الأحد، نوفمبر 08، 2020

قراءة في كتاب: الغريبة – مليكة أوفقير

 

صحبني شعورٌ بالذنب منذ نيتي قراءة هذا الكتاب واستمر هذا الشعور إلى نهايته..

إن لدي احتجاجا دائما على نقصان العدالة في هذه الأرض، ولا أحب أن أشارك في هذا، فما الذي يدفعني لقراءة كتاب سجينة قد أسمعت الدنيا كلها صوتها، وجرى تعويضها ماليا ومعنويا، وهي تعيش حياة باذخة بين باريس وميامي وتستطيع حتى أن تزور المغرب نفسها؟

نعم، أعرف تماما أن السجن لعشرين سنة لا يُعوضه شيء.. ولكني أعرف أيضا أن أكثر الذين سُجِنوا لعشرين سنة أو أكثر لم يحصلوا على شيء من هذا كله!

ألم يكن الأولى أن أقرأ كتابا لسجين آخر لم يحصل على هذه الشهرة، ولم يتمتع بكل هذا التقدير والعناية العالمية؟!.. وإذا كان شيء ما شدَّني لقراءة كتابها "السجينة"، فلماذا أذهب لقراءة كتابها الآخر "الغريبة"، وهو الكتاب الذي قرأتُ في مراجعة صديق عزيز أنه مجرد ثرثرة عن نفسها؟!

لن أشغل القارئ الآن بمحاولة تفسير تصرفي هذا، ولن أغوص في تحليل سلوكي.. ما يهمني فقط أن أعلن شعوري بوخز الضمير لأني قدَّمتُ ما قدَّمته الآلة الإعلامية، وأخرَّتُ ما أخَّرتْه الآلة الإعلامية، فأفرغت من وقتي لها ما ضننتُ به على من قد يكون أولى وأحوج بأن يُقرأ له ويُسْمَع صوته!

في بعض الأحيان يُخَيَّل لي أن سبب هذا الشغف بكتابي مليكة هو رغبتي في معاينة قصةٍ أصابت عائلة رجل كان مرعبا متوحشا مشهورا بفنونه في التعذيب والتقطيع والسلخ!

أعرف تماما أن لا ذنب لعائلة الرجل فيما نزل بهم، وأن الذي أصابهم هذا هو ظلم شنيع بشع.. ولكني لا أستطيع منع نفسي من التفكير: هل يكون هذا الذي أصابهم هو دعوة رجل مظلوم مُعَذَّب، رفع يده إلى السماء ودعا على محمد أوفير أن ينزل بعائلته مثلُ الذي أنزله أوفقير بعائلته؟.. لقد كان أوفقير يعذب النساء والأطفال أيضا!!

ترى هل يتعظ ضباط الأمن؟ هل لديهم شيء من الإيمان أو من العقل ليعرفوا أن الذي يفعلونه بالناس قد ينزل بهم؟! وقد يصيب معهم أبناءهم وزوجاتهم؟!

في هذا الكتاب تروى مليكة أوفقير كيف تفاجأت بالحياة بعد سجن عشرين سنة.. تحكي ارتباكها الدائم وانزعاجها المتكرر وخوفها المرضي ووساوسها المستمرة.. بداية من الناس الذين تكاثروا وصاروا أكثر سرعة وأكثر عبوسا وأكثر عصبية، وحتى الآلات الجديدة التي ظهرت في دنيا الناس كماكينة الصرف الآلي البنكية وكيف تبتلع قطعة معدنية ثم تلفظ الأموال! كذلك الصنبور (الحنفية) وكيف أنها صارت تسيل بالماء بمجرد مرور اليد من تحتها!!

الأسواق والمتاجر التي زخرت بأطنان من البضائع، البضائع الكثيرة المتكررة المصفوفة إلى ما لا نهاية، ملء عربيات التسوق، الانهمار على العروض، التهام الأطعمة مهما كانت كثيرة، وستُلقى في المزابل!

فجوة الزمن التي عاشتها في السجن عشرين سنة جعل كل شيء غريبا ومربكا ومزعجا ومثيرا للمخاوف!

ولكن فجوة الزمن كانت مصحوبة بأمراض أخرى صنعتها حياة السجن؛ أهمها الخوف.. الخوف الذي يسكن النفس حتى يُعطلها عن أي تصرف خشية أن يكون تصرفا خاطئا، يترتب عليه استجواب وتحقيق.. الخوف من مجرد رؤية زي الشرطة ولو من بعيد.. الخوف من الظلمة.. الكوابيس التي تمنع النوم!

ومليكة صريحة في هذا، فهي تكتب بالفرنسية للفرنسيين وليست تهتم بالدين، فوصفت كل شيء، حتى إخفاقاتها في ممارسة الجنس.. لأنها خائفة ولا تدري ماذا تصنع في الفراش!

السجن مفسد للإنسان.. ومن روائع الشريعة أنه ليس فيها عقوبة سجن، اللهم إلا الحبس الاحتياطي لأيام معدودات ريثما يزول خطر ما أو يُفصل في شأن ما.. وهو الحبس الذي نسميه الآن "إقامة جبرية".. على كل حال، لهذا مقام آخر.

ومما لا يغيب عني منذ قرأته، فتوى الإمام أحمد بن حنبل، حين سُئل عن الرجل الذي يقاتل ولا يمكنه النجاة، هل يقاتل حتى يُقتل أم يستسلم للأسر؟ فأجاز الإمام أحمد أن يقاتل بلا أمل في النجاة وأن يُقتل، وقال: "الأسر شديد"!

فكأن شدة الأسر أهون منها الموت!

إن شعوبنا إذا انصلحت أحوالها وحكمها الحاكم العادل الصالح، ستظل لفترة لا ندري كم تطول حتى تتعافى من أخلاق الطغيان والظلم والقهر، فإن الأمر البسيط الذي يفعله الإنسان الغربي بلا تردد يكون هو نفسه مخاطرة كبيرة لا يجرؤ عليه إلا الندرة المتشبعون بالمروءة والشجاعة في بلادنا!

سطوة القهر والظلم صارت عميقة في النفوس، والأمل معقود على أجيالٍ لم يصبها القهر والظلم.. إن بقاء الأنظمة الحاكمة في بلادنا هو أخبث الأمراض وأشدها فتكا بنا، وزوال هذه الأنظمة حتى ولو كان البديل هو الفوضى يعيد إلى أمتنا أخلاق المروءة والشجاعة..

لقد أنقذ الله بني إسرائيل من فرعون فما استطاعوا أن يدخلوا الأرض المقدسة لما رسخ فيهم من الخوف والجبن مع أنهم تحت قيادة نبي ومع أنهم رأوا معجزة انشقاق البحر وغرق فرعون.. فقضى الله عليهم بالتيه، الحياة خارج سلطة، الحياة في الصحراء، حتى نشأ الجيل الجديد الذي فتح الأرض المقدسة دون أن يشهد معجزة!

رغم كل ما قدَّمتُه في البداية، فإن هذا الكتاب مفيد في التعرف على حالة السجين إذا خرج من سجنه.. ليعرف القارئ أن مأساة السجن لا تنتهي بالخروج منه بل تستمر وقتا غير قصير بعده! وهذا الجانب هو من الجوانب التي لا تتناولها أغلب المؤلفات في أدب السجون، فالعادة أن ينتهي الكتاب بقصة الخروج!

مراجعة كتاب السجينة


الأربعاء، نوفمبر 04، 2020

قراءة في كتاب: السجينة - مليكة أوفقير

 

تختلف هذه المذكرات عن سائر ما قرأته قبلها من أدب السجون؛ ذلك أن الذي قرأته من ذلك الأدب يكون في العادة لشخص إسلامي أو متهم بكونه كذلك، ثم ينزل سجن النظام العربي الذي يحارب ما يسميه الإرهاب والتطرف، ثم يذوق الويلات المنكرة الشنيعة عبر سنواته التي تطول أو تقصر بحسب حظه العاثر.

أما هنا فالأمر مختلف من وجوه عديدة

فصاحبة هذه المذكرات مليكة أوفقير ليست إسلامية بحال، فهي وإن وُلِدت مسلمة إلا أنها لم تفكر في الإسلام كدين، ثم إنها ارتدت عنه واعتنقت الكاثوليكية في سجنها حين ظنت أن الإسلام لم ينقذها.. إلا أن شأنها مع الإسلام من قبل لم يكن ذا بال، فهي قد عاشت الحياة المنفلتة -التي يسميها أصحابها: المتحررة- فكانت منذ مراهقتها ترتاد الحانات وتصادق الشباب وترقص وتتمتع وتسافر وتعيش أياما بمفردها مع شباب آخرين في رحلات أو غيرها، حتى إنها لما صادقت -مرة- ابن موشى ديان لم يكن هذا مزعجا لوالدها بل مثيرا لسعادته.. وكان شرب الخمور في بيتهم أمرا عاديا، وكان والدها صاحب علاقات نسائية كثيرة، ثم والدتها أيضا في مرحلة هجرانها لزوجها ثم طلاقها حيث وقعت في غرام ضابط شاب وذهبت معه.

ثم إنها ابنة الجنرال محمد أوفقير، رجل الأمن المرعب في المغرب، والمتهم بقتل المهدي بن بركة، ووزير الداخلية في عهد الحسن الثاني ثم وزير الدفاع في عهده بعد انقلاب الصخيرات 1971.. وهو الرجل الذي يحمل له اليهود المغاربة جميلا عظيما لأنه سهل هجرتهم بالآلاف إلى إسرائيل.. فهي ابنة السلطة المغربية وربيبة الجاه والمال والنفوذ والأمر والنهي، تسير في وسط الحراسة وتنتقل وهي محفوفة بالخدم والحشم.

ثم إنها تربت في قصر ملك المغرب، إذ أعجب بها الملك محمد الخامس مذ كانت طفلة صغيرة لكي تكون صديقة لابنته الصغيرة أمينة، ثم أكمل ابنه الحسن الثاني رعايتها.. ومن ثم فقد نشأت في قصور المغرب الملكية، وكانت مقربة من الملك نفسه.. إلا أنها رغبت في العودة لبيتها ولم يمانع الملك عودتها، وذلك حين بلغت سن المراهقة.

ما الذي حدث إذن؟!

كيف تكون مثل هذه نزيلة سجن؟ وكيف تكون روايتها واحدة من أشهر ما كتب في أدب السجون؟

هنا يأتيك قول الله تعالى: قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيئ قدير

هنا ترى صورة من تقلب الدنيا بأهلها، وتحول أحوالها، وفجاءة أهوالها، وانعكاس ليلها ونهارها..

لقد وقع الخلاف بين الجنرال محمد أوفقير والملك الحسن الثاني، سعى كل منهما في اغتيال الآخر، نجا أوفقير، ونفذ محاولة اغتيال للحسن الثاني، فأخفقت، فقتل بخمس رصاصات، وأشيع أنه انتحر.

وإذا بانتقام الملك لا يتوقف عند عدوه، بل شمل أهله وأولاده الصغار.. أنزلهم السجن عشرين عاما في فصول مؤلمة لا أريد أن أوجزها هنا فأفسد متعتها لمن يريد القراءة.

وهكذا صارت أمهم وهي في مطلع الثلاثينات أرملة ومسجونة، ومعها أطفالها الخمسة.. بلغ من وحشية النظام المغربي أن جعلهم طوال أحد عشر عاما في سجن لا يكادون يجدون فيه مأكلا أو مشربا حتى شربوا أوراق الشجر المغلية، من هذه السنوات الأحد عشر ثمان سنوات لم يكونوا يرون فيها بعضهم البعض، وضعوا في زنازين مغلقة ويُفتح لهم بالتناوب بحيث يحرمون من رؤية بعضهم.. وفي فقرة حافلة بالحسرة كانوا يحاولون أن يشاهدوا ظلال بعضهم عبر سكب بعض الماء على الأرض إلى خارج الزنازين ثم الانبطاح لكي يعكس الماء ظلال المنبطحين فيطالعون أشباحهم الضبابية المنعكسة على صفحة الماء.

نفذوا قصة هروب مثيرة تسببت في تحسين أحوالهم في خمس سنوات أخرى، قضوها كأنهم في إقامة جبرية، ثم خمس سنوات أخرى من المراقبة.

إنها واحدة من الروايات التي تظهر مدى الوحشية التي تسكن هذا العالم، لا سيما قصور أنظمة الحكم، ورجاله قساة القلوب الذين لا يجد المرء وصفا أدق لهم من قول الله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون.

نعم، إن المرء يرجو الرحمة من كل شيء إلا أن يرجوه من الحجر الصلد الأصم.. ولكنه قد يعالج هذا الحجر فيحفر فيه ثقبا أو حتى نفقا، وقد يتشقق الحجر تحت عوامل التعرية، وقد ينبثق منه الماء، وقد ينهار هابطا.. أما ضابط الأمن في الأنظمة الحاكمة فلا.. إنه الحجر الذي مصيره إلى النار حيث قال الله فيه: نارا وقودها الناس والحجارة.. وحيث قال الله في فرعون: يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار، وبئس الورد المورود.

مع أن عائلة أوفقير عائلة مغربية كبيرة مشهورة، ومع ما كان لها من النفوذ الواسع، ومع ما كان لها من شبكة العلاقات الدولية النافذة، ومع الاهتمام الطبيعي للصحافة العالمية بقضيتهم ووقوف بعض مشاهير العالم وراءهم، إلا أنهم قضوا عشرين سنة سجنا ثم خمسا تحت المراقبة.. إنها سنوات يقضيها الإسلاميون أيضا في السجون، الإسلامي الذي ليس له من يسأل عنه ولا من يهتم له، بل يتواطأ عليه الجميع

أليس هذا مثيرا للتأمل؟!.. أليس يخبرنا هذا بأن الله هو المقدر المدبر، وأنه فوق كل شيء، وأن الأمور تجري بمقادير.. كم إسلاميا حقيرا -في ميزان الناس- وصفرا في ميزان القوى خرج بعد سنين أقل من هذه بإرادة الله وحده، بغير أن يتدخل لصالحه رئيس فرنسي ولا صحافة عالمية وبغير أن يملك علاقة مهمة؟!

أتيح لهذا الكتاب عوامل النجاح.. قصة مثيرة لشخصية مشهورة، وهي امرأة أيضا، لكن أهم عوامل نجاحه برأيي هو اللغة المتميزة التي كُتِب بها، وأن كُتَّاب أدب السجون في محنة؛ ذلك أنهم يتبارون في وصف نفس المعاني (مثلما يفعل شعراء الغزل) وهنا يكونون بحاجة إلى تميز فوق التميز لاشتباه مضمار المنافسة.. وقد كانت حاكية هذا الكتاب، وهي صديقة يهودية لصاحبة الرواية، ذات قلم رشيق، استطاعت المترجمة إلى العربية أن تنقله إلى لسان العرب بكفاءة واقتدار، فكأنما هو نص عربي أصيل إلا في بعض التعبيرات القليلة النادرة التي ظهرت عليها أثر الترجمة.


الاثنين، نوفمبر 02، 2020

فرنسيون أنصفوا الإسلام

نستأنف في هذا المقال ما كنا قد ختمنا به المقال السابق، حيث كان حديثنا عن الاستشراق الفرنسي، وكيف أنه كان ذراعا علميا للهيمنة الفرنسية، ووسيلة السياسة الفرنسية لتسهيل احتلالها البلاد الإسلامية سواء من خلال قيامهم بالدور العلمي في فحص ودراسة هذه البلاد وأحوالها لإيجاد أفضل الطرق وأقلها تكلفة لعملية الاحتلال والسيطرة، أو من خلال قيامهم بالدور الإعلامي الذي يبرر ويشرعن عملية الاحتلال من خلال تشويه أهلها وثقافتهم وأخلاقهم.

ومن بين طابور المستشرقين الفرنسيين الطويل خرج عدد قليل من أولئك الذين أنصفوا الإسلام ونبيه وحضارته، فمنهم من اصطفاه الله وكتب له الخير فأسلم واعتنق الدين، ومنهم من بقي على حاله.

وعموما فإن الكتابات المنصفة تصدر عن الغربيين بعد أن تنطوي صفحة الصراع المشتعل، حين ينتصرون في المعركة ويحسمونها لصالحهم، عندها لا يعود الشعور بالخطر قائما، وتصير الأمة المغلوبة كالجثمان الممدد أو الفريسة العاجزة، لا يُخشى منها، وعندئذ يمكن أن تبدأ دراستها بطريقة أكثر علمية وموضوعية، مثلما تجري دراسة الآثار في المتاحف، لا يستنكف أحد أن يعترف بعظمة حضارة قد دثرت وماتت.

لذلك فإن التأمل في تاريخ إنصاف الحضارة الإسلامية في الكتابات الاستشراقية سيفضي بنا إلى إدراك أن هذا الإنصاف لم يحصل إلا بعد العلو الغربي، وأما ما قبل ذلك فقد كان الجهر بإنصاف الإسلام أمرا خطيرا، فمن ذا الذي يجرؤ –ولو بدافع العلمية والموضوعية- أن يمتدح عدوه الذي يستشعر منه الخطر؟!.. إنه أمر لا يقوم به إلا أفذاذ الناس الذين يرفعون قدر الحق والحقيقة فوق كل اعتبار وكل مصلحة، ويكونون مستعدين لدفع الثمن الباهظ بمخالفتهم تيار السياسة وتيار الإعلام وتيار التحريض الشعبي. إن الذي ينطق بالحق في وقت الهزيمة والقهر وقلة النصير وشدة الخطر إنما هو في مرتبة عليا، بل هو في الإسلام "سيد الشهداء".

ومع هذا كله، ومع استيعابنا لهذه الظروف التي تسمح بالكلمة المنصفة، فإنه لا بد أن نُقَدِّر أيضا أولئك الذين أنصفوا ديننا ونبينا وتاريخنا، فلم يزل هذا الإنصاف مغامرة غير آمنة في كل الأحوال، لا سيما في فرنسا، ومن يتابع أعمال المستشرق المعاصر فرانسوا بورجا يرى بنفسه بعضا من هذه المعاناة التي يلقاها، والتهم التي يُرمى بها، ليس ذلك إلا لأنه جال كثيرا من بلدان العالم العربي ورأى الصورة التي تحجبها فرنسا، وتلمس التاريخ الذي لا يُدَرَّس فيها.

وبعض أولئك الذين حاولوا إنصاف الإسلام وحضارته ورسالته سلك مسالك متنوعة وحذرة في إزجاء المدح الواضح، وامتلأ حديثه بالاستدراك والاستثناء وطرح الاحتمالات، كأنه يحاول أن يجد طريقا لا يخون به العلم ولا يزعج به الحالة السائدة.

في هذه السطور القادمة التقطنا بعض هذه الشهادات المنصفة التي صدرت عن مستشرقين منصفين، وغرضنا منها أن نبين: أن الباحث إذا أخلص لوجه الحقيقة وتجرد لها فإنه سيصل بمشيئة الله إليها، حتى لو كانت بيئته وثقافته تنطلق من المعاداة.

 

1. تحدث المستشرق الفرنسي وعالم الاجتماع المعروف جوستاف لوبون عن الفتوحات الإسلامية فقال: «وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم ... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا مثل دينهم... وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم، التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم»[1].

ويعد كتاب "حضارة العرب" لهذا المستشرق شهادة ضخمة على أن الأمة الإسلامية كانت خير أمة أخرجت للناس، وإن لم يخلُ من أخطاء وهنَّات، إلا أنه كتاب إذا قرأه الجاهل كان له بمثابة الصدمة التي يعرف بها قدر هذه الأمة.

2. وصف الشاعر الفرنسي الشهير ألفونسي دي مارتين نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنه فيلسوف، خطيب، نبي، مشرع، مقاتل، فاتق أفكار، باعث عثائد في شريعة لا صور فيها ولا تماثيل، مؤسس عشرين مملكة على الأرض ومملكة روحية، ذاك هو محمد. ومهما تكن المعايير التي نقيس بها العظمة الإنسانية، فإننا نتساءل: أي إنسان كان أعظم منه؟"[2].

3. قال المستشرق والقانوني الفرنسي مارسيل بوازار عن تسامح الإسلام مع غير المسلمين وحفظه لحقوقهم: "الإسلام يتراءى أكثر تسامحًا كلما قَوِيَ واشتدَّ على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتنص الآية القرآنية التي تمنع الإكراه على اعتناق الدين عن تأكيد لا يتزعزع، وقوة الأُمَّة تُوَفِّر للمؤمن ألا (يُخِيفَ) اليهودي ولا المسيحي، وأن يحترم -بالتالي- شخصهما ودينهما ومؤسساتهما ... وينبغي من جهة أخرى الإشارة إلى أن الشعوب الإسلامية بمختلف نزعاتها، الدينية أو الفلسفية، قد قاست ما قاساه المعاهدون حين بلغ جو التعصب ذروته [في السلطة]، إن لم تكن قاست أكثر مما قاسوا. وتنقل الكتب مثلا أن أحد المسلمين لم ينج من القتل على أيدي زمرة تخالفه الرأي إلا بعد أن ادعى أنه ذمي".

ويتحدث عن قيمة الدين في صمود هذه الأمة وتماسكها رغم كل ما أريد لها من التمزيق فيقول: "كان الدين حافزا فعالا على تأليف كيان متميز لم تصدعه صروف الدهر، والاحتكاك بمختلف الحضارات على مر العصور .. ولقد تمكن المجتمع الإسلامي -الذي قام على الدين- من الصمود في وجه التفكيك السياسي، ولم تتأثر الروابط الدينية على الحدود والتخوم بين الدول كبير التأثير".

ويرى بوازار أن هذا الأمر لا يتقصر على الماضي بل "إن القرآن لم يقدر قط لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة"[3].

4. ويؤكد المستشرق الفرنسي كارا دي فو على أن "السبب الآخر لاهتمامنا بعلم العرب هو تأثيره العظيم على الغرب؛ إن العرب ارتفعوا بالحياة العقلية والدراسة العلمية إلى المقام الأسمى، في الوقت الذي كان العالم المسيحي يناضل نضال المستميت للانعتاق من أحابيل البربرية وأغلالها"[4].

5. ويقول المستشرق والقانوني الفرنسي جاك ريسلر عن شمولية الإسلام: "إن القرآن يجد الحلول لجميع القضايا، ويربط بين القانون الديني والقانون الأخلاقي، ويسعى إلى خلق النظام والوحدة الاجتماعية، وإلى تخفيف البؤس والقسوة والخرافات، إنه يسعى إلى الأخذ بيد المستضعفين، ويوصي بالبر، ويأمر بالرحمة وفي مادة التشريع وضع قواعد لأدق التفاصيل للتعاون اليومي، ونظم العقود والمواريث، وفي ميدان الأسرة حدد سلوك كل فرد تجاه معاملة الأطفال، والأرقاء، والحيوانات، والصحة، والملبس ... إلخ"[5].

6. ويقول المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديل في استعراضه لأخلاق المسلمين: "لا يمكن إنكار أن الإسلام مارس فضائل حقيقية وخاصة منها الفضائل الاجتماعية، وهي استجابة لنداءات القرآن، نعثر فيها على أساليب تضيف إلى وصايا الله، وتبدو كأنها استمرار للبر؛ وذلك كما تحدد الآية الرائعة التالية: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}. فالتعاون وحسن الضيافة والكرم والأمانة للالتزامات -التي تؤخذ تجاه أعضاء المجتمع والاعتدال في الرغبات والقناعة- تلك هي الفضائل التي لا تزال تميز المسلمين، وهي مثالية حقيقية، تريد أن ترتقي بقوى الطبيعة البشرية، والتي تكفي لإعطائهم عزة نفس وكرامة كان يجهلها عرب الجاهلية"[6]

7. يقول هنري دي كاستري -الكاتب والعسكري الفرنسي الذي خدم في الجزائر- والذي قال: "أنا قد قرأت التاريخ، وكان رأيي -بعد ذلك- أن معاملة المسلمين للمسحيين تدل على ترفع عن الغلظة في المعاشرة، وعلى حسن مسايرة، ولطف مجاملة، وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين إذا ذاك، وخصوصا أن الشفقة والحنان كان عنوان الضعف عند الأوربيين، وهذه الحقيقة لا أرى وجها للطعن فيها على وجه العموم"، ويقرر أنه "لو كان دين محمد انتشر بالعنف والإجبار، للزم أن يقف سيره بانقضاء فتوحات المسلمين، مع أننا لا نزال نرى القرآن يبسط جناحه في جميع أرجاء المسكونة"[7]

8. ونختم بكلمة إنصاف للمستشرق الفرنسي المعروف أندريه ريمون والذي تخصص في دراسة البلاد العربية تحت الحكم العثماني، أنصف فيها العثمانيين وكيف كان العالم الإسلامي هو الملجأ الذي استقبل اليهود الفارين من التعصب المسيحي الكاثوليكي، يقول: "إن إنشاء الإمبراطورية العثمانية كان له بصفة عامة أثر إيجابي على مركز اليهود. وقد لجأ العديد من اليهود إلى البلاد الإسلامية للاحتماء بعد طردهم من إسبانيا أو هروبهم منها وذلك خلال الفترة بين عامي 1492 م و 1496 م ثم في القرن السادس عشر ... وقد مارس اليهود في المدن العربية الكبيرة حيث تمركزت جاليتهم أنشطة متنوعة: من المعروف أن أشغال المعادن الثمينة وأعمال الصرافة هي مهنتهم التقليدية. وفي القاهرة كانت حارة اليهود تقع في قلب المدينة بجوار الصاغة، كما كان اليهود يعملون أيضا في دار سك النقود. وكانوا يقومون بدور نشيط في التجارة الخارجية إذ كانوا يصدورن المنتجات المحلية ويستوردون المنتجات الأوروبية، وذلك بفضل علاقاتهم مع اليهود الأوروبيين. وتمكنوا بفضل رؤوس الأموال التي جمعوها من القيام بأنشطة بنكية في البلاد التي كانت البنوك فيها غير متطورة"[8].

 نشر في مجلة المجتمع الكويتية، نوفمبر 2020



[1] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، ص605.

[2] ألفونسو دي لا مارتين، مختارات من كتاب حياة محمد، ترجمة: د. محمد قوبعة، (الكويت: مؤسسة جائزة البابطين، 2006)، ص124.

[3] مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، ترجمة: د. عفيف دمشقية، ط1 (بيروت: دار الآداب، 1980 م)، ص202، 73، 74، 109.

[4] كارا دي فو، "الفلك والرياضيات"، ضمن: توماس أرنولد (إشراف)، تراث الإسلام، تعريب: جرجيس فتح الله، ط2 (بيروت: دار الطليعة، 1972م)، ص564.

[5] جاك ريسلر، الحضارة العربية، ترجمة: خليل أحمد خليل، (بيروت: عويدات للطباعة والنشر، د. ت)، ص51.

[6] دومينيك سورديل، الإسلام، ترجمة: سليم قندلفت، ط2 (دمشق: دار حوران، 2003م). ص107.

[7] هنري دي كاستري: الإسلام خواطر وسوانح، ترجمة: أحمد فتحي زغلول، ط1 (الجيزة: مكتبة النافذة، 2008م)، ص79، 131.

[8] أندريه ريمون، المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، ترجمة: لطيف فرج، ط1 (القاهرة: دار الفكر للدراسات، 1991 م)، ص 84، 85.