في هذا اليوم
(21 سبتمبر) تمر بنا عدد من الذكريات المثيرة للشؤون والشجون!!
اللهم اجعل كلامى وكتابتى خالصة لوجهك الكريم، اللهم لا تجعل لأحد سواك فيها نصيبا، اللهم طهرها من الرياء والعجب، والغرور والكبر، والعناد والانتصار للنفس، وحب الشهرة وحب المدح.. اللهم إن كان فيها الخير فيسرنى لها ويسر نشرها وقراءتها، وإن كان فيها الشر فأبعدنى عنها وعسرها لى واكتب لها الموت والفناء.. إنك نعم المولى ونعم النصير.
الثلاثاء، سبتمبر 21، 2021
في مثل هذا اليوم 21 سبتمبر
الأحد، سبتمبر 05، 2021
لو لم أكن مسلما، لوددت أن أكون مسلما
في خطابه، بتاريخ 31 أغسطس 2021 قال بايدن بأن 18 شخصا من قدماء المحاربين
ينتحرون يوميا في أمريكا!!
هذا مع أن قدماء المحاربين هؤلاء يتمتعون بالعديد من المزايا والمخصصات في
المجتمع الأمريكي، ويُنظر إليهم بنوع من التقدير والتوقير.
1. الجوع والشبع!
يبدو واضحا إذن، أن القوة المفرطة لم تجلب السعادة، وأن المحاربين القدماء
الذين لطالما تمتعوا بشعور القوة الطاغية، وأعيد تمجيدهم مرارا في الأفلام
الأمريكية، لم يحصلوا على ما يجعلهم يتمسكون بالحياة، وفضَّلوا عليها الانتحار!!
تكفي هذه الظاهرة وحدها للتعبير عن إفلاس الحداثة، وعن فقر المادية الغربية
في تلبيتها لمطالب الإنسان، بالأحرى: لمطالبه الروحية!!
لقد غذت الحداثة والمادية سائر الغرائز الإنسانية، أبو معنى أصح: الغرائز
الحيوانية، وتفننت في إشباع الشهوات: الأكل والشرب والجنس والشهرة والنفوذ والقوة
والهيمنة.. ولكنها ظلت تدفع بالناس إلى الانتحار في قوافل تزداد طولا!
سيظل الإنسان باحثا عن المعنى، عن شبع الروح، عن الطمأنينة النفسية، وتلك
أمور لا ينالها من سكن القصور الذهبية، واستطاع تدمير القرى بضغطة زر كأنه يلعب
على الكمبيوتر!!
وهذا البحث الإنساني الحثيث عن المعنى والطمأنينة هو نفسه المقاومة
الإنسانية للعلمانية والمادية، وهو نفسه الرفض الإنساني لانحصار الدين في دار
العبادة وحدها.. وكما قال المسيري: لا يمكن أن نصل إلى جيل مكتمل العلمنة لأن
طبيعة الإنسان ترفض ذلك ولا تقبله.
والانتحار هو أبلغ تعبير عن الرفض، لأنه رفضٌ تام وشامل، رفض لا يتسامح مع
العلمانية الضاغطة الغالبة، حتى مع عجزه التام عن مقاومتها.. نعم، الانتحار هروب،
وهروبٌ جبانٌ لا يليق بالإنسان الذي كرَّمه الله ومنحه قوة نفسية كما منحه نعمة
التعلق به، ولكن إذا فقد الإنسان تعلقه بالله وانهارت نفسه فسيظل إنسانا كذلك، فيه
تلك الروح التي أودعها الله فيه والتي لا تقبل أن يمسحها الجسد ويمحو وجودها، تظل
تلك الروح تقاوم، حتى إذا أفلست وعجزت ولم يكن لها من الله مدد، حملت هي هذا الجسد
إلى الانتحار ليتخلصا معا من هذه الحياة.
إن الروح الجائعة تحمل الجسد المتخم شبعا إلى الموت لأن جوعها أقوى من
شبعه، وفراغها سلطان على امتلائه!!
نعم، إن العالم يحتاج إلى الإسلام.. إلى الروح التي توصله بالله، بسر هذا
الكون، بأصل هذه الفطرة، بنور السموات والأرض!! وتبقى مهمة المسلمين في أن يزيحوا
تلك القلاع التي أنشأها الباطل لتحجب الحق عن هؤلاء البشر التعساء!
2. عودة إلى الجندي!
يبدو أنها مهما تسارعت المخترعات الحديثة وتراكمت، فإن الجندي نفسه لا يزال
هو الأساس في كل حرب. كأنما نعود لقول الشاعر
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا .. إذا لم يكن فوق الكرام كرامُ
لقد وفرت التقنيات الحديثة ما يجعل الحرب في بعض وجوهها نوعا من الألعاب
الإلكترونية، وقد تسربت مقاطع فيديو لطيارين يقصفون القرى وهم يتصايحون كأنهم في
لعبة فعلا، بينما هم يحرقون البشر حرفيا!!
لقد أتاح فارق القوة الضخم للجنود أن يهيمنوا على غيرهم من البشر، حتى
استطاعوا أن يتلاعبوا بالرجال والنساء والصبيان والفتيات، استعبادا، واغتصابا،
وتعذيبا، وقتلا.. بل تفننا في وسائل القتل!
إن التفنن في وسائل التعذيب والقتل هو نفسه تعبير عن طغيان شهوة السلطة
والهيمنة، إنها البذرة الفرعونية التي يحملها الإنسان، فإذا كان فاسدا تضخمت
وتكثفت حتى صارت أسوأ من الشيطان، فلم يجرؤ الشيطان أن يقول: أنا ربكم الأعلى،
ولكن جرأ عليها فرعون من بني البشر!
وإذن، تحقق الطغيان للجندي، وفعل بعدوه المقهور ما شاء.. ولكن قوته النفسية
ظلت هشة وضعيفة ومعرضة للانكسار والتحطم.. لقد وفرت له الآلة قوة جسمية مفرطة،
ولكنها لم توفر له أية قوة نفسية!!
ترى كم رجلا في حركة مقاومة سواء في أفغانستان أو العراق أو غيرها انتهى
أمره بالانتحار؟!
سيظل الإنسان هو العنصر الذي تتوقف عليه مصائر الحروب، فالآلات العمياء
مهما توحشت وأمطرت حممها على الناس، فهي عاجزة أن تروي صاحبها بقطرة من الطمأنينة!
3. لماذا ينتحرون؟
إذا كان الجندي قد أشبع شهوته من القوة والطغيان والهيمنة.. فلماذا إذن
ينتهي شأنه بالانتحار؟!!
ربما يكون هذا عذاب الضمير؟
وربما يكون خوفا متمكنا نتج عن معارك ضارية نجا منها بأعجوبة؟
ويقول المتدينون: ربما يكون هذا هو الدعاء، دعاء المظلوم الذي أقسم الله
ليستجيبن له ولو بعد حين.
فلئن كان هذا هو عذاب الضمير فقد تبيّن أن الظلم والتجبر ليس علاجا، بل هو
ينقلب على صاحبه يوما ما، حتى لو كان هذا بعد خروجه على المعاش! فالمظلوم لم تنته
قصته بالموت أو الأسر، بل لقد ترك طعنة غائرة في ضمير ظالمه ستقتله ولو بعد حين!
ولئن كان هذا خوفا سكنه وانبعث فيه جراء المعارك الضارية، فقد تبين إذن أن
المظلوم الذي يُقاوم الاحتلال قادر على إصابة المحتل الظالم في كل الأحوال، فإما
أصابه في جسده، وإما ترك شيئا من الرعب في قلبه، لا يزال يفزعه من نومه، ويؤرقه في
نهاره حتى يقضي عليه!
ولئن كان هذا هو إجابة الله للدعاء، فما يزيدنا هذا إلا إيمانا وتسليما!!
في كل الأحوال: المقاومة مثمرة.. منها ما ثمرته عاجلة، ومنها ثمرة آجلة.
فلا يحسبن الظالم ولا المظلوم أن القصة انتهت، فليس ثمة قصة قصيرة، بل هي
قصة طويلة.. وما لا ينتهي منها في الدنيا فسينتهي منها يوم القيامة.
4. الحساب المنقوص
إذا كان المنتحرون 18 يوميا، أي أنهم يصلون إلى 6570 في السنة الواحدة..
ونحن لا ندري على وجه التحديد كم سنة حصل فيها هذا التعداد، فلو أنه حصل في سنتين
لكان المنتحرون أكثر من 13 ألفا، ولو أنه كان في عشر سنوات لكان المنتحرون 65
ألفا!!
ثم هؤلاء في أمريكا وحدها، بخلاف بقية الدول التي قاتلتنا في أراضينا.
وهذا بخلاف من لم تصل أمراضهم النفسية إلى الانتحار.. ثم هو بخلاف القتلى
والجرحى.
إن هذا الرقم الضخم لا يوضع حقيقة في حساب الخسائر العسكرية.. ولكنه إذا
وُضِع فسيظهر أن فارق التكنولوجيا الضخم الهائل بين الأفغان وبين الحلف الدولي ذي
الثماني والثلاثين دولة لم يؤد إلى فارق مكافئ في الخسائر والمكاسب.
إننا أمام مشهد يتجسد فيه قول الله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم)
وإذا كان الأفغان قد فعلوا هذا وحدهم، بل فعله شطر منهم.. فكيف إذا كانت
الأمة كلها في حال مقاومة وثورة وكفاح؟! ترى كم نستطيع أن نبلغ منهم؟!
إن الأمريكان إذن ليسوا بهذه الضخامة ولا بهذا الطغيان الذي نتصوره.. إن
هزيمتهم ممكنة أقرب مما نتصور!!
إن هذا الرقم يجب أن يوضع في حساب الفقيه عندما يقيس المصالح والمفاسد، قبل
أن يكون هو بفتواه سببا في إذلال الأمة.. كما قال علي رضي الله عنه "الناس من
خوف الذل في ذل.. والناس من خوف الفقر في فقر"
وهو القول الذي صاغه الشهيد سيد قطب حين تكلم عن ثمة العبودية، وأن الذين
يقبلون بها خوفا من تكاليف الحرية يدفعون فيها أعلى مما يدفعه الأحرار من الثمن!
آيتان في سورة النساء ذكر الله فيهما ضعف الباطل وبأسه.. قال تعالى
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت،
فقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفا)
(فقاتل في سبيل الله، لا تكلف إلا نفسك، وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف
بأس الذين كفروا، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا)
فكأنه جل وعلا يخبرنا أن الكيد ضعيف وإن كانوا ذوي بأس.. وحتى بأسهم هذا
فإنه ضئيل أمام بأس الله وتنكيله!
لا بد من تثوير تلك المعاني ونشرها وبثها في أمتنا، أمتنا المحبوسة في
حظائرها التي تسمى أوطانا، الحظائر المغلقة بمن يدعون حكاما.. أمتنا التي تمزقت
حتى صار لا يشعر أحدهم بالآخر وقد كانوا جسدا واحدا إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد!
إن أمتنا الممزقة تثبت لنا أن أشلاءها يمكن أن تقاوم، هذه أفغانستان قاومت
حتى انتصرت بعد عشرين سنة وصارت رعبا وعذابا ينتحر لأجله حتى من نجا منها بنفسه!
وهذا الشام الباسل الصامد وقف وحده أمام الجيوش والصواريخ والبراميل وكيد
الشرق والغرب.. ومنطقة صغيرة لا تكاد ترى على الخريطة مثل درعا توقفت على بابها
قوى كبرى شهورا، ودرعا محاصرة بلا مدد!!
إذا كانت أشلاؤنا وهي ممزقة قادرة على أن تقاوم بهذه البسالة.. فكيف يكون
حال الجسد إذا اتصل فقام وثار.. أكاد أتصور الرعب الذي يسكن أعداء الأمة إذا دار
هذا المشهد في خيالهم!!
إن الذي يشرق بشربة الماء كيف يتصور أن يشرب النهر، وإن الذي صابر عشرين
سنة فعجز عن ابتلاع عظمة فلفظها وهرب منها كيف يتصور أن يأكل الأسد؟!!
لو لم أكن مسلما، لوددت أن أكون مسلما!
الجمعة، سبتمبر 03، 2021
تلك العتمة الباهرة
ليس من أحد
يسير في طريق الحق في هذا الزمن إلا وهو يتخوف على نفسه السجن والأسر والتعذيب،
ويكون هذا من أشد هواجسه وأدومها وأكثرها إلحاحا على نفسه!
ولا أعرف أحدا
يفضل السجن على الموت، بل كل من أعرف يفضل الموت على السجن!!
وفي ظل هذه
الهواجس يثور السؤال المتكرر: ما كان لك ولهذا؟!.. أما كان خيرا لك أن تسكت وتصمت
وتعيش مثل الناس؟!.. ماذا لو نزل بك السجن الآن، فكيف يكون حال أبيك وأمك؟ كيف
تفعل زوجك؟ كيف سيتربى أبناؤك؟!!
تلك الأسئلة
التي ينثرها الشيطان في روعك تزيد ضراوة وشراسة إذا ضاق الخناق عليك، وشعرت بالخطر..
يهرع المؤمن
ليتلو على نفسه آيات (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وأحاديث (واعلم أن الأمة
لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة
لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).. وبقدر ما في
زاد الرجل من إيمان بقدر ما يطمئن قلبه بهذه الآيات والأحاديث!
يعين على هذه
الطمأنينة أن الطغاة لا يغفرون، ولا يصدر عنهم العفو.. إن الاسم حين يسكن سجلات
الطغيان لا يُمحى.. الطاغية نفسه يخبرك ألا سبيل أمامك إلى التراجع، فلا عفو هنا
ولا توبة.. ولئن كان الطاغية يتصرف كأنه إله، فإنه لا يفكر أبدا أن يكون كالإله في
عفوه ورحمته وقبوله التوبة وإحسانه إلى التائب!
وحيث قد أغلق
الطاغية الطريق من جهته، فلم يبق أمامك -أخي الذي اختار طريق الحق- إلا أن تواصل
الطريق.. فانظر كيف كان الطاغية من أسباب الثبات والتقدم!!
فلقد أقسمتُ
أن لو كان الطغاة يغفرون ويقبلون التوبة، لعاد إليهم كثيرون.. ولكن الله ذو رحمة
بعباده الصالحين!
لكن أمرا آخر،
غير متوقع أيضا، عرفته من أسباب الثبات.. ذلك هو محنة من لم يكن له في الأمر نقير
ولا قطمير.. فإنك حين ترى السجون حافلة بمن لم يفكر يوما في المواجهة أو المقاومة،
وترى ما ينزل بهم من العذاب والنكال والإذلال، يندفع إلى رأسك فورا تفكير عنيف
يسأل مفترسا: كيف هذا؟ ولماذا؟
ثم لن تجد
جوابا إلا ما يندفع إلى قلبك بأنه: لا فرار من القدر، فما أصابك لم يكن ليخطئك،
وما أخطأك لم يكن ليصيبك.. فالقدر فوق الأسباب.. وما كل من سار في الطريق لقي
الأذى، ولا كل من ابتعد عنه نجا..
وهكذا، يكون
الفرار هو الفرار إلى الله..
تذكرتُ هذا
الأمر، إذ قرأت "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون.. وهي من أشهر
أعمال أدب السجون في العالم العربي، كتبها صاحبها عن قصة حقيقية لمعتقل قضى ثمانية
عشر عاما في سجن تزمامارت المغربي الرهيب، الذي هو علامة على عصر الملك الحسن
الثاني.
وقد شاء الله
أن تعالى، وذلك من حكمته، أن يبقى اسم تزمامارت علما على هذه الحقبة برغم كل ما
بذله ملك المغرب لمحو هذا السجن من سجلات التاريخ.. عدد من المذكرات والأفلام
الوثائقية والحلقات التلفازية التي أحيت ذكرى تزمامارت حتى صار عصيا على النسيان.
فمن لم يكن من
أهل القراءة فلقد تيسر له أن يستمع، ومن لم يكن من أهل السرد فقد تيسرت له
الدراما.. وهكذا يضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء!
وبعيدا عن
تزمامارت الآن، فإن أكثر ما جذبني في تلك الرواية أن الذين قضوا في تزمامارت
ثمانية عشر عاما لم يفكروا لا في المقاومة ولا المواجهة ولا التمرد، كانوا مجرد
جنود، وكانوا ينفذون الأوامر.. بل إن بعضهم ركب السيارات العسكرية لمجرد أن يصل
إلى المدينة أو لمجرد أنه نُسِي في إجازة سابقة، فخرج معهم لمجرد أنها وسيلة
مواصلات!!
وهكذا إذن،
شاب لا يفهم في السياسة ولا يعرف شيئا عن الدين، فهو بين مدرسته العسكرية في
أهرمومو وبين بيت الدعارة وبين بيت أهله.. وجد نفسه فجأة مدانا في محاولة انقلاب،
دفع ثمنها ثمانية عشرة سنة من عمره!
الجنون والموت
من الغيظ هو نتيجة منطقية لاختلال المنطق وانعكاس كل شيء.. وقد مات عدد منهم
بالجنون والقهر بالفعل.. ستون سجينا مات نصفهم بالفعل.
لئن كان في
مناهضة الطغاة شيء من السلوى، فهي تلك السلوى.. إن الأسير الذي أغاظهم فسجنوه ليس
مضطرا لمواجهة هذا الجنون، على الأقل هو يعرف أنه يدفع ثمن الطريق.. وتلك سلوى
عظيمة لا يعرف قدرها إلا من اصطدم لأول مرة بالفرعونية والطغيان فتفاجأ بكل هذا الطوفان
من الوحشية اللا منطقية واللا معقولة واللا مفهومة والتي لا يمكن حتى التصرف معها
بحال!
تلك العتمة
الباهرة..
لن أحدثك
كثيرا عنها، فإنها من أشهر الروايات، وستجد آلاف المراجعات والمقالات المنشورة
عنها.. يهمني أن أشير إلى ما أرى أنه يغيب ذكره..
كنت قد حدثتك
أخي القاريء، وربما تكون مللت مني في هذا، أن أدب السجون من ثلاثة فروع أرشحها
دائما لمن يحبون قراءة الروايات، وهي: كتب المذكرات والسير الذاتية، كتب الرحلات
والأسفار، أدب السجون.. ذلك أنها كتب تجمع بين كونها حقيقية -لا خيالية- وبين
كونها خفيفة غير ثقيلة ولا جافة كما هي كتب العلوم الأكاديمية.
إن كتب
المذكرات تبسط لنا علوم السياسة والحرب والتاريخ والاجتماع وعلم النفس أيضا، بحسب
كاتبها.. وكتب الرحلات والأسفار تبسط لنا علوم التاريخ والحضارة والثقافة والسياسة
والاجتماع.. وأدب السجون تبسط لنا علوم النفس والاجتماع والتاريخ!
وربما أقسم أن
الذي يعكف على تلك الكتب تدبرا وتأملا، يستطيع أن يستفيد منها ما لا يستفيده
الدارس الأكاديمي الذي يقرأ تلك العلوم في أثواب صفيقة غليظة وتصنيفات صارمة جامدة
تنسف الانسجام الإنساني الكائن في تلك العلوم، فتجعلها تحليلا جافا لجزئيات متناثرة.
تلك العتمة
الباهرة.. كتاب يخوض في علم النفس فحسب!!
هو لا يهتم
بالتاريخ ولا بالحديث عن المغرب ولا الملك ولا الانقلاب وأسبابه.. إنما هو تعمق
طويل في أساليب النفس حين تواجه محنة ضخمة لا فكاك منها!!
صاحبنا صاحب
الرواية كانت له طريقته في ذلك، الاستسلام التام، النسيان التام، الطرد التام
للأفكار والماضي، الطرد التام للمستقبل، محاربة الأمل، محاربة الكراهية.. سيبذل
جهدا عظيما لكي لا يكره جلاديه، ليس من أجلهم، بل خوفا أن تكون هذه الكراهية هي
النار التي ستأكله وتقتله.. سيعكف طويلا على نفسه وتأملاته وصمته الطويل، يحاول
بذلك أن ينسحب من نفسه ويحلق في عالم الروح.. نجح أحيانا ووصل لما يمكن أن نسميه
مقامات روحية عالية، ولما قد يسميه آخرون تهيؤات وهلاوس..
كان يلح علي
طوال القراءة في هذا النمط سؤال يقول: هل هذه أيضا هي طريقة شعوبنا المقهورة في
مواجهة محنتها؟.. إن الهرب إلى المخدرات أو إلى كرة القدم أو إلى الشهوة أو إلى
الانغماس في عمل الخير أو إلى التصوف المنسحب.. كل هذا أليس هربا؟!
أليست محاولات
التماس الأعذار للسلطة والجلادين هو هرب أيضا من مواجهة الحقيقة المرة التي يكون
الاعتراف بها محنة بلا حل؟!
هل يكون علم
النفس هو صورة مصغرة لعلم الاجتماع؟!
على كل حال،
سواءٌ أعجبتك طريقة صاحبنا هذا في مواجهة محنته أم لم تعجبك.. فالمؤكد أنك ستتوقف
طويلا أمام أنواع الموت في تزمامارت..
هناك من مات
بالإمساك، تراكمت فضلاته في جوفه، تُرك بلا علاج حتى مات.. وهناك من مات بالإسهال،
نزف كل ما في جسده حتى مات.. وهناك من مات باحتقان البول!
هناك من مات
بالطعام الجيد، فحين تحسنت الأحوال في الشهور الاخيرة -لأن نظام المغرب أُحرج
بانتشار فضيحة تزمامارت- لم يتحمل جسد أحدهم الطعام الجيد بعد ثمانية عشر عاما من
الطعام الرديء.. فمات!
وهناك من مات
من الجنون.. ومن المأساة في تزمامارت أن كلبا عضَّ أحد الجنرالات -فيما يبدو- فحكم
عليه بالسجن خمس سنوات في تزمامارت.. لم يتحمل الكلب أسابيع، زمجر وغضب أول الأمر،
ثم استكان وأنَّ وبكى ثانيا، ثم جُنَّ وهاج حتى خافه السجانون فلم يجرؤوا على
إطعامه، فمات..
وهناك أنواع
موت مبتكرة، فهناك من مات بسبب فقد الحِكاية.. كانت الحكاية سلواه، فلما مرض الذي
يحكي فسكت وغشي عليه، مات الذي فقد سلواه!!
لكن موتا
شدّني جدا.. لقد مات أحدهم من الشكّ..
في كل قصة سجن
ستجد قصة معركة بين المساجين، إن الهزيمة تثير الإحباط، وتثير الشك في الطريق،
ستقرأ قصة كهذه في كل عمل عن أدب السجون.. وفي قصتنا هنا اشتعلت مشادة بين سجينيْن
لحسين وسليم على النحو التالي:
قال لحسين
لسليم: أنت ابن زنا، أبوك نديم الملك وسميره، فلولا أنه يعرف أنك لست ابنه لتوسط
لك ليعفو عنك!
ردَّ سليم،
وقد بلغ منه الاستفزاز مبلغه، بواقعة قديمة خلاصتها أن لحسين استطاع -قبل أن يأتي
لتزمامارت- أن يلتقي بزوجته في مستشفى سجن القنيطرة، فوقع بينهما ما وقع بين الرجل
وامرأته، فحملت منه، فولدت ولدا.
لم يجد سليم
إلا أن يستفزه فيقول له: كيف تصدق أن هذا ولدك؟!.. لقد أنجبته من آخر.. ما الذي
يدريك؟!
وهنا انهار
لحسين.. لقد وقع في نفسه الشك.. ومع أن سليما بذل كل جهد فيما بعد لينزع عنه هذا
الشك وليعتذر عنه بأنها ساعة غضب قال فيها زورا، إلا أن لحسين لم يرجع عن شكه..
لقد حطم تزمامارت نفسيته، وجعلها هشة ضعيفة.. وما زال في شكه حتى مات!!
تلك الواقعة
تحديدا قد تفسر لماذا تنتشر بين شعوبنا الشائعات الفجة الحقيرة التي تضرب اطمئنان
الناس في أوثق صلاتهم الاجتماعية، إن حياتنا تحت ظل الاستبداد القاهر هي التي تنتج
شكوكا فظيعة بين الرجل وزوجه، وبين الرجل وابنه، وبين الرجل وأخيه.. ولذلك تكثر
حوادث القتل بشبهة الخيانة!!
الوضع القاهر
يهيئ النفس لتصديق كل الشكوك، فإذا كان الفقر مصحوبا بالانحلال الأخلاقي
والاجتماعي، فإنه ليس بعيدا أن تكون الجرائم والفواحش هي الحلول الأقرب لتفسير كل
شيء.
قبل عقود لم
يكن سهلا تصديق أن تزني المرأة بدافع الفقر، أو بدافع الحب.. كانت المجتمعات قوية
متماسكة متعارفة.. فللمرأة آلاف السبل لتأكل دون أن تفرط في نفسها، وأمامها آلاف
الخواطر والتهديدات لو فكرت في الخروج عن النظام الاجتماعي والمخاطرة بالتفريط في
شرفها.. الآن ليس الوضع كذلك.. الآن يسهل تصديق هذا في المجتمع الذي اجتمع فيه
الفقر والانحلال.. ولهذا يسهل جدا الإيقاع بين الأسرة الواحدة، ولهذا تكثر
الجريمة، ويكثر الانتحار!!
أحد الحراس في
تزمامارت بدأ في التعاون مع السجناء، فصار يهرب لهم العقاقير المسكنة أو
الفيتامينات.. سأل أحدهم: أي نوع تريد؟ فقال السجين:
أريد أي نوع
من العقاقير فعندي كل الأوجاع
نعم.. هكذا
كان.. وهكذا هي مجتمعاتنا الآن.. نحن الآن في حاجة لأية عقاقير، ولأي نوع من
العلاج، نحن نحتاج كل التخصصات، كل المسعفين، كل الأطباء، كل علماء النفس
والاجتماع والدعاة والوعاظ والعلماء..
لقد منع عنا
الطغيان والاستبداد كل أنواع الدواء، في الوقت الذي فتح فيه علينا كل أنواع
المرض.. وصرنا نحتاج لكل قطرة جهد وكل كلمة حق وكل دعوة خير..
علينا أن
نتعامل مع أمتنا بهذه النفسية: نحن بحاجة إلى أية أنواع من العقاقير، لدينا كل
الأوجاع!!