السبت، مايو 09، 2020

نصيبك من القرآن نصيبك من العمل


كتب د. محمد بن عبد الله الخضيري رسالته للدكتوراة في التفسير، فجاءت عملا علميا ضخما وعزيزا عن "تفسير التابعين"، وقد حصل على الشهادة العلمية بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بتبادل الرسالة مع الجامعات.

وقبل أن يجذبني الثناء للاستطراد في الحديث عن الكتاب أدخل مباشرة إلى واحدة من النتائج التي استخلصها، تلك هي أنه وجد ميلا إلى التخصص في تفاسير التابعين، فقد برزت مدرسة المدينة المنورة في التفسير في جانب السِيَر ورواية الأخبار والأحاديث والسنن، وذلك أن النبي عاش بين ظهرانيهم فكان لهم اهتمام بما نُقل عن النبي من الآثار والأخبار. بينما برزت مدرسة التفسير في مكة المكرمة في جانب مسائل الحج ودراسة آيات الأحكام الخاصة به وذلك لقربهم من المشاعر وكثرة سؤال الوافدين عليها. بينما برزت مدرسة التفسير في البصرة في جانب اللغة والفصاحة ومعرفة الغريب، وذلك لوقوعها على حدود البادية وكثرة القادمين إليها من الموالي الذين لم يكثر فيهم اللحن فحفظت هذه المدرسة شأن اللغة العربية من اللحن بالسبق إلى تدوينها. وأما مدرسة الكوفة فقد برزت في استنباط الأحكام الفقهية والاستكثار منها. وأما مدرسة الشام في التفسير فقد برزت في أحكام الجهاد لأن الشام كان قلب حركة الجهاد، ولأن أهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد.

ومثل هذا البروز ظهر في أئمة التفسير كأفراد أيضا؛ فقد تميز مجاهد في علم القرآن ولم يقاربه أحد في كثرة المروي من التفسير، وبرز الحسن البصري في جانب الوعظ والتوجيه، وبرز سعيد بن المسيب في جانب الأحكام لا سيما مسائل الطلاق، وبرز عطاء في فقه المناسك[1].

ومن هذا يتبين لنا أن الإنسان ينتفع بالقرآن بحسب الحاجة التي تفرض نفسها أو بحسب الشأن الذي انتدب الإنسان نفسه فيه، فمن انتدب نفسه للوعظ فسيكون انتفاعه من القرآن في هذا الباب أعظم من غيره، وكذلك الذي انتدب نفسه للفقه أو للجهاد أو للسير أو لمجادلة أهل العقائد والأديان الأخرى.

وهذا الأمر يفسر لم كانت أشهر التفاسير المعاصرة يغلب عليها ما لم يكن غالبا على التفاسير القديمة، فقديما كان المفسرون يؤلفون تفاسيرهم فتتنوع اهتماماتهم منه فمنهم من يعنى بجانب اللغة والبيان لإبراز بلاغة القرآن وفرادة ألفاظه ومعانيه، ومنهم من يعني بجانب جمع المأثور من أقوال النبي والصحابة والتابعين لمواجهة شطحات التأويلات الفلسفية أو الباطنية، ومنهم من يعني بجانب يرى أن الحاجة ماسة إليه في عصره وبلده كالأحكام أو العقيدة والوعظ وغيره.

ولا شك أن كل هذه الاتجاهات استمرت في عصرنا هذا، إلا أن أشهر التفاسير في عصرنا برز فيها جانب توضيح هداية القرآن وإثبات محاسن الإسلام، ومثل هذا المعنى لم يكن مسيطرا على التفاسير من قبل، وما ذلك إلا لأن الأمة قبل عصر الضعف والاحتلال الحالي كانت لا تواجه محنة التشكيك في الإسلام ولا الانبهار بحضارة أمة غالبة عليها، كان القرآن في العصور الماضية هو المرجعية العليا التي يستدل بها المتخالفون ويحاول كلٌّ منهم الاحتجاج لمذهبه واتجاهه من خلال القرآن نفسه (وفي هذا يمكن مراجعة الدراسة المتميزة "العقائدية وتفسير النص القرآن" لياسر المطرفي)، بينما جاءنا هذا العصر بمحنة أن الإسلام نفسه صار في موضع الضعف والتهمة والتشكيك.

ومن هنا سعى المفسرون المشتغلون بهموم الأمة وقضاياها إلى تناول التفسير بما يُظهر هداية القرآن ومحاسن الإسلام وخفت عندهم جانب العناية باللغة والتركيب أو جانب العناية بالأحكام الفقهية أو جانب مجادلة الفرق والمذاهب الإسلامية، وتلك هي التفاسير التي اشتهرت أكثر من غيرها في واقعنا المعاصر كتفسير المنار للشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا، وتفسير الظلال للأستاذ سيد قطب، وتفسير الشيخ سعيد حوى، وتفسير الشيخ الشعراوي.

وبعض التفاسير طغى عليها الاهتمام العلمي والعناية التي لم توجد من قبل في كتب التفسير بالحديث عن العلوم وما تشير إليه الآيات من دقائق الخلق وبدائع المخلوقات، مثل تفسير الشيخ طنطاوي جوهري المعروف بتفسير الجواهر، وهي الظاهرة التي تطورت في كتب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، حتى صار من المشروعات المأمولة لدى المهتمين بهذا الباب: إخراج تفسير علمي للقرآن الكريم. وما ذلك إلا لطغيان العلموية في عصرنا هذا حتى صار كأنه المرجعية العليا التي يُحتكم إليها ويقاس بمعيارها كل شيء، فصار من الهموم الإسلامية المعاصرة إثبات أن القرآن لا يناقض العلم بل إثبات أن القرآن سبق العلم إلى كثير من الحقائق.

وثمة باب آخر من التفسير زاد الاهتمام به في عصرنا الحاضر وهو باب التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وهو الباب الذي يحاول استكشاف موضوع السورة الواحدة وعلاقة الآيات داخل كل سورة بموضوع السورة، وقد كان أول التفكير فيه قديم لكنه كثر وصار الاهتمام به ظاهرة قوية، وبرز في هذا الباب عدد من الأسماء والمؤلفات كان أوسعها "موسوعة التفسير الموضوعي" الصادرة عن مركز تفسير في عشر مجلدات. وأحسب أن السبب هو طغيان الطريقة الحديثة في التأليف البحثي الموضوعي الذي كوَّن شعورا عاما غالبا ينفر من الاستطراد والخروج عن الموضوع، ويضع الشروط القاسية لتكون كل فقرة وكل سطر منها ذا وظيفة واضحة وجزءا لا يمكن الاستغناء عنه من البنيان البحثي الكلي للفكرة. ولم تكن هذه الطريقة في التأليف طاغية في العصور السالفة أو هو على الأقل لم يكن التأليف محكوما بمثل هذه الطريقة فكان المؤلفون يكثرون من الاستطراد والبيان فيما يرون أنه مما يلامس الموضوع، ومن ثمَّ فلم يغلب على الأقدمين الاهتمام بشأن موضوعات السور، لكون الطريقة الموضوعية لم تكن مُلِحَّة على أفكارهم وأذهانهم.

هذا فضلا عن ظهور محاولة جديدة لتفسير القرآن بحسب ترتيب النزول وهي المحاولة التي تحاول استكشاف "تطور الخطاب القرآني" سواء أكان ذلك لأغراض تاريخية أو دعوية أو حركية، وهذه المحاولة جاء أصلها من المستشرقين الذين حاولوا تطبيق المنهج التاريخي على القرآن الكريم وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كأن القرآن خطاب بشري وليد للزمان والمكان والظرف والحال، ولكن هذه الطريقة لم تمنع آخرين من محاولة استكشاف المنهج القرآني المتدرج في الدعوة والخطاب والبناء الحركي، وإن كانت هذه المحاولة على حد ما أعلم لم تسفر عن نتائج مهمة[2].

وإذا ابتعدنا عن هذا المضمار العلمي الفسيح والرحب، ونظرنا إلى أنفسنا، فسنجد أن القرآن الكريم يعطي المرء منه على الوجه الذي يطلبه القارئ فيه، فإن الذي يهتم ويحفل لإصلاح نفسه وتهذيب أخلاقه سيصيب من القرآن ما يصلحه ويهذبه، والذي يهتم لعلاقاته مع أهله وأولاده والناس من حوله سيصيب من القرآن ما ينفعه في هذه الأمور، والذي يهتم لإصلاح مجتمعه سياسيا واقتصاديا وفكريا فإنه سيصيب في القرآن هذه المعاني، والذي يهتم لشأن الجدل مع الأديان والعقائد وأهل الظلم والطغيان فسينهل مما يجده في هذا الباب.

إلا أن أهم ما في الأمر أن القرآن الكريم نزل ليكون دافعا للعمل لا لمجرد الثقافة الفكرية والرياضة الذهنية، فإدارك هذه المعاني إدراكا نظريا لا يترتب عليه عمل هو أمر مذموم، هكذا فهم الصحابة خطاب الله لهم فكانوا يتعلمون الآيات العشر فيعملون بها ثم يتعلمون غيرها كما قال عبد الله بن مسعود: "كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل"، وقد قدَّمنا في أول هذه السطور أن القرآن يثبت ويثمر بالممارسة والحاجة، فبحسب ما تكون فيه من العمل وبحسب الحاجة التي تطلبها بحسب ما تستفيد من القرآن الكريم حقا.. أما قراءة القرآن كما تُقرأ الجرائد أو الاستماع له كما يُستمع إلى الأغاني والابتهالات فهي إن لم تكن حجة على صاحبها يحاسب عليها فإنها لن تنفعه ولن يشعر فيها بلذة خطاب الله له بل لعله قرأ القرآن قراءة المستثقل له المتحمل العبء به.




[1] للمزيد، راجع: د. محمد بن عبد الله الخضيري، تفسير التابعين: عرض ودراسة مقارنة، ط1 (الرياض: دار الوطن، 1999م)، 1/20 وما بعدها.
[2] للمزيد، ينظر دراسة د. طه محمد فارس، "تفاسير القرآن الكريم حسب ترتيب النزول" إذ ناقش فيها المحاولات الأربعة للتفسير على هذه الطريقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق