تختلف هذه المذكرات عن سائر ما قرأته قبلها من أدب
السجون؛ ذلك أن الذي قرأته من ذلك الأدب يكون في العادة لشخص إسلامي أو متهم بكونه
كذلك، ثم ينزل سجن النظام العربي الذي يحارب ما يسميه الإرهاب والتطرف، ثم يذوق
الويلات المنكرة الشنيعة عبر سنواته التي تطول أو تقصر بحسب حظه العاثر.
أما هنا فالأمر مختلف من وجوه عديدة
فصاحبة هذه المذكرات مليكة أوفقير ليست إسلامية بحال،
فهي وإن وُلِدت مسلمة إلا أنها لم تفكر في الإسلام كدين، ثم إنها ارتدت عنه
واعتنقت الكاثوليكية في سجنها حين ظنت أن الإسلام لم ينقذها.. إلا أن شأنها مع
الإسلام من قبل لم يكن ذا بال، فهي قد عاشت الحياة المنفلتة -التي يسميها أصحابها:
المتحررة- فكانت منذ مراهقتها ترتاد الحانات وتصادق الشباب وترقص وتتمتع وتسافر
وتعيش أياما بمفردها مع شباب آخرين في رحلات أو غيرها، حتى إنها لما صادقت -مرة-
ابن موشى ديان لم يكن هذا مزعجا لوالدها بل مثيرا لسعادته.. وكان شرب الخمور في
بيتهم أمرا عاديا، وكان والدها صاحب علاقات نسائية كثيرة، ثم والدتها أيضا في
مرحلة هجرانها لزوجها ثم طلاقها حيث وقعت في غرام ضابط شاب وذهبت معه.
ثم إنها ابنة الجنرال محمد أوفقير، رجل الأمن المرعب
في المغرب، والمتهم بقتل المهدي بن بركة، ووزير الداخلية في عهد الحسن الثاني ثم
وزير الدفاع في عهده بعد انقلاب الصخيرات 1971.. وهو الرجل الذي يحمل له اليهود
المغاربة جميلا عظيما لأنه سهل هجرتهم بالآلاف إلى إسرائيل.. فهي ابنة السلطة
المغربية وربيبة الجاه والمال والنفوذ والأمر والنهي، تسير في وسط الحراسة وتنتقل
وهي محفوفة بالخدم والحشم.
ثم إنها تربت في قصر ملك المغرب، إذ أعجب بها الملك
محمد الخامس مذ كانت طفلة صغيرة لكي تكون صديقة لابنته الصغيرة أمينة، ثم أكمل
ابنه الحسن الثاني رعايتها.. ومن ثم فقد نشأت في قصور المغرب الملكية، وكانت مقربة
من الملك نفسه.. إلا أنها رغبت في العودة لبيتها ولم يمانع الملك عودتها، وذلك حين
بلغت سن المراهقة.
ما الذي حدث إذن؟!
كيف تكون مثل هذه نزيلة سجن؟ وكيف تكون روايتها واحدة
من أشهر ما كتب في أدب السجون؟
هنا يأتيك قول الله تعالى: قل اللهم مالك الملك، تؤتي
الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك
على كل شيئ قدير
هنا ترى صورة من تقلب الدنيا بأهلها، وتحول أحوالها،
وفجاءة أهوالها، وانعكاس ليلها ونهارها..
لقد وقع الخلاف بين الجنرال محمد أوفقير والملك الحسن
الثاني، سعى كل منهما في اغتيال الآخر، نجا أوفقير، ونفذ محاولة اغتيال للحسن
الثاني، فأخفقت، فقتل بخمس رصاصات، وأشيع أنه انتحر.
وإذا بانتقام الملك لا يتوقف عند عدوه، بل شمل أهله
وأولاده الصغار.. أنزلهم السجن عشرين عاما في فصول مؤلمة لا أريد أن أوجزها هنا
فأفسد متعتها لمن يريد القراءة.
وهكذا صارت أمهم وهي في مطلع الثلاثينات أرملة
ومسجونة، ومعها أطفالها الخمسة.. بلغ من وحشية النظام المغربي أن جعلهم طوال أحد
عشر عاما في سجن لا يكادون يجدون فيه مأكلا أو مشربا حتى شربوا أوراق الشجر
المغلية، من هذه السنوات الأحد عشر ثمان سنوات لم يكونوا يرون فيها بعضهم البعض،
وضعوا في زنازين مغلقة ويُفتح لهم بالتناوب بحيث يحرمون من رؤية بعضهم.. وفي فقرة
حافلة بالحسرة كانوا يحاولون أن يشاهدوا ظلال بعضهم عبر سكب بعض الماء على الأرض
إلى خارج الزنازين ثم الانبطاح لكي يعكس الماء ظلال المنبطحين فيطالعون أشباحهم الضبابية
المنعكسة على صفحة الماء.
نفذوا قصة هروب مثيرة تسببت في تحسين أحوالهم في خمس
سنوات أخرى، قضوها كأنهم في إقامة جبرية، ثم خمس سنوات أخرى من المراقبة.
إنها واحدة من الروايات التي تظهر مدى الوحشية التي
تسكن هذا العالم، لا سيما قصور أنظمة الحكم، ورجاله قساة القلوب الذين لا يجد
المرء وصفا أدق لهم من قول الله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو
أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه
الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون.
نعم، إن المرء يرجو الرحمة من كل شيء إلا أن يرجوه من
الحجر الصلد الأصم.. ولكنه قد يعالج هذا الحجر فيحفر فيه ثقبا أو حتى نفقا، وقد
يتشقق الحجر تحت عوامل التعرية، وقد ينبثق منه الماء، وقد ينهار هابطا.. أما ضابط
الأمن في الأنظمة الحاكمة فلا.. إنه الحجر الذي مصيره إلى النار حيث قال الله فيه:
نارا وقودها الناس والحجارة.. وحيث قال الله في فرعون: يقدم قومه يوم القيامة
فأوردهم النار، وبئس الورد المورود.
مع أن عائلة أوفقير عائلة مغربية كبيرة مشهورة، ومع
ما كان لها من النفوذ الواسع، ومع ما كان لها من شبكة العلاقات الدولية النافذة،
ومع الاهتمام الطبيعي للصحافة العالمية بقضيتهم ووقوف بعض مشاهير العالم وراءهم،
إلا أنهم قضوا عشرين سنة سجنا ثم خمسا تحت المراقبة.. إنها سنوات يقضيها
الإسلاميون أيضا في السجون، الإسلامي الذي ليس له من يسأل عنه ولا من يهتم له، بل
يتواطأ عليه الجميع
أليس هذا مثيرا للتأمل؟!.. أليس يخبرنا هذا بأن الله
هو المقدر المدبر، وأنه فوق كل شيء، وأن الأمور تجري بمقادير.. كم إسلاميا حقيرا
-في ميزان الناس- وصفرا في ميزان القوى خرج بعد سنين أقل من هذه بإرادة الله وحده،
بغير أن يتدخل لصالحه رئيس فرنسي ولا صحافة عالمية وبغير أن يملك علاقة مهمة؟!
أتيح لهذا الكتاب عوامل النجاح.. قصة مثيرة لشخصية
مشهورة، وهي امرأة أيضا، لكن أهم عوامل نجاحه برأيي هو اللغة المتميزة التي كُتِب
بها، وأن كُتَّاب أدب السجون في محنة؛ ذلك أنهم يتبارون في وصف نفس المعاني (مثلما
يفعل شعراء الغزل) وهنا يكونون بحاجة إلى تميز فوق التميز لاشتباه مضمار
المنافسة.. وقد كانت حاكية هذا الكتاب، وهي صديقة يهودية لصاحبة الرواية، ذات قلم
رشيق، استطاعت المترجمة إلى العربية أن تنقله إلى لسان العرب بكفاءة واقتدار،
فكأنما هو نص عربي أصيل إلا في بعض التعبيرات القليلة النادرة التي ظهرت عليها أثر
الترجمة.
لا حول ولا قوه إلا بالله
ردحذفكل هذه الاحداث المهولة. والكم المخيف من القتل يستحق الظلم في هذا العالم يزيدني ايمانا بان الله هو الحاكم والمالك والمدبر وهو المنتقم ايضا وهو على كل شيء قدير يزيدني تمسكا باسلامه وهويتي فاذا كان هذا عذاب بشر لبشر فكيف بعذاب القبر وكيف بها اهوال يوم القيامه
ردحذفوالله كثير نحبك استاذنا ومن سجون افريقيا نحييك
ردحذف