تخوف عمر رضي الله عنه من انحلال الإسلام من النفوس إذا نشأت أجيال
لا تعرف الجاهلية، فقال: "تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من
لم يعرف الجاهلية".
وذلك أن الذي لم يعرف مرارة الجاهلية وقبحها وظلمها واستعبادها
للبشر، لن يفهم ولن يقدِّر عظمة نعمة الإسلام وعظيم تكريمه للناس.
وفي زماننا هذا تواجهنا مشكلة مركبة معقدة، ذلك أن الكثرة العظيمة
الغالبة لا يشعرون أنهم في جاهلية، ولا يشعرون بقسوتها وظلمها وعبوديتها، لقد
غرتهم الجاهلية الغالبة التي زخرفت نفسها فجعلتهم يرون هذا كله من النظام والقانون
والجدية والكفاح!
وقد تأثر بهذا كثير جدا -بل أكثرُ- المتكلمين بالإسلام من دعاته
وعلمائه، ذلك أنه نشأت أجيال لم تعرف كيف كانت الحياة في المجتمعات الإسلامية قبل
عصر الجاهلية الجديدة هذه، أو لنقل: إن الجاهلية الجديدة لم تسمح لهم إلا بمعرفة
مساوئ وقبائح ما وقع في العصور الإسلامية من بعض الظلم والفساد والحروب ونحوها، مع
ما زادته في هذا من التشويه، بحيث أنه لو صحَّ كل ما ينسب إلى هذه العصور من قبائح
ثم قورن بما يحصل في عصرنا لكانت تلك العصور جنة بالنسبة لما نحن فيه. إلا أننا
ندرس ذلك كله ونتلقه كقبائح وندرس ما يناظرها في عصورنا هذه على أنه نظام وقانون
وانفتاح وحرية وما إلى ذلك.
وهذه العصور الإسلامية، عصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين، قد
وقع فيها فعلا ما هو انحراف واضح عن الإسلام، يزيد هذا فيها وينقص.. فأما الإسلام
نفسه وأحكامه وشرائعه فهي تكاد الآن تكون مجهولة بالكلية في الشؤون التي تختص
بالحكام والمجتمعات، أي في الشؤون التي تغلب عليها الثقافة المعاصرة أو الجاهلية
المعاصرة.
فلا يقال مثلا: شريعة الإسلام في المسألة كذا، ولكن العصور الإسلامية
انحرفت في كذا وكذا.. بل يؤتى ببعض أقبح لحظات الظلم من تلك العصور فينسب إلى الإسلام
رأسا، ثم يوضع في مقابله حكم الجاهلية المعاصرة مزخرفا ومزينا وبراقا.. فلهذا نشأ
في أجيال المتثقفين من نفر من الإسلام وتاريخه نفورا شديدا، بل تأثر بهذا كثير من
الدعاة والعلماء وكانت لهم قسوة مستنكرة على التاريخ الإسلامي وعلى كثير من
علمائه.
ولن يكون ثمة علاج لهذه المعضلة إلا بالقراءة لمن تحرر من ضغط
الثقافة المعاصرة الغالبة، واستطاع أن يقف على ثقة من نفسه ودينه، وينظر إلى
الحاضر متحررا منه متجردا من ثقله، قادرا على محاكمته وتقييمه بمعيار الإسلام..
ولهذا كثيرا ما أنصح بقراءة كتب: سيد قطب، ومحمد قطب، وعلى عزت بيجوفيتش، وإبراهيم
السكران، وعبد العزيز الطريفي.. بل أزيد فأقول: إن كتب المستشرقين المستوعبين
لتناقض الإسلام مع الواقع الغربي المعاصر أنفع في أكثر الأحيان من قراءة كتب بعض
الدعاة المنهزمين أمام المواقع المتشربين لثقافته.
هذا الكلام كله هو بمثابة الخاطرة المستمرة التي تقفز أمامي دائما مع
كل كتاب جديد وكل قراءة جديدة، واليوم قد فاض الكيل بينما كنت أقرأ في كتاب
"التفسير والبيان" للشيخ الطريفي حفظه الله وفك أسره، إذ تناول أحكام
السجن والنفي لدى مروره على قول الله تعالى (قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو).
وموضوع السجن هذا من الأبحاث التي أضعها على جدولي (الذي يطول ويزيد،
ويضيق عنه الوقت وتضعف أمامه الهمة) منذ زمن، ولكني لم أنهض له بعد، وسأذكر الآن
قناعتي التي وصلت إليها، ولكني لست على استعداد للجدال فيها الآن، ألا وهي: إن
الرق والعبودية التي كانت سائدة في المجتمعات الإسلامية خيرا للإنسان والمجتمع من
السجون المعاصرة (بما في ذلك السجون الغربية)، وهذه قناعة تضافر في تكوينها
القراءة في أحكام الرق وفي أحوال الرقيق في المجتمع الإسلامي ثم في تجارب السجون
المعاصرة سواء من خلال علم النفس أو علم اجتماع الجريمة وأدب السجون. وأعلم أن هذا
الكلام سيبدو غريبا وشاذا لدى أكثر القارئين، ومع هذا فلنؤجل النقاش فيه إلى حينه.
نعود الآن لما كتبه الشيخ الطريفي، وسأنقل منه عبارات قصيرة منفردة،
من كلامه الذي هو نفسه مختصر موجز:
1. مدة السجن:
"الأصل في السجن والنفي: منعُ وقوعه بلا حدّ وضبطِ مدة يعرف
الجاني أقصاها، ويعرف ورثته وزوجه ومن له حق عليه من أهل العقود والمنافع ذلك،
ويجوز حبس من لا يندفع شره إلا بنفيه وسجنه، كمن يتوعد بقتل لغيره، والزنديق
ليتوب".
"وقول جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والحنابلة: إنه
يجوز إطلاق مدة السجن وربطها برجوع المفسد عن فساده.
قال أحمد في المبتدع الداعية: يحبس حتى يكف عنها، وقال بهذا أبو يعلى
وابن فرحون وغيرهم
وقال أبو عبد الله الزبيري -من أصحاب الشافعي- تُقَدَّر غايته بشهر
للاستبراء والكشف، وبستة أشهر للتأديب والتقويم
وقال الماوردي: فالظاهر من مذهب الشافعي: تقديره بما دون الحول ولو
بيوم واحد؛ لئلا يصير مساويا لتعزير الحول في الزنى
وُمحال أن يعزم رجل على قتل رجل أو
إفساد في الأرض ويعلن ذلك وهو في سجنه، ثم يقول عالم معتبر: يجوز إخراجه ليقتل
خصما يتوعده بلا حق.
وإنما مراد من قال من العلماء بمنع إبقاء السجين في سجنه إلى أجل غير
معلوم في حال التعزير على ذنب وجرم، لا في حال الخوف المتيقن من القيام بجرم، ولا
عبرة بالظن هنا، وليس كل ذنب يعزم الإنسان على تكراره يسجن فيه إلى أجل غير
معلوم".
2. النفي قبل السجن:
"النفي سجن موسع، والسجن عقوبة وعذاب للنفس أولا، ثم للبدن: أن
تتعطل قواه عن الحركة فتضعف، ويتعطل عقله ويُحرم من مشاهدة آيات الكون فيضعف،
ويفقد الصلة بمن يعرف من أهل وقرابة وصداقة فتفقد حواسه الخمس متعتها، فتتعذب
بذلك.
فلا يجوز المصير إلى السجن إلا بجُرم بيِّن؛ فيُبْدأ بالنفي، وإن
استحق لعِظَم جرمه السجنَ، سُجِن".
3. السجن على النية:
"ولا يجوز السجن لمجرد النية؛ فآدم وحواء نهاهما الله عن قرب
الشجرة، ولا شك أنهما نويا القرب قبل القرب، والله يطّلع على السريرة كما يطّلع
على الجريرة، ولم يعاقب سبحانه إلا على الفعل، ومع هذا لم ينزل الله العقوبة
عليهما بمجرد العزم والهمّ والقصد الجازم.
بخلاف وجود العزم الذي لا يُدفع إلا بالحبس؛ حيثُ لا يؤمن من عمله،
أما التأديب على النية فلا يجوز في الدين".
4. معنى الحبس ومساحة السجن:
"والتوسع في السجون اليوم، ومن ذلك: السجن في أماكن ضيقة لا
تتسع إلا للواحد ممتدا، جُرْمٌ عظيم، وخطأ جسيم، وعقوبة ما نزل بها الشرع. قال ابن
تيمية: الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من
التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم
عليه" [ = ما نعرفه اليوم باسم: الإقامة الجبرية]
5. الإنفاق على أسرة المنفي والسجين
"لا ينفي السلطان أحدا في فلاة وصحراء لا رزق له فيها ولا مسكن
يأوي إليه، فهذا إفضاءٌ إلى قتل، فيجب على السلطان التكفل برزقه ورزق عياله من
ورائه".
انتهى كلام الشيخ الطريفي، حفظه الله وفك أسره، ينظر في: التفسير
والبيان في أحكام القرآن، 1/ 38 وما بعدها.
ونكرر: لا ننفي أنه وقع انحراف في العصور الإسلامية يزيد أو ينقص عن
هذه الأحكام، ولكن المصلحين الذين ينادون بعودة الحياة الإسلامية وتطبيق الشريعة
ينادون بالعودة إلى هذه الأحكام لا بالعودة إلى عصور الانحراف!
وهذا مع التاكيد والتكرار أن انحراف
تلك العصور لا يساوي بحال انحراف الجاهلية المعاصرة التي استعبدت الإنسان حرفيا:
عقلا وروحا وتفننت في صناعة وسائل التعذيب وأساليب التحقيق وفلسفة بناء السجن
وتقسيمه وأدوات مراقبته وعزله.. هذا فوق أن السجن في أيامنا هذه هو أول العقاب
وليس آخره، فعقوبة النفي قد صارت في زماننا هذا حلما وأمنية وليست عقوبة أخف من
عقوبة السجن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق