منذ أكثر من
سنة، أجدني كلما مررتُ بسورة سبأ منجذبا بقوة إلى أن هذه السورة تحفل بالإشارات
والمعاني التي نطلق عليها الآن "علم الاجتماع السياسي"، فكثير من آياتها
تتناول مسائل السلطة والترف ونفسية المتسلطين المترفين، وكذلك نفسية التابعين
المنبهرين الذين ينجذبون لمعاني القوة والغنى، كما تقدم الحل لهؤلاء التابعين
لينقذوا أنفسهم من سطوة الغالب وسطوة الثقافة السائدة الغالبة.
وما زلتُ أقدم
رجلا وأؤخر أخرى في أن أخوض هذا الأمر، لا سيما بعد أن تجولت في التفاسير فانتفعت
بشذرات من هنا وهناك دون أن أجد أحدا فتح هذا المعنى أو ولج هذا الباب، حتى إذا
مررتُ بها في شهر رمضان وجدت في نفسي عزما أن أكتب ما جال في خاطري، واضعا ذلك
أمام أهل العلم والمتخصصين، فإما أن يكون فيه نفع فحسبي منه هذا، وإما أن يردوا
علي ما أقول فلا أجد في نفسي حرجا من تمزيقه وإهماله.
إنني أجد في
نفسي شعورا قويا غالبا أن هذا المعنى يجعل السورة تستقيم على هيئة واحدة في نفسي،
ولولا أن الأمر بلغ من نفسي مبلغه من الوضوح والقوة لما تجرأت عليه، فأسأل الله أن
يعين ويسدد، كما أسأله تعالى أن يغفر ويرحم.
(1)
سرد القرآن
الكريم كثيرا حجج الكافرين في إنكار النبوة والبعث، وكيف أنهم يتحججون على هذا
بحجج متهافتة كأن يقولوا كيف بعد أن نكون ترابا نبعث مرة أخرى؟ وكيف يؤمن أراذل
الناس ولا نؤمن نحن أصحاب العقول والحكمة؟ ولماذا لم ينزل القرآن على رجل من
القريتين عظيم؟ وما رأيك أن تفجر لنا الينابيع وتبني لنفسك القصور وتصطحب معك
الملائكة ونحن نؤمن بك.. ونحو هذه الحجج الكثيرة.
لكن في هذه
السورة نجد أنفسنا أمام نفسية أخرى، إنها نفسية المستكبر الساخر المتأفف الذي يقطع
برأيه ووجهة نظره دون أن يحاول تقديم حجة مقنعة، بل دون أن يبحث عن حجة، إنه يقرر
آراءه كأنها حقائق من غير أن يكلف نفسه إثباتها أو الاحتجاج لها.. لذلك ترى
عباراته قصيرة، قاطعة، حاسمة، يقولها صاحبها كأنه يختم الكلام وينهيه ويفصل فيه!
إنها النفسية التي نراها في صاحب السلطة الطاغي
أو صاحب الترف الواسع.. لا شك أنك رأيت مثل هؤلاء وسمعتهم، وهم يقدمون آراءهم
وقناعاتهم وكأنها حقائق لا تقبل الجدل ولا تحتمل حتى النقاش، وهو إذ يقول رأيه ذاك
فإنه يسخر من المخالفين له سخرية لاذعة مستكبرة.
هكذا نراهم في
هذه السورة..
(وقال الذين
كفروا: لا تأتينا الساعة).. ولم يقولوا لماذا وصلوا إلى هذه القناعة؟
(وقال الذين
كفروا: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه)
(وقالوا: نحن
أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين)
(وإذا تُتلى
عليهم آياتنا بينات قالوا: ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم،
وقالوا: ما هذا إلا سحر مفترى، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر
مبين).
وجاء في
السورة مَثَلٌ من سخريتهم:
(وقال الذين
كفروا: هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزِّقتم كل مُمَزَّق إنكم لفي خلق جديد *
أَفْتَرَى على الله كذبا أم به جِنَّة؟!)
(ويقولون متى
هذا الوعد إن كنتم صادقين؟!)
ثم يجمل
القرآن هذه الظاهرة فيكشف أنها سنة مضطردة مستمرة، أهل الترف والسلطان هم خصوم
المرسلين: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنما بما أرسلتم به
كافرون).
ثم يكشف
القرآن عن اللحظة التي يؤمن فيها هؤلاء، إنهم لا يؤمنون إلا حين حين ينقضي الوقت
وتفوت الفرصة، حينما ينهار السلطان ويأتي الفزع، حين تنكسر قوتهم أمام القوة
العليا، قوة الله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأُخِذوا من مكان قريب *
وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد * وقد كفروا به من قبل ويقذفون
بالغيب من مكان بعيد).
ومن العجيب في
هذا الموطن أن القرآن الكريم عبَّر عن عقوبتهم تعبيرا مثير للتأمل، وذلك هو قوله
تعالى (وَحِيل بينهم وبين ما يشتهون)، فكأن أبلغ العقوبة هي منعهم من التمتع
والتنعم بما كانوا فيه من أنواع الشهوات، حتى ولو لم ينزل بهم العذاب.. وهذا أمرٌ
نراه ونبصره فيما نرى ونقرأ ونسمع عن المترفين الذين تقلبت بهم الأيام أو عن
الملوك الذين خُلِعوا من الحكم ونُزِعوا من السلطة، إنهم حتى لو لم يدركهم الفقر
والسجن والذل يظلون في عذاب مرير، إذ لا شيء يُعوض لذة السلطان أو لذة الترف، كما
قال الشاعر:
فبينا نسوس
الناس والأمر أمرنا .. إذا نحن فيهم سوقة نتنصَّف
فهذي مقالة من
هبط عن الجاه والسلطان، فصار مساويا للناس، لا هو ذليل ولا هو سجين، إلا أنه يبكي
على حال صار فيه مثل الناس، يملكون أن يشتكوه ويقاضوه، من بعد ما كان هو الآمر
الناهي السائس الحاكم عليهم.
(2)
وفي المقابل
نجد أن الرد القرآني عليهم يأتي في صيغة صاعقة هائلة القوة، تضرب أصل كبريائهم
وتنسف أساس قوتهم، فلم يكن الرد القرآني عليهم ردًّا يجادل بالحجة، إذ هؤلاء لم
يتكلموا بالحجة أصلا، ولم يكن ردُّ القرآن هنا يخاطب العقل بل يقتحم النفس
المتجبرة، وإنك لترى الآيات وهي كالعاصفة تهوي بهم، وتُخاطبهم خطاب الإله القوي
القادر القاهر، المحيط بكل شيء علما، القادر على كل شيء، الذي لا يقف أمامه شيء،
الإله الذي يتصرف بهذا الكون كله تصرفا لا معقب له، الإله الذي أعطى بعض عباده أوسع
وأقوى مما يتجبر به هؤلاء، ثم هو الإله الذي أهلك من تكبر مهما كانوا أقوى وأعظم
من هؤلاء..
سأختار بعضا
قليلا من هذه الآيات، فتأمل، واستمع:
1. أخبر الله
تعالى عن علمه المحيط الشامل الواسع فقال:
(الحمد لله
الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير)
(يعلم ما يلج
في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها)
2. وأخبر
تعالى عن قدرته الهائلة، وضعفهم المزري، فقال:
(إن نشأ نخسف
بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء)
(فجعلناهم
أحاديث ومزقناهم كل ممزق)
(وكذَّب الذين
من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم، فكذبوا رسلي، فكيف كان نكير!)
(قل إن ربي
يقذف بالحق علام الغيوب * قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)
3. وردَّ الله
على أقوالهم الساخرة ردودا لا تتناول الحجة –إذ لا حجة أصلا- بل تضرب الكبر الذي
أخرج هذه الأقوال:
(وقال الذين
كفروا لا تأتينا الساعة، قل: بلى وربي لتأتينكم. عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة
في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)
(ويقولون متى
هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون)
(وقال الذين
كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه. ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند
ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين استُضْعِفوا: لولا أنتم لكنا مؤمنين)
4. ولقد تعددت
الآيات التي نزع الله فيها منهم كل شيء، حتى لم يعد لهم لا شأن ولا قيمة:
فقد نزع منهم
حقيقة امتلاكهم لشئ في قوله: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله، لا يملكون مثقال
ذرة في السموات ولا في الأرض، وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير)
ونزع منهم
قيمتهم وقدرتهم على النفع لأحد (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)
ونزع قيمة
كثرة الأموال والأولاد (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)
(3)
ذُكِرت في هذه
السورة قصتان: قصة داود وسليمان عليهما السلام، وقصة قوم سبأ..
وكلا القصتين
يجمع بينهما معنى الترف والسلطة، إلا أن الأولى مثال للصالحين إذا آتاهم الله
المال والسلطان، والأخرى مثالٌ للمتكبرين..
لقد أوتي داود
وسليمان ما لن يبلغه أحدٌ من العالمين، لقد أمر الله الجبال والطيور أن تتجاوب مع
داود في التسبيح فكان يسمع تسبيحها، وألان الله لداود الحديد، وقد ورد في التفاسير
أنه كان يشكله بيده كما يُشَكِّل الأطفال قطع الصلصال، وأما سليمان فقد سَخَّر الله
له الريح تحمله وتنقله مسافة الشهر في بضع ساعات، وأسال له النحاس، وسَخَّر له
الجنَّ يعملون بأمره ويرتعدون من هيبته!
تلك سلطة لم
يؤتها أحد ولن يؤتاها أحد، ولا حتى القوى العظمى في عصرنا أو ما بعده، ولئن أتيح
للقوى الصناعية في عصرنا أن تصنع وتستفيد من الحديد والنحاس والمعادن، فأين هذا من
معنى التسخير الذي هو خضوع هذه المواد لصانعها؟.. إنه ما من قوة عظمى إلا وهي تتخذ
من وسائل التأمين والحماية لكل اكتشاف خشية أن ينفجر فيها أو يرتد عليها أو ينفلت
من تحكمها.. ثم أين هي القوة العظمى التي يمكن أن تُسَخِّر الجن؟!
ومع هذا
السلطان الضخم غير المسبوق ولا الملحوق فإن داود وسليمان كانا مثالا للعبد الصالح
الذي يخضع لله ويعمل بأمره ويشكر له.
وأما قوم سبأ،
فإنهم قد وجدوا أنفسهم في سعة ونعيم حتى إن مساكنهم كانت آية تحوطها الجنان، وحتى
إن المسافة التي بينهم وبين مقاصد سفرهم كانت عامرة بالقرى التي تجعل سفرهم نزهة
سعيدة لا يحتاجون فيها إلى حمل أمتعة أو التزود بطعام وشراب.. فماذا كان؟!
كان أن تكبر
المترفون منهم وسألوا الله أن يباعد بين أسفارهم، وذكر بعض المفسرين صراحة أنهم
دعوا الله لكي "يتطاولوا على الفقراء بركوب الرواحل وحمل الزاد والماء"،
فهنا ترى بوضوح نموذجا متكررا من نفسية المترفين وأصحاب السلطان، إنهم لا يحبون أن
يكونوا في مساواة مع الناس ولو في الخير، إنما يحبون التميز عنهم ولو كان الثمن هو
التعب والضنك وأن يعمَّ الناس الفقر!!
هو والله مشهد
يُذَكِّرنا بالذي يموت الناس في بلاده من الفقر والمرض والحاجة بينما همُّه وهمّته
في بناء القصور الرئاسية والملكية، وشراء الطائرات الفاخرة واليخوت الفارهة
والسيارات العجيبة الغريبة! هذا مع أنه غير محتاج لكل هذا فعنده منها ومن أمثالها
الكثير، فماذا عليه لو أغنى الناس وصار مثلهم؟!.. هذا أمرٌ يقول به العقل ولكن
ترفضه نفسية المترف المتكبر!
فعاقب الله
سبأ بتبدل الأحوال، وانقلاب الجنان العامرة والقرى الظاهرة.. جاءهم سيل العرم
فحطَّم هذا كله، ومزَّقهم، وجعلهم أحاديث.. جعلهم تاريخا، وضرب المثل بهم في
التمزق فقيل "تفرقوا أيدي سبأ"!!
(4)
إن أهل الترف
والسلطان هم أقل الناس شكرا مع أنهم أوسع الناس حظا من النعمة والتنعم، لهذا نبَّه
الله تعالى على قلة الشاكرين، فقال تعالى (وقليل من عبادي الشكور).
وإنهم مع ما
هم فيه من الترف والنعيم ينطوون على البخل والإمساك، لذلك تعددت الآيات في شأن
المال وأن الذي يملكه ويرزقه وينزله ويقبضه ويعوض عنه هو الله تعالى:
فقال تعالى عن
المؤمنين (لهم مغفرة ورزق كريم)
وضرب المثل
بقصة داود وسليمان وما آتاهما الله من الرزق الواسع والملك العريض
وقال تعالى
(قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله)
وقال تعالى
(قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
وكررها مرة
أخرى بعد أربعة أسطر فقط فقال: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له،
وما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه، وهو خير الرازقين)
ثم إنهم مع ما
هم فيه من السعة والسلطان يتحسسون من كل داعية، يحسبون أنه يريد هدم مكانتهم
ونفوذهم وأن يحل مكانهم ويقوض شأنهم، ولا يصدقون أن أحدا قد يدعوهم لدعوة هي
لصالحهم وفيها خيرهم ونجاتهم، وليس له فيها من غرض، وما ذلك إلا لأنهم أنفقوا في
تحصيل هذا الترف والسلطان من وسائل المكر والمخادعة والتلاعب والمناورة وأفانين
السوء ما صاروا معه يحسبون كل صيحة عليهم، لسان حالهم كما قال المتنبي:
إذا ساء فِعل
المرء ساءت ظنونه .. وصدَّق ما يعتاده من تَوَهُّمِ
وعادى محبيه
بقول عُداته .. وأصبح في بحر من الشكّ مُظْلِم
ونجد هذا
المدخل النفسي لديهم في قول الله تعالى موجها نبيه: (قل ما سألتكم عليه من أجر فهو
لكم، إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد).
ومن العجيب
اللافت للنظر أن بقايا من الكبر والسطوة ستبقى موجودة في نفوسهم حتى حين يحضرون
العذاب، فلهذا عاقبهم الله بالإهانة فوق عقابه لهم بالعذاب، (وأَسَرُّوا الندامة
لما رأوا العذاب، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا، هل يُجزَون إلا ما كانوا
يعملون؟).
(5)
وفيما يتعلق
بالإهانة أيضا، فإنه مما يلفت النظر في هذه السورة تكرار قول الله عز وجل الحديث
عن أولئك القوم الذين يعملون على إبطال آيات الله وتعجيزا لها (والذين سعوا في
آياتنا معاجزين)، ففي أول السورة قال تعالى (والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك
لهم عذاب من رجز أليم)، وفي أواخرها قال تعالى (والذين سعوا في آياتنا معاجزين
أولئك في العذاب محضرون). ويُرى في ختام الآيتيْن معنى الإهانة بالإضافة إلى معنى
العذاب:
فهو في الآية
الأولى (عذابٌ من رجز أليم) وليس عذابا أليما فحسب، والرجز -كما يفيد المفسرون
وعلماء اللغة- يشتمل على معنى الاضطراب والاهتزاز والارتجاف وذلك لأن أصله مرض
يصيب الناقة فيجعلها تضطرب وتهتز، ويفيد كذلك معنى الحمل الثقيل الذي يهتز ويضطرب
من يحمله، كما يفيد معنى القَذَر الذي هو قريب من لفظ "الرجس"، فهو أسوأ
العذاب.
وهو في الآية
الثانية يتحدث عن أنهم (مُحْضَرون)، فهم يُساقون ويُوقفون ويُقامون، لا سلطة لهم
ولا إرادة لهم في أنفسهم، ولا قدرة لهم على الامتناع والمقاومة والاستنكار.. فيتمّ
بهذا معنى الإهانة.
ولم يُذكر وصف
(المُعاجِزين) في القرآن الكريم إلا مرة أخرى في سورة الحج، في قول الله تعالى
(والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم)، فجاء في هذه الآية معنى
العذاب دون معنى الإهانة، مما نرجح معه أن آيات سورة سبأ إنما قصدت فئة المترفين
وأصحاب السلطة على وجه خاص، فكررت لأجل ذلك وصف العذاب المهين.
(6)
ومن أعجب وأبدع ما يلفت النظر في سورة سبأ
هو حكايتها لموقف الدار الآخرة حين يتجادل الأتباع والمتبوعين، فإن فيها لمحات لا
أعرف أنها موجودة في سور أخرى من القرآن الكريم..
لنسمع الحوار أولا:
-
(يقول الذين
اسْتُضْعِفوا للذين استكبروا: لولا أنتم لكُنَّا مؤمنين
-
قال الذين
استكبروا: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين
-
قال الذين
استُضْعِفوا للذين استكبروا: بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله
ونجعل له أندادا)
هذا الحوار
يوحي إلينا بأن أولئك التابعين إنما اتبعوهم انبهارا لا قهرا، اتبعوهم افتتنانا
بهم لا خوفا منهم ورهبة، فإنك ترى المتبوعين يتبرؤون من أنهم أكرهوهم على شيء
(أنحن صددناكم عن الهدى؟)، والتابعون يعترفون أن المسألة لم تكن إكراها بل كانت
مكرا مستمرا، وهذا المكر المستمر ليلا ونهارا هو الذي فتنهم وأذهلهم وجعلهم يصدون
عن الهدى.
يتبين هذا
المعنى واضحا حين نراجع مواقف أخرى من حوار التابعين والمتبوعين.. ففي سورة غافر
قصَّ الله علينا حوار قوم فرعون وهم في النار، فقال تعالى:
-
(فيقول
الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعا، فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار؟
-
قال الذين
استكبروا: إنا كلٌّ فيها. إن الله قد حكم بين العباد)
فهنا أنت ترى
حوارا واضحا بين تابع ومتبوع من نوع الحاكم والمحكوم، وترى في نفس المحكوم المضطهد
ذلة وضعفا لا تزال معه وهو في النار، فسؤاله عليه مسحة الرجاء الذليل والطلب
الكسير والأمل المصبوغ بالخوف والتأدب والتمسح فيقولونها بصيغة السؤال (هل) مع
التعظيم (أنتم مُغنون) مع التقليل من الطلب (نصيبا من).. ويجيئ الرد محمولا بالكبر
والعجرفة القديمة للحاكم الآمر المتسلط، فتراها عبارة قصيرة ولهجة قاطعة (إنا كلٌّ
فيها. إن الله قد حكم بين العباد)، كأنها باللهجة العامية "مش عايز دوشة، لا
تطول معي في الحكي، لا توجع لي راسي".. إلخ!
والقصد أن
الحوار هنا مفارق للحوار الذي في سورة سبأ، فحوار سورة سبأ فيه معنى انبهار التابع
بالمتبوع، وفيها معنى سيطرة المتبوع على التابع عن طريق الفتنة الناعمة، الثقافة
الغالبة، المكر الهادئ، لا على طريقة الحاكم كما هي في حوار قوم فرعون.
ونرى نوعا
ثالثا من الحوار بين أهل النار في سورة الصافات، وهو حوار بين أصدقاء أنداد، لا
يملك أحدهم للآخر إلا الاقتراح والإغراء، قال تعالى:
- (قالوا:
إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين
- قالوا: بل
لم تكونوا مؤمنين. وما كان لنا عليكم من سلطان، بل كنتم قوما طاغين. فحقَّ علينا
قول ربنا إنا لذائقون. فأغويناكم إنا كنا غاوين)
هذا الحوار الذي في سورة سبأ، بهذه الصيغة
والطريقة، مما ينسجم مع هدف السورة وموضوعها الذي يتناول أهل الترف والسلطان،
وفتنتهم عن طريق الإبهار والبريق لا عن طريق القهر والغلبة.
(7)
فما الحل؟!
ما الحل في مواجهة فتنة الترف والسلطان المبهر البرَّاق؟ وكيف يمكن أن
نتخلص من سطوة الغالبين وننجو من طبيعة المغلوبين في تقليد من غلبوهم.
في سورة سبأ ستأتينا الآية العظيمة التي تقول: (قل إنما أعظكم بواحدة: أن
تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا).
وهذه الآية هي الأصل في فهم علم نفس الجماهير الذي يُنسب البدء فيه إلى
المستشرق والفيلسوف الفرنسي الكبير جوستاف لوبون، بينما نجد في كلام المفسرين وفي
كلام وتصرفات سلفنا الصالح ما يدل على أنهم سبقوا إليه ونصُّوا عليه، ولا عجب! فإن
لوبون نفسه يُقِرَّ بأن هذا العلم وإن كان هو أول من كتب فيه فإن سائر الزعماء
قبله طبقوه فعلا.
لكننا هنا لا نتحدث عن مجرد تطبيق، فهذا مفروغ منه، وإنما نقول: إن هذه
الآية قد أشارت إلى هذا الطبع الجماهيري في التفكير، وأنه طبع غير عاقل، وأن من
أراد الحق فعليه أن ينخلع من تأثير الجماهير فيختلي بنفسه أو يصطفي معه صديقا
مقربا مخلصا ثم يفكر أو يفكران، فهنا يستطيع ويستطيعان التخلص من فتنة الغالبين
المبهرين، ومن تأثير الجماهير عليهم.
ولا بأس من جولة سريعة في أقوال المفسرين والسلف الصالح في هذا المعنى:
لقد ذهب أبو
حاتم إلى أن المعنى تامٌّ عند قوله "ثم تتفكروا" وأن "ما
بصاحبكم" بداية جملة جديدة، و"ما" تكون نافية، فيكون المعنى: قوموا
لله مثنى وفرادى ثم تفكروا، فستصلون إلى أن نبيكم ليس به جنون! وبهذا يكون مطلب
القيام مثنى وفرادى مطلبٌ قائم بنفسه. وقال غيره من أهل التفسير أن المعنى هو أن
تتفكروا: هل بصاحبكم من جنة، فـ "ما" هنا استفهام[2].
وعلى المعنيين
فالشاهد المقصود أن التفكير السليم إنما يكون بالانخلاع عن المجموع وأن يكتفي
المرء بنفسه أو بآخر فحسب، قال مقاتل: "يتفكر الرجل وحده ومع صاحبه فيعلم
ويتفكر"[3]،
وقال ابن قتيبة: "فتقوموا لله وفي ذاته، مقاما يخلو فيه الرجل منكم بصاحبه
فيقول له: هلمّ فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل جنّة قط أو جرينا عليه كذبا؟ فهذا
موضع قيامهم مثنى. ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه
فيفكّر وينظر ويعتبر، فهذا موضع قيامهم فرادى. فإنّ في ذلك ما دلهم على أنه نذير. وكل من تحير في أمر قد اشتبه عليه واستبهم،
أخرجه من الحيرة فيه: أن يسأل ويناظر، ثم يفكّر ويعتبر"[4].
واستخرج
الزمخشري من الآية طبيعة التفكير في المجموع، قبل ثمانية قرون من حديث المعاصرين
في هذا الموضوع، يقول: "والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق
وتخلصتم، وهي: أن تقوموا لوجه الله خالصا. متفرّقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، أمّا الاثنان:
فيتفكران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين
متناصفين، لا يميل بهما اتباع هوى ولا ينبض لهما عرق عصبية، حتى يهجم بهما
الفكر الصالح والنظر الصحيح على جادة الحق وسننه، وكذلك الفرد: يفكر في نفسه بعدل
ونصفة من غير أن يكابرها ويعرض فكره على عقله وذهنه وما استقرّ عنده من عادات
العقلاء ومجارى أحوالهم، والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى: أنّ الاجتماع مما
يشوّش الخواطر، ويعمى البصائر، ويمنع من الروية، ويخلط القول، ومع ذلك يقل
الإنصاف، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب. ولا يُسْمَع إلا نصرة المذهب"[5].
وأضاف أبو حيان
الأندلسي أن هذا التفكير "مُشَاهدٌ
في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة، فلا يوقف فيها على تحقيق"[6]. وأضاف الطاهر بن عاشور أن السلامة من عوائق
التفكر السليم تقتضي أن يكون "مثنى وفرادى فإن المرء إذا خلا بنفسه عند
التأمل لم يرض لها بغير النصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنما يختار ثانيه أعلق
أصحابه به وأقربهم منه رأيا فسلم كلاهما من غش صاحبه"[7].
وفي صدر
الإسلام، في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سمع عمرٌ كلام بعض الناس في شأن
الخلافة وهو في موسم الحج فأراد معالجة الأمر بخطبة في الناس، فقال له عبد الرحمن
بن عوف رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس
وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول
مقالة يُطَيِّرها عنك كل مُطَيِّر وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها،
فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف
الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها"[8].
فهنا خشي عبد الرحمن بن عوف أن يؤثر أمر الجموع والحشود على حسن فهم الكلام
وتعقله، ونَصَحَ بأن يقال ذات الكلام في حضور أهل الفقه وأشراف الناس، بل إن في
كلام عبد الرحمن بن عوف إشارة إلى أن الجماهير تؤثر على إلقاء الكلمة نفسها، وذلك
في قوله "فتقولَ ما قلتَ مُتَمَكِّنًا"، فالكلام في الحشود
الكثيرة قد يذهب أحيانا بالتمكن المطلوب.
وفي هذه الوصية
من عبد الرحمن بن عوف معنى آخر يُدرس في مباحث علم نفس الجماهير، وهو أن الجماهير
تهتبل كلام القائد الذي يخطب فيها وتنقله دون وعي في العموم، وهذا من جاذبية
القائد وسحره عليهم، وقدرته على التأثير فيهم، ولهذا استخرج العلماء من هذا النص
التفريق بين أمور البلاغ العام التي تنقل للجميع وبين الأمور التي تحتاج إلى
الموازنة والحكمة وبيان الحوادث التاريخية الدقيقة، فهي التي فيها يكون الانفراد
بوجوه الناس، ممن يعقل وضع الأشياء في مواضعها، وأن العلم لا يحدث منه الناس إلا
بما يرجى ضبطهم له[9].
وعلق القاضي ابن العربي على هذه الوصية بقوله: "كان خوف سوء التأويل للقول،
وحمله على غير وجهه، مخوفا في الصدر الأول"[10].
ومن أشهر ما
ينقل عن علي رضي الله عنه في هذه العلاقة بين الجمهور وشأن العلم والتفكير قوله
رضي الله عنه: الناس عالم أو متعلم على سبيل النجاة أو همج رعاع أتباع كل ناعق
يميلون مع كل ريح[11].
ويُلاحظ هنا إفراده العالم والمتعلم فلم يقل "العلماء" أو
"المتعلمون"، بينما جَمَع في وصف الجهل، وأضاف إلى ذلك الوصف بأنهم
أتباع كل ناعق، ويميلون مع كل ريح. وهذا هو جوهر معنى التأثير في الجمهور المحتشد
وتوجيهه حتى لكأنه يفقد العقل والرشد، فيصير تبعا لكل صيحة ومستسلما لكل ريح!
وإذا استوعبنا
هذه العلاقة بين الجموع والتفكير العقلاني، فهمنا كثيرا من سلوك العلماء في حلقات
العلم وتضييقها على من تثبت جديتهم من التلاميذ وتراثهم في آداب المتعلم من جهة
خفض الصوت ولزوم الأدب وتجنب الشغب والمماراة وكراهيتهم المناظرة بحضرة الجمع
الكثير وغيرها من الأمور التي لا يتسع المجال لسردها مما يؤثر فيها كثرة الجمهور
على فهم العلم، وأما الجموع الكثيرة فقد جعلوا لها الوعظ العام والكلام في الرقائق
وعمومات الدين وأصوله الكبرى ونحو ذلك.
وموضوع علم نفس
الجماهير، وأصوله المنثورة في القرآن والسنة وكلام سلفنا الصالح موضوع طويل، وكنتُ
شرعتُ في كتابته ثم توقفت.. فلعل القارئ الكريم يعينني بدعوة صالحة لأستأنف هذا
البحث فيها.
فإذا عدنا من
هذا الاستطراد إلى سورة سبأ، وجدنا أن السورة احتوت على حلول أخرى للنجاة من فتنة
الغالبين من المترفين وأهل السلطان، وقد جاءت هذه الحلول تصريحا أو تلميحا:
- فكل إيمان
بالله وبقوته وقدرته وعلمه الهائل المحيط يعصم من هذه الفتنة
- والإيمان
بالآخرة وتذكرها يعصم من هذه الفتنة (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب
والضلال البعيد)
- وكل اقتداء
بعباد الله الصالحين كداود وسليمان يعصم من هذه الفتنة
- وكل اتعاظ
بمصائر المترفين كقوم سبأ يعصم من هذه الفتنة
- والحث على
الإنفاق في سبيل الله، وهو منثور في السورة، يعصم من أن تتكون نفسية المترف في قلب
المسلم، فتعصمه بهذا من أن يُفْتَن أو يَفْتِن.
نسأل الله تعالى أن
يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يفقهنا في كتابه الكريم.