغيب ذكره..
كنت قد حدثتك
أخي القاريء، وربما تكون مللت مني في هذا، أن أدب السجون من ثلاثة فروع أرشحها
دائما لمن يحبون قراءة الروايات، وهي: كتب المذكرات والسير الذاتية، كتب الرحلات
والأسفار، أدب السجون.. ذلك أنها كتب تجمع بين كونها حقيقية -لا خيالية- وبين
كونها خفيفة غير ثقيلة ولا جافة كما هي كتب العلوم الأكاديمية.
إن كتب
المذكرات تبسط لنا علوم السياسة والحرب والتاريخ والاجتماع وعلم النفس أيضا، بحسب
كاتبها.. وكتب الرحلات والأسفار تبسط لنا علوم التاريخ والحضارة والثقافة والسياسة
والاجتماع.. وأدب السجون تبسط لنا علوم النفس والاجتماع والتاريخ!
وربما أقسم أن
الذي يعكف على تلك الكتب تدبرا وتأملا، يستطيع أن يستفيد منها ما لا يستفيده
الدارس الأكاديمي الذي يقرأ تلك العلوم في أثواب صفيقة غليظة وتصنيفات صارمة جامدة
تنسف الانسجام الإنساني الكائن في تلك العلوم، فتجعلها تحليلا جافا لجزئيات متناثرة.
تلك العتمة
الباهرة.. كتاب يخوض في علم النفس فحسب!!
هو لا يهتم
بالتاريخ ولا بالحديث عن المغرب ولا الملك ولا الانقلاب وأسبابه.. إنما هو تعمق
طويل في أساليب النفس حين تواجه محنة ضخمة لا فكاك منها!!
صاحبنا صاحب
الرواية كانت له طريقته في ذلك، الاستسلام التام، النسيان التام، الطرد التام
للأفكار والماضي، الطرد التام للمستقبل، محاربة الأمل، محاربة الكراهية.. سيبذل
جهدا عظيما لكي لا يكره جلاديه، ليس من أجلهم، بل خوفا أن تكون هذه الكراهية هي
النار التي ستأكله وتقتله.. سيعكف طويلا على نفسه وتأملاته وصمته الطويل، يحاول
بذلك أن ينسحب من نفسه ويحلق في عالم الروح.. نجح أحيانا ووصل لما يمكن أن نسميه
مقامات روحية عالية، ولما قد يسميه آخرون تهيؤات وهلاوس..
كان يلح علي
طوال القراءة في هذا النمط سؤال يقول: هل هذه أيضا هي طريقة شعوبنا المقهورة في
مواجهة محنتها؟.. إن الهرب إلى المخدرات أو إلى كرة القدم أو إلى الشهوة أو إلى
الانغماس في عمل الخير أو إلى التصوف المنسحب.. كل هذا أليس هربا؟!
أليست محاولات
التماس الأعذار للسلطة والجلادين هو هرب أيضا من مواجهة الحقيقة المرة التي يكون
الاعتراف بها محنة بلا حل؟!
هل يكون علم
النفس هو صورة مصغرة لعلم الاجتماع؟!
على كل حال،
سواءٌ أعجبتك طريقة صاحبنا هذا في مواجهة محنته أم لم تعجبك.. فالمؤكد أنك ستتوقف
طويلا أمام أنواع الموت في تزمامارت..
هناك من مات
بالإمساك، تراكمت فضلاته في جوفه، تُرك بلا علاج حتى مات.. وهناك من مات بالإسهال،
نزف كل ما في جسده حتى مات.. وهناك من مات باحتقان البول!
هناك من مات
بالطعام الجيد، فحين تحسنت الأحوال في الشهور الاخيرة -لأن نظام المغرب أُحرج
بانتشار فضيحة تزمامارت- لم يتحمل جسد أحدهم الطعام الجيد بعد ثمانية عشر عاما من
الطعام الرديء.. فمات!
وهناك من مات
من الجنون.. ومن المأساة في تزمامارت أن كلبا عضَّ أحد الجنرالات -فيما يبدو- فحكم
عليه بالسجن خمس سنوات في تزمامارت.. لم يتحمل الكلب أسابيع، زمجر وغضب أول الأمر،
ثم استكان وأنَّ وبكى ثانيا، ثم جُنَّ وهاج حتى خافه السجانون فلم يجرؤوا على
إطعامه، فمات..
وهناك أنواع
موت مبتكرة، فهناك من مات بسبب فقد الحِكاية.. كانت الحكاية سلواه، فلما مرض الذي
يحكي فسكت وغشي عليه، مات الذي فقد سلواه!!
لكن موتا
شدّني جدا.. لقد مات أحدهم من الشكّ..
في كل قصة سجن
ستجد قصة معركة بين المساجين، إن الهزيمة تثير الإحباط، وتثير الشك في الطريق،
ستقرأ قصة كهذه في كل عمل عن أدب السجون.. وفي قصتنا هنا اشتعلت مشادة بين سجينيْن
لحسين وسليم على النحو التالي:
قال لحسين
لسليم: أنت ابن زنا، أبوك نديم الملك وسميره، فلولا أنه يعرف أنك لست ابنه لتوسط
لك ليعفو عنك!
ردَّ سليم،
وقد بلغ منه الاستفزاز مبلغه، بواقعة قديمة خلاصتها أن لحسين استطاع -قبل أن يأتي
لتزمامارت- أن يلتقي بزوجته في مستشفى سجن القنيطرة، فوقع بينهما ما وقع بين الرجل
وامرأته، فحملت منه، فولدت ولدا.
لم يجد سليم
إلا أن يستفزه فيقول له: كيف تصدق أن هذا ولدك؟!.. لقد أنجبته من آخر.. ما الذي
يدريك؟!
وهنا انهار
لحسين.. لقد وقع في نفسه الشك.. ومع أن سليما بذل كل جهد فيما بعد لينزع عنه هذا
الشك وليعتذر عنه بأنها ساعة غضب قال فيها زورا، إلا أن لحسين لم يرجع عن شكه..
لقد حطم تزمامارت نفسيته، وجعلها هشة ضعيفة.. وما زال في شكه حتى مات!!
تلك الواقعة
تحديدا قد تفسر لماذا تنتشر بين شعوبنا الشائعات الفجة الحقيرة التي تضرب اطمئنان
الناس في أوثق صلاتهم الاجتماعية، إن حياتنا تحت ظل الاستبداد القاهر هي التي تنتج
شكوكا فظيعة بين الرجل وزوجه، وبين الرجل وابنه، وبين الرجل وأخيه.. ولذلك تكثر
حوادث القتل بشبهة الخيانة!!
الوضع القاهر
يهيئ النفس لتصديق كل الشكوك، فإذا كان الفقر مصحوبا بالانحلال الأخلاقي
والاجتماعي، فإنه ليس بعيدا أن تكون الجرائم والفواحش هي الحلول الأقرب لتفسير كل
شيء.
قبل عقود لم
يكن سهلا تصديق أن تزني المرأة بدافع الفقر، أو بدافع الحب.. كانت المجتمعات قوية
متماسكة متعارفة.. فللمرأة آلاف السبل لتأكل دون أن تفرط في نفسها، وأمامها آلاف
الخواطر والتهديدات لو فكرت في الخروج عن النظام الاجتماعي والمخاطرة بالتفريط في
شرفها.. الآن ليس الوضع كذلك.. الآن يسهل تصديق هذا في المجتمع الذي اجتمع فيه
الفقر والانحلال.. ولهذا يسهل جدا الإيقاع بين الأسرة الواحدة، ولهذا تكثر
الجريمة، ويكثر الانتحار!!
أحد الحراس في
تزمامارت بدأ في التعاون مع السجناء، فصار يهرب لهم العقاقير المسكنة أو
الفيتامينات.. سأل أحدهم: أي نوع تريد؟ فقال السجين:
أريد أي نوع
من العقاقير فعندي كل الأوجاع
نعم.. هكذا
كان.. وهكذا هي مجتمعاتنا الآن.. نحن الآن في حاجة لأية عقاقير، ولأي نوع من
العلاج، نحن نحتاج كل التخصصات، كل المسعفين، كل الأطباء، كل علماء النفس
والاجتماع والدعاة والوعاظ والعلماء..
لقد منع عنا
الطغيان والاستبداد كل أنواع الدواء، في الوقت الذي فتح فيه علينا كل أنواع
المرض.. وصرنا نحتاج لكل قطرة جهد وكل كلمة حق وكل دعوة خير..
علينا أن
نتعامل مع أمتنا بهذه النفسية: نحن بحاجة إلى أية أنواع من العقاقير، لدينا كل
الأوجاع!!
أنا مغربي ولست من المهتمين بهذا الكاتب الفركفوني
ردحذفلكن قراءتك لروايته في هذا المقال جعلني أعيد النظر
اشتقت الى اطلالتك مع أ. محمد ناصر
عصام من بلاد المغرب
حذفالطاهر بن جلون هو كاتب فرنكفوني لكن رواياته كلها مترجمة إلى العربية وهو كاتب كفؤ بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها.
وجع مابعده وجع
ردحذفهذا حال امتنا مذ فرطنا في سيادتنا
وكأنك تصف حال كل ليبيا أيام العميل القذافي وحال برقة الأن تحت حكم العميل حفتر، أسأل الله العلي القدير أن يهيئ لبلاد المسلمين أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته.
ردحذفسقى الله أرض مصر وحفظ أهلها الكرام من كل سوء، محبكم في الله من بنغازي ليبيا
نحتاج لكل العقاقير ولاي عقار ، وسينفعنا ايها لأننا اصبحنا نحمل كل الامراض
ردحذفإذا غاب الجهاد ، ذلت الأعناق ، وضاقت الأرزاق ، واستبيحت البلاد ، وانتهكت الأعراض ، وتسلط الأعداء ، ونجم النفاق ، وانتزى الطغاة ، وتطاول الفساق ، وماتت الشرائع ، واندرست السنن ، وطغت البدع ، وضاعت الأمم ، وانحرفت الهمم .
ردحذفجهاد من؟!!!
ردحذفجهاد الحاكم الخائن الفاجر أم جهاد الغرب المحتل الكافر أم جهاد الجهل المنتشر القاهر ؟!!!!
أنت في مرحلة الضعف، والغالب أقوى منك والجهاد بدون قادة و بدون حكمة وتاطير وتأسيس واعداد العدة، يرجع عليك بالنقمة. ورحم الله الألباني على كلمة قالها (بعض الشر اهون من بعضه.)
ولنا في رسول الله عبرة
بدأ بالدعوة أولا قبل الجهاد أي أن الوعي هو منبت البنيان والقوة قبل الجهاد الذي تقصد.
لم أكن أعلم بهذه الرواية الرائعة إلا حين وجدت مقالك عنها في صفحتك على الفيسبوك قبل أن يحذفوك ويمنعوك من النشر عليه(الفيس)-لغاية في نفس يعقوب!!!!!- الرواية قراتها كما قرأت لمن سبقوه في تدوين حياتهم السجنية في نفس السجن (تزمامارت الرهيب) كاحمد المرزوقي (الزنزانه رقم 10)واحمد الريس(تذكرة الذهاب والاياب الى تزمامارت)
ردحذفصاحب القصة اسمه (عبد العزيز بِينْبينْ) وكان ضابطا في تكنة اهرمومو العسكرية وتورط في انقلاب الصخيرات الأول سنة 1971 ولم يكن سوى مأمورا من الضباط الكبار، ولم يكن على علم بما يخطط له الضباط الكبار كغيره من الضباط الصغار، (اوهموهم أنها مناورة فقط) وليس انقلابا على الملك.
صاحب القصة حين دخل إلى القصر وبدأ إطلاق النار العشوائي يصب من كل جهة استفاق من الخدعة وهرب من القصر تاركا وراءه ذلك الحمام من الدم الذي ارتكبه الجنود الصغار باوامر الكبار.
لكن هربه لم يشفع له في المحاكمة وأدين كما أدين غيره كمشارك في الإنقلاب وتم رميهم في ذلك السجن الرهيب كرهبة السجَّان.
الاستاذ محمد الهامي حفظه الله اختلط عليه في الرواية اسم من كان سببا في موت الحُسين غيظا من الشك الذي رماه به المتشاجر الثاني وهو صاحب القصة (عبد العزيز بينبين) وليس (سليم).
صاحب القصة هو من كان أبوه يرافق الملك في القصر واشتهر باسم (الفقيه بينبين) وظيفته مؤنس الملك ومهرج وفكاهي ولا أدري إن كان في علم الاستاذ الهامي أنه من الصدف أن المغنية أم كلثوم هي التي كانت سببا في حظوته بهذه الوظيفة داخل القصر يرويها أحد اخوة السجين:
هذا الفقيه كان معلما للغة العربية في احدى المدارس ، وكان له حظ من العلم الشرعي في الفقه واللغة، وكان حافظا للشعر، فصادف ذات مرة أن اختير هذا الفقيه من الوفد الذي استقبل المغنية ام كلثوم التي كانت في زيارة إلى المغرب..وحين رافقها اعجبت بثقافته ولغته ومن غزارة الشعر الذي كان يحفظه، ومن فكاهته الدائمة..فما كان منها إلا أن ذكرته للملك الحسن الثاني حين التقته في تلك الزيارة فكان الحسن الثاني لا يعرفه اذاك.. فاصاب الملكَ الفضولُ في معرفة هذا الشخص الذي يحسن اللغة والأدب والشعر والفكاهة..!! فاعطى الأمر بالمناداة عليه إلى القصر فكانت تلك بداية رفقته للملك.
وقد رافقه ونادمه حتى توفي الحسن الثاني، وبعدها أحيل على التقاعد.
ما يهمني من أمر هذا الرجل هو تصرفه وردة فعله حين علم أن ابنه من المشاركين في الإنقلاب!! يذكر صاحب القصة في روايته انه ذهب إلى الملك وسجد له وتبرأ من ابنه السجين هذا امام الملك وطالبه بأن لا يرحمه..؟!!!
هنا سيقفز في ذهن القارئ أمر مهم وهو أنك ترى كيف يختار الطاغية المقربين منه وكيف يجعلهم ينسلخون حتى من الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها وهي فطرة حب الأبناء.. تجرد الفقيه من عاطفة الأبوة ليظل الخادم المخلص لولي نعمته ولو اقتضاه الأمر أن يضحي بابنه عوض أن يشفع له؟!!!!
إنها قاعدة نيل الحظوة في قصور الطغاة وهي أن يكون ولي نعمتك أحب إليك من أمك وابيك وصاحبتك وبنيك!!!
وهو شرك بالله لا شك في ذلك، حين نتصور في الملوك قداسة وانهم ليسو كباقي البشر بل فوق مرتبة البشر..!!!
صاحب القصة يروي أول لقاء له بأبيه حين خرج من السجن و ذهب به العسكر إلى بيت أبيه، فرح إخوته به إلا ابوه كان غائبا وحين عاد فوجده في البيت وعلى تلك الحالة من الهزال والمرض والانهاك التام فلم يتكلف حتى العناء ليعانق ابنه الذي لم يره لمدة 18 عاما واكتفى بأن نظر اليه كما يُنظر إلى كلب أجرب و قال له (اطلقوا سراحك إذا ؟! ) .
انظروا إلى هذه القسوة والغلظة التي تكتسي طابع المقربين من الملوك حتى على أقرب الناس اليهم إن كانو من المغضوب عليهم من طرف الملك.
ولله في خلقه شؤون!!!!!!