الخميس، مارس 04، 2021

مأزق في تجربة أربكان: العلاقة مع إسرائيل


 

 في ظل أسبوع أربكان الذي يهتم له الإسلاميون في تركيا، وجدتني غير مرة مسؤولا عن موقف أربكان من إسرائيل والصهيونية.

1. بداية، يحسن أن نتذكر ما قاله كيسنجر في مقاله الذي أشرت إليه قبل يومين، من أن السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط طوال نصف قرن عملت ضمن محددات أمنية ثلاثة: منع ظهور أي زعامة في المنطقة، تأمين تدفق النفط للغرب، إقامة السلام مع إسرائيل.

2. في هذا القرن الماضي تحولت دولتان في الشرق الأوسط تحولا جذريا:

- إيران (1979م)

- تركيا (1924) ثم (1950) ثم (1990) ثم رحلة التغير التدريجي التي بدأها أردوغان منذ (2002م).

ومن ثَمَّ، فلا بد من استحضار هذه التواريخ عند قراءة أي بحث في تاريخ العلاقات الدولية في المنطقة.

ما قبل (1979م) كانت الدولتان بمثابة الخط الأمريكي المتقدم لمواجهة الاتحاد السوفيتي، وحبسه عن التمدد إلى منطقة الخليج والشمال الإفريقي، وفي ظل هذا الوضع يمكن تفسير انضمام تركيا إلى الناتو وما استقبلته من مساعدات عسكرية متميزة من أمريكا وإسرائيل ومساعدات اقتصادية من أمريكا والغرب، ويمكن تفسير بدء الشاه الإيراني مشروعه النووي.

وبينما هيمن نظام ديكتاتوري مستبد على إيران، هيمن نظام ديمقراطي شكلي على تركيا.. ومن جرَّاء هذا أن انفجرت الثورة في وجه الاستبداد بثورة الخميني وحصل التحول الجذري، بينما امتصَّت الديمقراطية في تركيا حالة الرفض، فصار الذين يريدون التغيير منخرطين في سياق ديمقراطي، فينجحون في الانتخابات ثم يأتيهم انقلاب عسكري، ثم يرجع العسكر للثكنات بعد وضع دستور يعيق الإسلاميين، ثم يتغلبون فيعودون، فيعود العسكر.. وهكذا.

3. عند نهاية السبعينات، في هذا العام الخطير (1979م) بدا وكأن الإسلاميون سيكتسحون كل شيء، عقد السبعينات شهد صحوة إسلامية عامة، خُتِمتْ بهذا العام الذي وقعت فيه:

- حادثة جهيمان بعد موجة تغريب كانت تنفذه الحكومة السعودية، ثم استفاقت به فعادت وتدثرت بالثوب الديني شكليا واجتماعيا!

- بدأت فيه الحرب الأفغانية بعد نزول الروس لدعم صنائعهم الشيوعيين الذين انهاروا أمام موجة إسلامية

- نجح الخميني في ثورة إسلامية في اقتلاع واحد من أعتى الحُكَّام المتغربين في إيران

- وأما في تركيا فقد حشد أربكان في نفس هذا العام مؤتمرا حاشدا يختلف الناس في تقدير أعداد المشاركين فيه، وبدا أن تركيا على وشك ميلاد ثورة، وأن أربكان سيكرر الخميني، وهو ما أسرع إليه العسكر الأتراك بأكثر انقلاباتهم دموية في (1980م) بزعامة كنعان إيفرن.

4. عند عام 1990 انهار الاتحاد السوفيتي، وهنا استفاقت تركيا على أن الغرب لم يعد يريد منها شيئا ولا يحفل منها بشيء، بدا هذا في عدد من المواقف والتصريحات بخصوص الانضمام للاتحاد الأوروبي، وبخصوص قضية الأكراد. كذلك ساهم انهيار الاتحاد السوفيتي في فتح الآفاق أمام السياسة التركية في مجالات طبيعية تمثل عمقها الاستراتيجي في البلقان ووسط آسيا والعالم العربي.

ما يهمنا في سياقنا الآن، أن تركيا تحولت لتنظر وتنخرط في الشرق الأوسط، ومن بين هذا التحول تعزيز العلاقة مع إسرائيل (تركيا اعترفت بإسرائيل عام 1949 وكانت أول دولة إسلامية تفعلها).

إذا حاولنا تأمل الموقف سنجد عددا من وجوه الاتفاق بين الدولتين: كلاهما يعادي العالم العربي ولديه مشكلات مع إيران وسوريا والعراق. كلاهما علماني ديمقراطي، كلاهما يرى نفسه جزءا من الغرب المتقدم ضد الشرق المتخلف، وفضلا عن هذه التصورات والمصالح المشتركة، فإن إسرائيل كانت الباب المناسب للأتراك لكي يحصلوا على السلاح والتكنولوجيا الغربية التي توقفت مع انتهاء صلاحية تركيا كحليف بانهيار الاتحاد السوفيتي، وبروز المشكلات بينهما.

5. شهدت الفترة من 1991 وحتى 1996 ذروة العلاقات التركية الإسرائيلية، ووقعت اتفاقيات تعاون عسكري بري وبحري وجوي، وأهم منها: اتفاقيات التدريب المشترك، وتبادل المعلومات الاستخبارية وغير ذلك.. ووصلت الزيارات المتبادلة على مستوى الوزراء والرؤساء.

حدث كل هذا عشية تولي أربكان رئاسة الحكومة التركية!!

كانت تركيا ذات نظام برلماني، قائم على التحالف بين الأحزاب الفائزة في البرلمان، وإذا لم يحقق حزبٌ ما فوزا حاسما فالحكومة ستكون ائتلافية، وعند أي مطبّ ينهار الائتلاف والحكومة ليأتي ائتلاف جديد وحكومة جديدة. وقد حصل هذا بالفعل مع الائتلاف الحاكم فجاء التحالف الجديد بين حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيلار وحزب الرفاه بزعامة أربكان.. وصار أربكان رئيسا للوزراء.

لئن كنتَ تتذكر الصعقة الكهربائية التي سرت في عالم السياسة حين جاء مرسي رئيسا، فاعلم أن هذه الصعقة كانت أضعاف ذلك عند مجيئ أربكان رئيسا للحكومة، أعتى الطغاة عندنا -من محمد علي إلى عبد الناصر- لم يجرؤوا على حرب الدين صراحة وجهارا. بينما في تركيا جاء إسلامي إلى بلد أتاتورك!!

6. ولكن الذي يهمنا الآن من هذا كله، أن نتصور المأزق الذي كان فيه أربكان:

أربكان كان الصوت السياسي الوحيد الذي يناهض الصهيونية وإسرائيل، ويُشَنِّع على السياسة التركية تجاهها في كل محفل، ويبني جماهيريته وقواعده الانتخابية على أساس إسلاميته وتعبيره عن الطموحات الطبيعية للشعب التركي المسلم، فكان هذا الملف (العلاقة مع إسرائيل) من أحرج الملفات.

حليفته في الائتلاف الحكومي هي نفسها وزيرة الخارجية التركية التي زارت إسرائيل وأتمَّت معها الاتفاقيات التعاونية التي مثلت ذروة العلاقة الإسرائيلية التركية.. وهي شريكته في الحكم وفي رسم السياسة.

العسكر التركي هم في تلك اللحظة أكثر ارتباطا بإسرائيل من أي وقت آخر، بعد أن تعززت هذه العلاقة في السنوات الخمس السابقة وانتهت إلى هذه الاتفاقيات المذكورة. فضلا عن العلمانية التي يعتنقها العسكر هناك، ليس يعتنقونها فقط، بل يرون أنفسهم حراسها وحماتها ولهم الحق الأصيل في الانقلاب على من يرون أنه يهددها.

وعشية انتقال رئاسة الحكومة إلى أربكان كان الرئيس الإسرائيلي عيرزا وايزمان يزور تركيا ليتحقق ويتأكد من نفاذ بنود الاتفاقيات الموقَّعة، والتي كانت تمثل مكسبا إسرائيليا استراتيجيا.

والعالم العربي وإيران، حيث يودّ أربكان أن ينسج معهم علاقات جديدة ومتينة تشمله حالة من السخط على هذه الاتفاقيات التي هي ضرر مباشر محقق بسوريا والعراق وإيران، وضرر أقل مباشرة بمصر وفلسطين وبقية الخليج.

ثم لا تنس الأمريكان والأوربيين من وراء هؤلاء جميعا..

كان على أربكان أن يتعامل مع هذا الوضع: بداية من أنصاره الذين انتخبوه وهو يكافح الصهيونية، وحتى القطب الأوحد الذي قرر أن يراقب متحفزا ومتربصا: ماذا سيفعل الإسلامي التركي حين يأتي بالديمقراطية!

في النهاية كانت قصة أربكان قصيرة كما يعرف الجميع، ثمانية أشهر في الحكم عمليا، سنة واحدة رسميًّا، حاول فيها أربكان جهده أن يتعامل مع هذا الملف بمحصل الضغوط فيه، اضطر إلى توقيع الاتفاقيات مع إسرائيل وحاول شرح مبرراته بلغة سياسية محفوفة بالمحاذير، وانطلق في حملة علاقات هائلة لتنفيذ فكرة مشروع الدول الثماني الإسلامية والسوق الإسلامية المشتركة، عرقل ما استطاع تنفيذ بعض البنود.. وانتهى الأمر بالصورة المعروفة.

الجنرال شفيق بير، نائب رئيس الأركان التركي، الرجل الثاني في الجيش، مهندس العلاقات العسكرية الإسرائيلية التركية، كتب مقالا مشتركا مع إسرائيلي (نسيت اسمه الآن) في دورية أمريكية (إن لم تخني الذاكرة فهي دورية فورين بوليسي = الشؤون الخارجية، خريف 1997) بعنوان: إسرائيل وتركيا معادلة السلام. يقول فيه صراحة: لقد أبلغ الجيشُ أربكان أنه لن يجلس متفرجا إذا حاول أربكان تهديد هذه العلاقة.

7. على كل حال، أربكان في هذا الموقف يشبه كثيرا الرئيس الشهيد مرسي رحمه الله، وقد تشابهت النهايات بالانقلاب العسكري. لتظل السياسة الأمريكية ناجحة في أهدافها الثلاثة كما صاغها كيسنجر:

منع ظهور أي زعامة بالمنطقة + تدفق النفط الخليجي + السلام مع إسرائيل

8. لماذا أكتب هذا الآن؟

والجواب: لقد كان في ذهني منذ فترة أن أكتبه، ولم يتسع الوقت، حتى أثاره عندي مجددا أن طُلِب مني الحديث فيه على قناة القدس التركية، في أسبوع وفاة أربكان، فلم يتسع وقتُ البرنامج لقول ما أريد كله، ثم قلتُ: لعلها فرصة لنشره مكتوبا من بعد تأجيل وتسويف.

رحم الله أربكان ومرسي، ووفق أردوغان لما يحب ويرضى، ورزقنا وإياكم العمل على بصيرة والاستفادة من تجارب التاريخ.

وهذه الصورة المرفقة من لقائي السالف ذكره. ولا يغرنَّكم أني كنت مُتْعَبًا وشبه نائم :) فإنما نتكلم ونحن نيام :)

هناك تعليق واحد:

  1. أخي لم تشبه أربكان ب مرسي؟
    بعد ماكتبته انت عما فعله اربكان فليس هناك وجه للشبه بين مافعلوه بالذات في العلاقة مع دولة الاحتلال وهم في سدة الحكم

    ردحذف