صحبني شعورٌ بالذنب منذ نيتي قراءة هذا الكتاب واستمر
هذا الشعور إلى نهايته..
إن لدي احتجاجا دائما على نقصان العدالة في هذه
الأرض، ولا أحب أن أشارك في هذا، فما الذي يدفعني لقراءة كتاب سجينة قد أسمعت
الدنيا كلها صوتها، وجرى تعويضها ماليا ومعنويا، وهي تعيش حياة باذخة بين باريس
وميامي وتستطيع حتى أن تزور المغرب نفسها؟
نعم، أعرف تماما أن السجن لعشرين سنة لا يُعوضه شيء..
ولكني أعرف أيضا أن أكثر الذين سُجِنوا لعشرين سنة أو أكثر لم يحصلوا على شيء من
هذا كله!
ألم يكن الأولى أن أقرأ كتابا لسجين آخر لم يحصل على
هذه الشهرة، ولم يتمتع بكل هذا التقدير والعناية العالمية؟!.. وإذا كان شيء ما
شدَّني لقراءة كتابها "السجينة"، فلماذا أذهب لقراءة كتابها الآخر
"الغريبة"، وهو الكتاب الذي قرأتُ في مراجعة صديق عزيز أنه مجرد ثرثرة
عن نفسها؟!
لن أشغل القارئ الآن بمحاولة تفسير تصرفي هذا، ولن
أغوص في تحليل سلوكي.. ما يهمني فقط أن أعلن شعوري بوخز الضمير لأني قدَّمتُ ما
قدَّمته الآلة الإعلامية، وأخرَّتُ ما أخَّرتْه الآلة الإعلامية، فأفرغت من وقتي
لها ما ضننتُ به على من قد يكون أولى وأحوج بأن يُقرأ له ويُسْمَع صوته!
في بعض الأحيان يُخَيَّل لي أن سبب هذا الشغف بكتابي
مليكة هو رغبتي في معاينة قصةٍ أصابت عائلة رجل كان مرعبا متوحشا مشهورا بفنونه في
التعذيب والتقطيع والسلخ!
أعرف تماما أن لا ذنب لعائلة الرجل فيما نزل بهم، وأن
الذي أصابهم هذا هو ظلم شنيع بشع.. ولكني لا أستطيع منع نفسي من التفكير: هل يكون
هذا الذي أصابهم هو دعوة رجل مظلوم مُعَذَّب، رفع يده إلى السماء ودعا على محمد
أوفير أن ينزل بعائلته مثلُ الذي أنزله أوفقير بعائلته؟.. لقد كان أوفقير يعذب
النساء والأطفال أيضا!!
ترى هل يتعظ ضباط الأمن؟ هل لديهم شيء من الإيمان أو
من العقل ليعرفوا أن الذي يفعلونه بالناس قد ينزل بهم؟! وقد يصيب معهم أبناءهم
وزوجاتهم؟!
في هذا الكتاب تروى مليكة أوفقير كيف تفاجأت بالحياة
بعد سجن عشرين سنة.. تحكي ارتباكها الدائم وانزعاجها المتكرر وخوفها المرضي
ووساوسها المستمرة.. بداية من الناس الذين تكاثروا وصاروا أكثر سرعة وأكثر عبوسا
وأكثر عصبية، وحتى الآلات الجديدة التي ظهرت في دنيا الناس كماكينة الصرف الآلي
البنكية وكيف تبتلع قطعة معدنية ثم تلفظ الأموال! كذلك الصنبور (الحنفية) وكيف
أنها صارت تسيل بالماء بمجرد مرور اليد من تحتها!!
الأسواق والمتاجر التي زخرت بأطنان من البضائع،
البضائع الكثيرة المتكررة المصفوفة إلى ما لا نهاية، ملء عربيات التسوق، الانهمار
على العروض، التهام الأطعمة مهما كانت كثيرة، وستُلقى في المزابل!
فجوة الزمن التي عاشتها في السجن عشرين سنة جعل كل
شيء غريبا ومربكا ومزعجا ومثيرا للمخاوف!
ولكن فجوة الزمن كانت مصحوبة بأمراض أخرى صنعتها حياة
السجن؛ أهمها الخوف.. الخوف الذي يسكن النفس حتى يُعطلها عن أي تصرف خشية أن يكون
تصرفا خاطئا، يترتب عليه استجواب وتحقيق.. الخوف من مجرد رؤية زي الشرطة ولو من
بعيد.. الخوف من الظلمة.. الكوابيس التي تمنع النوم!
ومليكة صريحة في هذا، فهي تكتب بالفرنسية للفرنسيين
وليست تهتم بالدين، فوصفت كل شيء، حتى إخفاقاتها في ممارسة الجنس.. لأنها خائفة
ولا تدري ماذا تصنع في الفراش!
السجن مفسد للإنسان.. ومن روائع الشريعة أنه ليس فيها
عقوبة سجن، اللهم إلا الحبس الاحتياطي لأيام معدودات ريثما يزول خطر ما أو يُفصل
في شأن ما.. وهو الحبس الذي نسميه الآن "إقامة جبرية".. على كل حال،
لهذا مقام آخر.
ومما لا يغيب عني منذ قرأته، فتوى الإمام أحمد بن
حنبل، حين سُئل عن الرجل الذي يقاتل ولا يمكنه النجاة، هل يقاتل حتى يُقتل أم
يستسلم للأسر؟ فأجاز الإمام أحمد أن يقاتل بلا أمل في النجاة وأن يُقتل، وقال:
"الأسر شديد"!
فكأن شدة الأسر أهون منها الموت!
إن شعوبنا إذا انصلحت أحوالها وحكمها الحاكم العادل
الصالح، ستظل لفترة لا ندري كم تطول حتى تتعافى من أخلاق الطغيان والظلم والقهر،
فإن الأمر البسيط الذي يفعله الإنسان الغربي بلا تردد يكون هو نفسه مخاطرة كبيرة
لا يجرؤ عليه إلا الندرة المتشبعون بالمروءة والشجاعة في بلادنا!
سطوة القهر والظلم صارت عميقة في النفوس، والأمل
معقود على أجيالٍ لم يصبها القهر والظلم.. إن بقاء الأنظمة الحاكمة في بلادنا هو
أخبث الأمراض وأشدها فتكا بنا، وزوال هذه الأنظمة حتى ولو كان البديل هو الفوضى
يعيد إلى أمتنا أخلاق المروءة والشجاعة..
لقد أنقذ الله بني إسرائيل من فرعون فما استطاعوا أن
يدخلوا الأرض المقدسة لما رسخ فيهم من الخوف والجبن مع أنهم تحت قيادة نبي ومع
أنهم رأوا معجزة انشقاق البحر وغرق فرعون.. فقضى الله عليهم بالتيه، الحياة خارج
سلطة، الحياة في الصحراء، حتى نشأ الجيل الجديد الذي فتح الأرض المقدسة دون أن
يشهد معجزة!
رغم كل ما قدَّمتُه في البداية، فإن هذا الكتاب مفيد في التعرف على حالة السجين إذا خرج من سجنه.. ليعرف القارئ أن مأساة السجن لا تنتهي بالخروج منه بل تستمر وقتا غير قصير بعده! وهذا الجانب هو من الجوانب التي لا تتناولها أغلب المؤلفات في أدب السجون، فالعادة أن ينتهي الكتاب بقصة الخروج!
مراجعة كتاب السجينة:
لا حول ولا قوة الا بالله
ردحذف