تقديمٌ لكتاب "مما قرأت" للصديق الأستاذ أحمد حمدان
رابط تحميل الكتاب: https://t.me/ibn889/196
فاجأني صديق
ظريف ذات يوم على صفحته في الفيس بوك بقوله:
"قال
الذي اخترع المسدس: الآن لم يعد من فارق بين الجبان والشجاع! وقال الذي اخترع
الفيس بوك: الآن لم يعد من فارق بين الحمار والفيلسوف"!!
عبارة لاذعة
في توصيف معنى انحلال العلم، حيث صار لكل قائل منبر، وصار لكل قولٍ مُعْجَبون ومشجعون،
ولربما كتب المرء كلمة على سبيل المزاح أو كزفرة غضب وهو يعلم أنها نوع من
المبالغة والزفرة، فإذا بالتعليقات المؤيدة والمستحسنة –بل والمهاجِمة- تجعل هذه
الكلمة نظرية فكرية ومذهبا اجتماعيا، فإذا بالذي قالها يعتقد في نفسه أنه ينطق
بالحكمة ويقول ما يطرب له الناس ويحسب أنهم مفتقدون لذكائه مفتقرون لحكمته متشوفون
لزعامته! وبهذا يولد فيلسوف جديد من لحظة مزاح أو لحظة غضب!
وهكذا كثر
الفلاسفة في زماننا!!
لكن: متى بدأت
ظاهرة "انحلال العلم"؟ ومتى بزغت الفوضى في إبداء الرأي والنظر قبل
التأهل الواجب لهذا؟
كالعادة ستختلف
الإجابات عند الحديث عن بذرة أي ظاهرة تاريخية، حتى لقد سادت بين المؤرخين مزحة
تقول: "يقول المؤرخ كانت بداية الظاهرة الفلانية في العام كذا، فيستدرك آخر
فيقول: بل جذورها موجودة قبل هذا في العام كذا، فيستدرك ثالث ويقول: بل بذورها
موجودة قبل ذلك في العام كذا".. على أننا مهما اختلفت الإجابات فسنقف لا شك
عند اللحظة التي حرَّم فيها العلماء المطبعة وجرموا طباعة الكتب الدينية.
تلك لحظةٌ
يكثر فيها التشنيع على علماء الدولة العثمانية، ثم على علماء الأزهر فيما بعد، إذ
نُسِب إلى كلا الفريقيْن تحريمهما للطباعة. لست الآن بصدد تحقيق هذه الحادثة
التاريخية، حيث يدور حولها كثير من الأخذ والردّ، ولكن القدر المؤكد فيها أن من
أهم الدوافع التي جعلت العلماء ينظرون إلى المطبعة بارتياب وإلى آثارها بتخوف وحذر
هو هذا المعنى الذي نتحدث فيه، معنى: انحلال العلم.
كان العلم
يؤخذ عن أهله، يجلس الطالب في حضرة الشيخ فيقرأ عليه الكتاب، فيصحح الشيخ قراءة
القارئ ويصحح فهمه كذلك، ومنذ فجر تاريخنا الإسلامي حذر العلماء من أخذ العلم عن
الكتب دون شيخ، وذكروا أقوالا كثيرة تدور حول معنى أن الأخذ من الكتب دون شيخ يكثر
فيه الغلط والوهم.
انتشر
النساخون والوراقون في حضارتنا الإسلامية انتشارا عظيما، وسجَّل المؤرخون والرحالة
والمستشرقون كثرتهم كما سجلوا عظمة المكتبات وانتشارها، ولكن هذا لم يمنع أن تكون
الوسيلة المعتمدة لتلقي العلم هي الأخذ عن الشيوخ وإجازاتهم، ولا يرتفع قدر
العالِم باتساع قراءاته بل باتساع مشيخته.
فمن هاهنا
تخوف العلماء حين قدوم هذا الاختراع الجديد (المطبعة) أن يؤثر على انحلال العلم،
إذ ستلد المطبعة في الدفقة الواحدة من الكتب ما كان النساخون يسهرون فيه شهورا،
وهو ما ستفيض به الكتب عن حاجة طلاب العلم فيقرؤها من لا يجلس إلى الشيوخ، فيَضِلّ
ويُضِلّ، فيولد بهذا طبقة جديدة من "علماء" جدد كانت مشيختهم هي الكتب.
فكأن المطبعة
لم تلد كتبا إلا وولدت معها طبقة من القارئين قد انحلّ عندهم العلم!
ناهيك عن أمور
أخرى تخوف منها العلماء، كأن تستخدم هذه المطبعة في تحريف القرآن وما يتصل به من
علوم التفسير والحديث والفقه، إذ مهما كان الرأي في النساخين فإنهم في عمومهم من
طلبة العلم وأهله والمتصلون به، فهم من جملة البيئة العلمية، ثم هم ينقلون عن أصلٍ
هو خط المؤلف العالِم أو عن نسخة قُرِأَت عليه وأجازها، وإذا وقع الخطأ والتصحيف
في نسخةِ ناسخٍ أمكن له أن يتداركها في نسخة أخرى ولن يقع ذات الخطأ لدى ناس آخر..
أما المطبعيون فأهل حرفة صناعية لا تتصل بالعلم بل بمهارة استعمال الآلة، ثم إن
هذه الآلة التي تلد عددا كبيرا من النُسَخ لن تترك مجالا للاستدراك عليها.
بهذا التصوّر
لم يكن الوقوف ضد المطبعة خطأً وتخلفا، بل ربما عددناه من أبواب حراسة الدين
وحماية الثغور وصيانة العلم.
على أن مسيرة
المطبعة قد بلغت شأوًا لم يتوقعه أحد في زمن ظهورها، لقد صارت المطبعة عمليا آلة
مسعورة لا بد لها أن تستمر وتواصل الطباعة! مما كان مؤديا ولا بد إلى انحلال العلم
انحلال مريعا!
كيف ذلك؟!
إليك مختصر القصة
المؤسفة!
لقد رافق
اختراع المطبعة زمن بزوغ الدولة الحديثة، الدولة المركزية التي تعتني بالسيطرة
التامة على كل ما فيها ومن فيها، وقد اخترتُ لفظ "رافق" الذي يدل على
المصاحبة هروبا من النقاش الجدلي حول موضوع: هل كانت فكرة الدولة الحديثة ومطالبها
هي التي دفعت لاختراع المطبعة؟ أم كان اختراع المطبعة بمثابة السلاح الذي وجدته
أحلام السيطرة في يدها فأولعت بها؟!
لنبتعد عن هذا
الجدال الآن، يكفينا منه أن الدولة الحديثة المركزية استثمرت المطبعة كما تستثمر
سلاحا جديدا، إلا أن المطبعة سلاح ناعم، يُخضع لها الجماهير دون أن يستشعروا منه
عنفا وخطرا مهددا. فبالمطبعة استطعت الدولة بسهولة تضخيم جهازها الإداري وتوحيد
وثائقها وتكثير دفاترها التي صارت تستوعب كل التفاصيل، ومن بعد ما كان الحاكم
مكتفيا بمتابعة الأمور الخطيرة والمهمة عبر رسائل الولاة أو عبر الوثائق التي تسجل
الشؤون الكبيرة والإجمالية، صار بإمكانه أن يفتح الدفتر ليعرف تفاصيل التفاصيل،
فزادت بهذا سيطرة الدولة على الناس واستيعابها لدقائقهم الخاصة بما في ذلك أحوال
صحتهم ومرضهم وأعدادهم ومواردهم وأرزاقهم مهما كانت حقيرة، وإن كل ما تطورت إليه
الأنظمة المعاصرة من المراقبة والمتابعة والتدقيق فإنه فرع عن الإمكانية التي
أتاحتها المطبعة.
وأخطر مما سبق
أن المطبعة وفَّرت للسلطة أداة إعلامية لا ينافسها فيه أحد، ويرى بندكت أندرسون أن
المطبعة واحدة من ثلاث أو أربعة وسائل أنشأت المجتمعات الحديثة التي هي
"جماعات متخيلة"، حيث استطاعت السلطة من خلال وسيلة المطبعة (كوسيلة
إعلام) أن تُشَكِّل خيالا عاما، تصنع به انتماءًا مخصوصا لم يكن موجودا من قبل.
فالدولة من خلال المطبعة أصدرت الصحيفة الرسمية، وهي الصحيفة التي تنشر القوانين
الجديدة وتنشر التعليمات الرسمية كما تنشر ثقافتها ورسائلها وقِيَمَها التي تريد
ترسيخها، هذه الصحيفة الرسمية ينشغل بها كل الذين وضعتهم هذه السلطة ضمن حدودها
فهم الذين تُوَجِّه إليهم خطابها، وبهذا صُنِعت "جماعة مُتَخَيَّلة" حيث
صار الذين في أقصى جنوب البلد يشعرون بانتمائهم إلى ذات الجماعة التي ينتمي إليها
من هم في أقصى شمال البلد، رغم أنه ليس بينهم في الواقع أي تشابه ولا علاقة.
في مصر مثلا
يشعر الذي يسكن في رفح -أقصى الشمال الشرقي- أنه مصري مثل الذي يسكن في السلوم –أقصى
الشمال الغربي- مثل الذي يسكن في آخر أسوان –أقصى الجنوب- مع أن التشابه والصلة
والعلاقة بين ساكن رفح وجيرانه في غزة أكبر بكثير مما بينه وبين ساكن السلوم، وكذا
ما بين ساكن السلوم وجيرانه في ليبيا أكبر بكثير مما بينه وبين ساكن أسوان، وكذا
ساكن أسوان فإن ما بينه وبين أهل السودان أكبر وأقوى مما بينه وبين هؤلاء. ومع ذلك
فإن المطبعة –باعتبارها وسيلة إعلامية سلطوية- جذبت هذه الأطراف لتربطها بخطاب
واحد ولتصنع لها انتماءا متخيلا واحدا. وبهذا طرأ وضع جديد على عالمنا الإسلامي،
فلقد كانت الأمة متصلة ببعضها مهما تقسمت أرضها بين الأمراء والملوك، وأما الآن
فقد اتخذت هذه القسمة طابعا اجتماعيا وثقافيا وصارت أمرا عميقا في الوجدان الشعبي.
يمكن أن نتحدث
طويلا في الآثار الضخمة التي ترتبت على وجود آلة إعلام سلطوية قوية الصوت واسعة
التأثير، لكن الذي يهمنا الآن هو جانب واحد منها، الذي نحن بصدده، وهو مسألة
"انحلال العلم" وكثرة المتصدرين والكُتّاب!
لقد كثرت
المطابع، وكثر ما تخرجه من الكتب، ثم كَثُر ما تُخرجه من الصحف.. ولقد تعددت مشارب
الصحف واتجاهاتها الفكرية، إلا أنها محكومة دائما بالمساحة التي تتيحها لها
السلطة، فإذا اتسع صدر السلطة لبعض الحرية كان خيرا، وإلا فإن الصحف تعرف جيدا كيف
تتجنب ما يسخط السلطة لتبقى على قيد الحياة.
في تلك اللحظة
بدأت المطبعة تتحول إلى هذه الآلة المسعورة، الآلة التي لا بد لها أن تطبع، ولا بد
لها أن تنشر. هنا ظهرت طبقة جديدة ممن يقدمون العلم للناس ويوجهون أفكارهم، طبقة
الكُتَّاب والمثقفين والصحافيين، طبقة لا هي معدودة في العلماء ذوي التكوين الأصيل
الرصين الثقيل، ولا هي معدودة في العامة، طبقة في منزلة بين المنزلتين. ولأن الصحف
تحتاج أن تبيع فقد كانت رشاقة القلم وحسن الأسلوب مقدما على جودة المضمون وقوة
المادة العلمية.
وهكذا بدأ
انحلال العلم..
صاحب العمود
اليومي أو الأسبوعي مضطر لأن يكتب، فهذا مورد ارتزاقه، وهذه نافذته إلى جمهوره،
وهذا باب شهرته بين المثقفين والمفكرين وأهل القلم.. وحيث أنه مضطر أن يكتب فلا بد
أن يخوض فيما لا يعرف بعد أن استنفد ما يعرف، ولا بأس أن يكتب ما يعن له من
الأفكار والخواطر وإن كانت لم تنضج ولم يُتَمَعَّن فيها، ثم لا بأس أن يقصَّ بعضا
من ذكرياته وما يمر به من أحداث، وعليه أن يُبدي رأيه في أحداث السياسة وشؤون
العلم وحوادث التاريخ وسائر ما يستهوي أن يكتب فيه ويبدي رأيا.
وقد ظلت تلك
الطبقة تنمو وتتوسع مع توسع وسائل الإعلام حتى أنتجت الإعلاميين في الإذاعة
والتلفاز، ثم بلغت أقصاها مع مواقع التواصل الاجتماعي حيث صار الكل يكتب ما يريد
ويلقي ما يريد، ولا تسأل عن ضياع العلم في ظل هذه الفوضى المريعة.
ولأن المطبعة
صارت تلد كثيرا من الكتب، وتلد كثيرا من الصحف، فقد ظهرت مع ذلك ظاهرة أخرى هي
عروض الكتب والتعريف بها.. وهذه الظاهرة كانت تسد حاجة لا بد منها، لقد صارت
الأعمار أقصر كثيرا من أن تستوعب فيضان الكتب الذي تنهمر به المطابع، واتسعت
المعارف اتساعا اختفت معه الموسوعية العلمية التي كانت سائدة في العصور الإسلامية
الوسيطة، وصار الذي يحب متابعة شأن العلوم والمعارف محتاجا إلى من يقدم له فكرة عن
الكتاب وعرضا له يُعَرِّفه بموضوع الكتاب وغرضه وأبوابه. وفي نفس الوقت فإن المؤلف
نفسه، وكذا دار النشر، صار حريصا على أن يُنشر مقال عن كتابه ليعرف به، في ظل
فيضان الكتب المستمر، ففي هذا غرض تسويقي للكتاب ومؤلفه.
وتوسعت هذه
الظاهرة حتى صارت لعروض الكتب صحفا ومجلات متخصصة، وأحيانا صارت المجلات تتخصص في
فرع واحد من فروع المعرفة تتابع ما يصدر فيه من الكتب. وأفرد كثير من المؤلفون
كتبا يروون فيها أخبارهم مع الكتب والقراءة ويُبدون فيها آراءهم فيما قرؤوه منها،
وبعضهم يضع أمانيه في كتب يحب أن تُؤَلَّف.
إن ظاهرة عروض
الكتب هي في ألمع وجوهها نوعا من مقاومة "انحلال العلم"، فكأنها ارتياد
أحدهم لمكان ما يستطلعه ويتبين معالمه، ثم يعود إلى قومه يخبرهم الخبر، كأن أولئك
الذين يقرؤون ثم يرجعون لنا بالمراجعة كالطائفة التي نفرت من الفرقة تكفيهم عناء
تجريب المُجَرَّب وارتياد المجهول.
لكم يكون المرء
سعيدا حين يجد كاتبا مُجِيدا يقرأ الكتاب ثم يقدم له عرضا جميلا وافيا، فهذا
يُوَفِّر عليه وقت استكشاف الكتاب وقراءته بنفسه، وربما كانت المراجعة بحد ذاتها
سببا في انطفاء الشوق أو اشتعاله لقراءة كتاب، فهي سبب أصيل في قرار القارئ أن
يقرأ أو يترك!
وكان هذا الباب
هو سبب التعارف على الصديق العزيز الأستاذ أحمد الحمدان عبر مدونته التي احتوت
مراجعاته للكتب، حيث ظللت شهورا أتابع مدونته وألتهم جديد مراجعاتها الطريفة
المفيدة. وكانت العديد من مراجعته مما اكتفيت به عن قراءة كتاب ما أو شجعتني
لقراءة كتاب ما. وقد استفدنا منه والحمد لله في مجلة "كلمة حق" حيث كان
له مقال ثابت يستعرض فيه كتابا جديدا بأسلوبه الرشيق.
ولقد كنتُ
واحدًا ممن تشوف وتشوق أن يجمع أخونا أحمد هذه المراجعات في كتاب واحد، ليكون ذلك
سببا في اتساع الانتفاع بها، لا سيما بعد تكرر إغلاق حساباته في مواقع التواصل
الاجتماعي، وحين عرض عليَّ هذا الكتاب وجدتُ أنه فاتني من مراجعاته أكثر بكثير مما
قرأته، ودخلت معه في رحلة لذيذة بين أروقة الكتب المتنوعة، من الدين إلى السياسة
إلى التاريخ إلى الأمن إلى الروايات إلى المذكرات الشخصية إلى غير ذلك من فروع
المعرفة.
ومن مزايا أخينا
أحمد ومراجعاته أنه يربط كثيرا بين ما يقرؤه، فربما لفت نظره موقف رواه ابن حزم في
طوق الحمامة مع موقف آخر يرويه رجل أمن معاصر في كتاب عن الجاسوسية، أو معلومة
يرويها نسابة في كتاب أنساب قديم مع معلومة أخرى من كتاب في السياسة المعاصرة..
وهكذا!
إنه كتاب يغني
عن كتب كثيرة، ويفتح الطريق لآفاق عديدة، ويُعَرِّف بنواحٍ ما كان ليتعرف عليها
القارئ بنفسه لا سيما إن كان متخصصا في مجال بعينه، ولهذا فهو رحلة تجمع بين
الجمال والمتعة وبين الفائدة والمنفعة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بها قارئها،
وأن يتقبلها من كاتبها، وأن يكتب لها القبول، وأن يجعلها علما نافعا خالصا لوجهه
الكريم.
بارك الله بك استاذ محمد على هذا المقال الرائع. تعلمت أشياء كثيرة عن المطابع وانحلال العلم.
ردحذفبارك الله بك استاذ محمد على هذا المقال الرائع. تعلمت أشياء كثيرة عن المطابع وانحلال العلم.
ردحذففتح الله عليك يا أستاذ
ردحذفإذا ربطنا مقالك هذا بالثقافة الغالبة عرفنا كيف روج المؤرخون من العرب لتلك الفتوى القائلة بتحريم الفقهاء للطباعة في تلك الحقبة دون البحث واستقصاء الظروف التي حملت المشايخ على تلك الفتوى.. فلكل مقام مقال..
ولكن المولعين بالغالب وثقافته وفكره جعلو الحدث حجة على الدين بأنه ضد العلم والتقدم.