الخميس، أكتوبر 24، 2019

الاتفاق التركي الروسي، وإيقاف "نبع السلام".. نصر أم نكبة؟


بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..


أتردد منذ الأمس في الكتابة حول الاتفاق التركي الأخير، إنها واحدة من أصعب اللحظات على المسلمين، ويوم أمس يعتبر يوم حزن عظيم على ما حل في سوريا وتركيا، وإن كان الساسة يتحدثون عنه باعتباره مكسبا ونصرا، ويتابعهم على هذا جماهير ومحبون. وعلى جانب آخر هي فرصة ممتازة لمن أراد الغناء عن تركيا العلمانية البرجماتية التي باعت الثورة السورية. وعلى جانب ثالث: إن الحديث على الفيس بوك في الأمور الإشكالية المعقدة نادرا ما يبلغ هدفه..

ومع ذلك يبقى الأمر مُلِحًّا، خصوصا وهي واحدة من أهم عُقَد الأمة وقضاياها الكبرى، كما أن المرء يستشعر نوعا من المسؤولية إذا وجد أن لديه ما يظن أنه مفيد للقارئين.

سأحاول اختصار الكلام، وأعرف أنه سيطول، وخشيتي أن تفلت مني نقاط (كما يحدث دائما).. فالله المستعان، وعليه التكلان..

[1] أتفهم

سأتفهم غضب أي سوري من الموقف التركي، كما سأتفهم غضب كل متعاطف مع الثورة السورية من الموقف التركي.. إن النظر إلى ما حدث من زاوية الثورة السورية يساوي بوضوح أنه قد جرت التضحية بها في مقابل المصلحة التركية.

على الجهة الأخرى سأتفهم شعور النشوة من أي تركي أو متعاطف مع تركيا، وينظر إلى ما جرى من الزاوية التركية.. فما حدث يساوي تحقيق تركيا لمصلحتها القريبة بتحطيم المشروع الكردي ولو إلى حين بضمانة روسية سورية إيرانية وبموافقة أمريكية ورغم الحنق الأوروبي (الحنق الأوروبي الذي لا يغني كثيرا في هذه اللحظة)، وكل هذا دون فقد خسائر تركية في الجنود أو المعدات.. يبدو الأمر كنصر سريع حاسم.

ثم نأتي لمن سينظر إلى الموقف الإسلامي العام الذي يحاول تبين أثر ما حصل على عموم القضية الإسلامية في سوريا وتركيا، وهو الموقف الذي أزعم أني أنطلق منه هنا.. هنا سيبدو الأمر نكسة وهزيمة لسوريا وتركيا معا..

[2] حقائق بسيطة

لنبدأ بالتذكير ببعض الحقائق البسيطة:

- الثورة السورية تخلى عنها العالم كله، واختار العالم كله بقاء الأسد وتصفية الثورة حين لم يجدوا بديلا مناسبا له، ونقلت أوروبا وأمريكا الملف السياسي الذي يستند على إزاحة الأسد (سلسلة جنيف) إلى الروس ليبدأ ملف سياسي جديد يستند إلى بقاء الأسد (سلسلة آستانة وسوتشي).

- تركيا أضعف من أن تقف أمام هذا العالم لتفرض رغبتها في إزاحة الأسد.. بعيدا عن المبالغات عن قوة تركيا، فتركيا في أحسن أحوالها قوة إقليمية، تنافس إيران وإسرائيل وباكستان.. لكن العنصر الأهم في حساب قوة تركيا السياسية أنها جزء من حلف الناتو، أما إذا حسبنا قوة تركيا الذاتية المستقلة فهي بكل تأكيد أضعف من حلف الناتو وحده، أضعف من روسيا، أضعف حتى من إيران، وطبعا وبالطبع أضعف بكثير من أمريكا.

تركيا بلا عمق استراتيجي، كل الدول المحيطة بتركيا تمثل عدوا، وتهديدا محتملا، بل حتى التوزع الداخلي للأقليات، والانقسام الفكري بين إسلاميين وقوميين وعلمانيين، فضلا عن الدولة العميقة التي تمثل تركيا نموذجها المثالي.. وأمور أخرى يمكن أن تطالع هذه الدراسة المطولة إذا أحببت: https://bit.ly/2MIos8w

تركيا لا يزال اقتصادها معتمدا على كونها جزءا من العالم الأوروبي، الاقتصاد الرأسمالي الذي مفاتيحه في أمريكا، كما هو وضع كل الدول التي اعتمدت النظام الرأسمالي قهرا (لا تنس أنه حتى الصين وحتى روسيا تفرض أمريكا عليهما العقوبات التي تؤدي لانهيارات في العملة.. انهيار العملة لا يعني دائما انهيارا اقتصاديا، بل يعني مشكلات عديدة لقطاعات عديدة داخل الهيكل الاقتصادي)

الخلاصة المقصودة: أن تركيا لا تستطيع الوقوف أمام العالم حين يقرر تصفية الثورة السورية.

سيقول قائل: لماذا إذن كل هذا الغزل في تركيا حتى ظننا أنها قوة عالمية رهيبة؟
الإجابة: هذا من مبالغات المعجبين بالتجربة التركية، تركيا الآن في أقوى حالاتها منذ سقوط الخلافة فعلا، لكن هذه الحالة الأقوى حين توزن بالقوى الدولية تكون أضعف.

- وأما الثورة السورية فقد بدأت انتكاساتها (من وجهة نظري طبعا) بظهور داعش، لست أقول إن داعش أعطت المبرر للتحالف الدولي ليأتي، الغرب لا يحتاج مبررات، وإن احتاجها فإنه يختلقها ولا ينتظر أن تحدث.. لكن داعش كررت نموذجين قاتليْن إلى سوريا (نموذج الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، ونموذج الزرقاوي في العراق.. وكلا النموذجين كانا ضربة قاتلة للثورة الجزائرية والمقاومة العراقية).. لقد نقلت داعش القتال من شعب يقاتل النظام السوري إلى طاقة إسلامية ضخمة تتقاتل فيما بينها.. لن يهمنا الآن تقييم عمل داعش، ما يهمنا الآن فقط أن داعش سحقت القوة الإسلامية السنية في سوريا والعراق، ثم سلَّمت هذه المناطق إلى الأكراد والنظام السوري في سوريا، والأكراد والنظام العراقي في العراق.. بعد أن قامت بمهمة ساحقة في تحطيم القوة السنية القتالية في كلا البلدين.

النموذج الداعشي فتت مسارات الثورة السنية في العراق وسوريا، غيَّر الخريطة، خاض المعارك العبثية مع الأكراد، ثم هُزِم وورثه الأكراد، وهو في أثناء ذلك قام بعدة عمليات داخل تركيا، وكان خليفتهم المختبئ في منطقة ما بين سوريا والعراق يُخرج صورته وهو يفتح ملف "ولاية تركيا".

[3] الوضع الجديد

لنجمع هذه المشاهد الثلاثة إلى جوار بعضها، وننظر مرة من جهة الأتراك، ومرة من جهة الثورة السورية:

- أما من جهة الأتراك فقد تغير الوضع تماما.. نظام بشار الأسد (وتذكر دائما أنه صار مدعوما بالإرادة الدولية) لم يكن يمثل أدنى خطر على تركيا، ترك وجاء بدلا منه القوات الكردية التي تعيد بعث حلم الدولة الكردية من جديد، وتنفذ عمليات سيطرة تامة على بلدات كردية بل وعلى بلدات عربية (تهجر أهلها وتهيمن عليها)، وتبدأ بذرة الدولة الكردية..

وأضف إلى ذلك أنه خلال هذه السنوات صار التحالف الدولي يدعم هذه القوات بالاموال والسلاح والمعلومات والتدريب، وتحولت بعض المناطق إلى حصون تشبه حصون الحرب العالمية الثانية (ترمب نفسه قال: أمددناهم بالكثير من المال والسلاح).. ونداءات تركيا "لحلفائها" الأمريكان والناتو بضرورة إيقاف هذا تذهب أدراج الرياح.

تغير الخطر إذن.. هناك نظام أسدي ضعيف، بعيد عن الحدود، وهناك دولة كردية تولد بدعم كامل على الحدود، وهناك حليف روسي جاء إلى الشام بتوافق دولي، وهناك إيران كقوة إقليمية، وكلا القوتين ترفضان مشروع الدولة الكردية، وتريدان بقاء الأسد.

هنا وُلِدت الجملة الجهنمية التي اتفق عليها الأتراك والروس والإيرانيون: "ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية"

هذه الجملة الجهنمية لها العديد من التفسيرات:

أ. إذا قيلت هذه الجملة في زمن التهاب الثورة السورية وقوتها فهي تعني إزاحة بشار واستبدال النظام، ورفض تمزق سوريا بين جزء نصيري وجزء سني وجزء عربي وجزء كردي (وهذا التقسم هو نفسه مخطط أمريكي في خرائط برنارد لويس ورالف بيتر).. بهذا المعنى كان يقولها مرسي ويقولها أردوغان ويقولها الثوار والجهاديون.

ب. هذه الجملة نفسها حين تقال في زمن ضعف الثورة وضمورها فمعناها عند الإيراني والروسي: ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية (تحت حكم بشار الأسد).

وأما حين يقولها الأتراك فمعناها: الحفاظ على وحدة الأراضي السورية (بما يمنع تكون صورة انفصالية كردية في شمال سوريا).

لهذا اتفق الجميع على قولها، وكلهم يعرف غرض الآخر من تردادها، ولكن الكل بحاجة إلى تقوية موقفه الدولي بالآخر.

لكن السؤال: ما الذي يجبر تركيا على البقاء في الحلف الروسي الإيراني؟

والجواب في نقاط:

أ. أردوغان جرى عليه انقلاب أمريكي وبدعم أوروبي، وقد فشل الانقلاب (وتدور في الأروقة التركية أنه فشل بإخبار بوتين له.. ولو دققنا في تاريخ يوم الانقلاب فسنجد كيري يومها كان في موسكو وقال: عُمْر نظام أردوغان صار يحسب بالساعات)، فلو صحت هذه الرواية فهي التفسير الأقوى لنشوء هذا الحلف وتطوره. ولئن لم تصح فالمسألة لن تتغير كثيرا، لا بد من التوجه للحلف الروسي والصيني (أردوغان نفسه يسكت الآن عما يحدث في تركستان الشرقية) في مقابل الحلف الغربي، إن تركيا المحاصرة بعداء جيوسياسي والتي ليست هي قوة دولية لا تملك أن تتصرف في العالم دون حلفاء، والحليف المتاح هو الروس.

ب. العداء المتصاعد الأوروبي تجاه تركيا، وسلاسل السياسات الأوروبية المناهضة لتركيا سواء في الاتحاد الأوروبي أو في الملف الاقتصادي.. أردوغان نفسه يتساءل مستنكرا ومستغربا: متى صارت المنظمات الكردية عضوا في الناتو؟!.. حافظ الأسد قديما لم يجرؤ على مواجهة تهديد تركيا بتسليم أوجلان، لأن التهديد لم يكن تهديدا تركيا، بل كان تهديد عضو في الناتو.. الآن انقلب الوضع، وصار أتباع أوجلان أحباب الناتو وتحت حمايتهم.

أجهزة الأمن الأوروبية تترك الأكراد يعتدون على موكب أردوغان الرئاسي!! وأمريكا رفضت أن تسلم كولن رغم أنه جواد خاسر، ثم أرسلته إلى مصر لكي تتخلص من الصداع التركي بتسلميه.. على الجهة الأخرى بوتين قبل بعد دقائق تفسير سقوط الطائرة الروسية (بعد الانقلاب) واعتنقه اعتناق المشتاق، وفي النهاية فبوتين يختلف مع تركيا في مساحات نفوذ خارج تركيا، ولا يمثل تهديدا على النظام نفسه.

- لننظر الآن من جهة الثورة السورية..

الثورة السورية فوجئت بالهجوم الداعشي الكاسح، الخطاب الإسلامي الجهادي المثالي المدعوم بصورة إعلامية في غاية القوة والاحترافية، الخطاب الحربي والأداء القتالي الساحق، هجرة جماعية من الشباب السوري وبقية المهاجرين إلى تنظيم الدولة.. الفصائل إما استسلمت لداعش أو انعزلت وجمدت نفسها أو اضطرت لقتال داعش التي تمارس تحرير "المحرر"، ثم تخوض المعارك مع الأكراد (الملاحدة) فضعف موقف الفصائل الكردية الإسلامية والثورية لحساب الفصائل الكردية القومية والملحدة وهذه الأخيرة تتقوى بالطبع بما يلقى إليها من الدعم الغربي.

الثورة السورية جوبهت بخطاب الإرهاب والدعشنة + التخلي العالمي عنها وإسناد نظام الأسد + العالم يسمح بدخول حزب الله والميليشيات الشيعية ثم إيران ثم روسيا!! هذا فضلا عن الاختراق المخابراتي الأردني والسعودي والمال الخليجي القذر

هذه العاصفة العالمية الضخمة ما كان بالإمكان أن يقف لها إلا العمالقة المخلصون، وقليل ما هم، فتآكلت مناطق الثورة السورية، وصار التهجير يحدث برعاية الأمم المتحدة نفسها!!

الطرف الوحيد الذي بقي داعما للثورة وحريصا عليها (حتى لو لمصلحته الخاصة الضيقة) هم الأتراك.. الأتراك هم الذين يستقبلون المهاجرين، الجرحى، من عندهم يصل الدعم (مهما كان قليلا)، وهم الذي يمثلون نافذة دولية للحضور السياسي للثورة السورية.. فحتى لو كانت تركيا مجرد دولة غربية كافرة تريد أن يكون لها حضور في الملف السوري كورقة نفوذ فما كان لأحد في الثورة السورية أن يرفض! إنها الباب الوحيد المتاح!!

[4] مسألة التدخل

تكهربت عواصم الغرب حين دخلت تركيا إلى سوريا، عقوبات أمريكية وأوروبية ونداءات وإدانات، وبكاء على الحليف الكردي وعلى حقوق الإنسان والقانون الدولي و... و... إلخ!

بينما مرَّ الدخول اللبناني (عبر حزب الله المصنف إرهابيا والشريك في الحكومة اللبنانية.. وتأمَّل!!)، والدخول الإيراني، ثم الدخول الروسي مرور النسيم.. ربما قيلت بعض التصريحات هنا وهناك كذرٍّ للرماد في العيون.

يجب أن نشير إلى بعض أمور مهمة:

إيران دولة قوية وتريد أن تكون قوة إقليمية وشريكة في تقرير مصير الإقليم، وهذا هو أصل الصراع بينها وبين إسرائيل، وبينها وبين الغرب. إلا أنها من زاوية أخرى تمثل أقلية إسلامية.. ونمط تمكين الأقليات هو النمط الاستعماري المتكرر منذ مائتي سنة، الاستعمار يُمَكِّن الأقليات ويضعها في مفاصل القوة السياسية والاقتصادية والإعلامية في كل بلد بحسبها.

في المعادلة الكبرى للأمة يمثل التمدد الإيراني إضعافا للأمة، إيران لا تستطيع أن تكون قائدة للأمة الإسلامية أو دولة مركز له بتعبير هنتنجتون، وذلك لأنها تعتنق المذهب الشيعي الذي لا تقبله بقية الأمة.. لهذا، وبرغم العداء الحقيقي بين الغرب وإيران، إلا أن إيران تتمدد برعاية الغرب.. إيران صنعت نفوذها الكبير في العراق تحت الاحتلال الأمريكي، الحوثيون في اليمن صاروا شركاء في العملية السياسية بدعم الأمم المتحدة ولا تزال تصلهم الأسلحة عبر السفن المارة بجوار الأسطول الخامس. حزب الله يتمدد في لبنان وهي محمية فرنسية وتلتصق بالشمال الإسرائيلي..

الخلاصة أن التمدد الإيراني مما يمزق الأمة ويضعفها، ويزيد العبء لا القوة على الإيرانيين، وفي النهاية، إذا تجاوز الإيرانيون خطوطا بعينها فيمكن قصفهم بيد إسرائيل نفسها كما حدث في سوريا دون أن تفكر إيران في الرد.

إن تمدد إيران بقدر ما يمزق الأمة بقدر ما يستنزف القوة الإيرانية، وهذه هي المصلحة التي ينتظرها الغرب، والتي يعمل عليها..

ومثل هذا أيضا دخول الروس، بل هو أشد منه، فالروس لا بقاء لهم إلا على صورة المحتل الذي يستدعي دائما المقاومة لوجوده.. فهو استنزاف لهم على المدى البعيد، ويتحقق به بقاء بشار والقضاء على الجهاديين (الإرهابيين)، وسيثير وجوده مشكلات وحزازات بينه وبين الإيرانيين والأتراك.. وفي النهاية فالفارق الضخم في القوة بين الأمريكان والروس يجعلهم قادرين على تحجيم التمدد الروسي، ومن يتابع يعلم أن القواعد العسكرية الروسية قُصِفت أكثر من مرة، يقال أحيانا: الفاعل مجهول، بينما يعرف الجميع أنه لا يجرؤ على ذلك سوى الأمريكان.

وطريقة الأمريكان التي تكررت في الحرب العالمية الأولى ثم الثانية ثم الباردة أنها تفضل أن تدخل أخيرا بعد أن يستهلك الجميع، ويستنزف الجميع، وربما تفضل الحرب بالوكالة بينما تبقى هي في موقع المراقب، وبكل تأكيد فإن الروس لم ينزلوا غصبا عن الأمريكان، بل أنزلهم الأمريكان ليكونوا طليعةَ لهم، فإن فشلوا فسيأتي الأمريكان بأنفسهم.

أما الدخول التركي فهو أمر مختلف، إنه دخول دولة يمكن أن تكون قائدة للأمة (هذا أيضا كلام هنتنجتون)، وفي ظروف أخرى يمكن أن تكون مصر أو العراق لكنهما الآن متهالكتان شاحبتان بائستان.. تركيا هي الدولة التي يمثل تمددها إضافة حقيقة لها وإن كانت عبئا في المراحل الأولى.. الغرب لا ينسى الدولة العثمانية أبدا، الدولة التي لم يكتمل قرن واحد على وفاتها!

الدخول التركي سيجد له عمقا طبيعيا سنيا مسلما، لو أن تركيا في قوة روسيا أو الصين ودخلت إلى سوريا لاشتعلت حرب عالمية على الفور.. إني أحتفظ في أوراقي وفي ذاكرتي بعديد من المواقف والحوارات التي تثبت الرعب الغربي (الرعب الحقيقي) من كل نذير يمكن أن يؤدي ولو على المدى الطويل إلى عودة المارد الإسلامي، ونهوض دولة إسلامية قائدة.

لهذا تكهربت العواصم كلها من الدخول التركي المحسوب المحدود المتأخر الذي يراعي كل المحاذير.. ولم تحفل كثيرا بالدخول الإيراني والروسي الكامل والشامل والذي يرتكب المذابح الكبرى أسبوعيا.

وفي النهاية فإن تركيا لم تدخل بغير ضوء أخضر من أمريكا، تلك هي موازين القوى الآن، إلا أن ترمب يقرر ثم يلومه رجاله فينكص على عقبيه بلا أي شعور بالعار.. لقد دعم ترمب الدخول التركي، ولما أراد العودة كان الجيش التركي قد تحرك بالفعل، ولئن كان ترمب يقبل أن يلحس كلامه بعد ساعة، فليست هذه شخصية أردوغان.. وكان لا بد من الإسراع لإعادة العثماني إلى أرضه دون مكاسب حقيقية.

[5] والآن.. ما الذي حدث؟

الذي حدث ببساطة أنه لم يبق من الثورة السورية إلا إدلب.. قلعة جهادية عنيدة اجتمع فيها صفوة المقاتلين، وعليها يدور الحديث كله.

والذي حدث ببساطة أنه جرى إخراج تركيا من سوريا وطمأنتها من خلال إبعاد المنظمات الكردية.. وقيل لها: تعالوا نتعاون في القضاء على الإرهاب.

والقضاء على الإرهاب هنا جملة جهنمية أخرى تختلف معانيها باختلاف قائليها: فإذا قالها التركي فهو يعني المنظمات الكردية، وإذا قالها الروسي أو الإيراني أو الغربي فهو يعني الفصائل الجهادية.. وضرورات المواقف والسياسة تجعل الجميع يعرف مراد الآخر ويوظف الجملة ذاتها لمصالحه هو.

ثمة مشكلة فكرية وعقدية تمثل عقدة حقيقية بين الجهاديين والأتراك.. الأتراك يرون السلفية كفرا ومسؤولة بشكل مباشر عن ضياع الدولة العثمانية وأنها تهديد للداخل التركي. على الجهة الأخرى يرى الجهاديون أن تركيا نظام علماني كافر.. كلا الطرفين تجمعهما المصلحة أكثر مما يجمعهما شعور الأخوة الإسلامية القوية. ولكن هذا حديث آخر، أردت من ذكره هنا فقط بيان أن الحلف المنعقد بين الطرفين هو حلف مصلحة سياسية لا امتداد عقدي كالذي بين إيران وحزب الله، هو أقرب لأن يكون مثل الحلف الذي بين الغرب والمنظمات الكردية.. هذا المستوى من التحالف يؤثر بشكل كبير على مستويات الدعم والتعاون.

فإذا جمعنا هذا كله مع بعضه سنرى أن:

- تركيا وقعت بين خيارين: التهديد الكردي مقابل التخلي عن الجهاديين في إدلب.. أو بشكل آخر: عودة النظام السوري إلى الحدود كما كان الوضع قبل الثورة، فلا تركيا لها إدلب ولا الأكراد لهم الشمال السوري.

- الثورة السورية التي تمثلت الآن في هيئة تحرير الشام، والتي خاضت حروبا عنيفة ضد تنظيم الدولة وضد النظام السوري وضد الفصائل الأخرى وتدير المنطقة المحررة قد تكالب عليها العالم ويوشك أن يغلق الباب التركي.. وتبدأ تصفية إدلب.

الأتراك مهزومون، وإن كانوا يسوقون ما حدث على أنه نصر، بل هم مذبوحون على الحقيقة، وقد اختاروا قطع أيديهم (في إدلب) لكي لا يفقدوا قلبهم (تركيا نفسها بالدولة الكردية التي تولد رويدا رويدا)

وأما الثورة السورية فمهزومة لا تملك أن تتحدث عن نصر، ولم يعد بيدها إلا أن تقاتل حتى الموت (مع موت آلاف آخرين من السوريين) أو تبحث عن صيغة انسحاب قد يقدمها الطرف التركي، ولا أدري هل بالإمكان تكرار ما فعله بيجوفيتش مع المجاهدين العرب فهذا -لو تم- أفضل المصائر.

إلا أن يأذن الله بفرج في مصر أو في لبنان أو بشيء يصيب الأسد أو نكبة في روسيا أو إيران أو أمريكا فيتفكك المشهد الخانق المعقد، ويكون للأتراك والثوار متنفس جديد.

[6] حديث عن المصلحة التركية

الإسلاميون في العالم العربي يختلفون: هل تركيا دولة علمانية برجماتية نفعية مادية لا تهتم إلا بمصلحتها، أم هي قائدة مرتقبة ومنتظرة للعالم الإسلامي؟.. هل أردوغان علماني نفعي مادي يستعمل الدين كمخدر للشعوب الإسلامية ليصنع زعامته بينما هو لا يرى أبعد من مصلحته؟ أم هو مسلم مخلص ساعٍ بصدق في نهضة الأمة ويتحرك بدافع انتمائه الإسلامي؟ (الذين يقولون بأنه خليفة المسلمين قلة ضئيلة بل لا أكاد أعرف منهم أحدا.. وهؤلا خارج النقاش).

قلتُ بأن موقفي الذي أنا عليه حتى لحظة كتابة هذه السطور أن أردوغان مسلم مخلص يتحرك بصدق لنهضة الأمة وتحت شعور انتمائه الإسلامي.. لكني سأترك رأيي هذا جانبا وأعتمد الرأي القائل بأنه: علماني مادي يتحرك لمصلحته ولا يرى غيرها.

السؤال هنا: هل من مصلحة الأمة المسلمة أن تتفق مصالحها وطموحاتها وأمانيها مع مصلحة قائد علماني مادي نفعي، ولكنه بذكائه عرف من أين تؤكل الكتف وكيف يخاطب المشاعر الإسلامية؟.. أم يجب علينا دائما أن نعيد ونكرر ونقول: احذروا من أردوغان فإنه لا يهتم إلا بمصلحته الشخصية؟!!

يا أخي، إن كانت مصلحته الشخصية تصب في النهاية في صالح الأمة بعمومها فهو خير وبركة.. ويا ليت كل الحكام يعرفون من أين تؤكل الكتف وكيف يخاطبون الأمة ويجعلون مصلحتهم الشخصية جزءا من مصلحة الأمة الكبيرة.

أردوغان المادي العلماني النفعي البرجماتي هذا -كما تقول- لماذا يحاربه الغرب بهذه الشراسة؟.. لئن كان مجرد عدو لهم مثله مثل خامنئي أو بوتين فلماذا ابتلع الغرب تدخل خامنئي وبوتين ووقف في حلقه تدخل أردوغان؟!

إن لم يكن أردوغان يمثل تهديدا إسلاميا، فهو على الأقل يمثل عليهم تهديدا ماديا علمانيا نفعيا أخطر من بوتين وخامنئي.. أليست الامة المسحوقة المذبوحة المظلومة بحاجة إلى علماني نفعي مثله يحرص على مصلحة بلده وقومه فيتيسر بهذا نجاة المسلمين بين مساحات اختلاف الأعداء؟

إنه منذ أن فقدت الأمة وحدتها بنهاية الدولة الأموية فقدت معها مصلحتها الواحدة.. طالما لدينا دولتان فلدينا مباشرة مصلحتان، ولا بد لصاحبي هاتين الدولتين أن تتعارض مصالحهما في ملف أو ملفات.

ترى لو بعث صلاح الدين أو نور الدين أو ابن تاشفين أو حتى أبو جعفر المنصور والرشيد وغيرهم.. ترى لو بعثوا في واقعنا هذا وكانوا في موضع أردوغان أو في موضع الجولاني، أكان يملك الواحد منهم أن يضحي بمصلحته التي يراها من زاويته حرصا على مصلحة الآخر؟!

يعني: إذا قيل للجولاني الآن أهلك قواتك وجندك لتحطيم المنظمات الكردية ودعك من بشار، واستسلم لعودته للحكم، وسنضمن لك عفوا منه، وإلا ضاعت تركيا قلعة المسلمين الآن.. أكان يقبل؟!

أو إذا قيل لأردوغان الآن أهلك قواتك في إسقاط نظام بشار مخالفة لرغبة العالم كله وإلا ففي عنقك دماء السوريين في إدلب؟ وتحمل عند الله دماء الأطفال وأنات الثكالى ودموع اليتامي.. أكان يقبل؟!

متى يدرك أحبابنا أننا في حالة من الضعف والعجز والهوان يستحيل معها ألا تكون اختياراتنا مرة؟!.. ألم يسمع هؤلاء بصفحات زاخرة من التاريخ تصف الاختيارات المرة منذ سيرة النبي الذي لم يملك شيئا لسمية وزوجها، ولم يعلن حربا على قاتلي صحابته في الرجيع وبئر معونة، وأبي بكر الذي لم يستطع إنقاذ مسلمي الرباب من مالك بن نويرة ولا مسلمي بين حنيفة من مسيلمة.. وانتهاء بعبد الحميد الثاني الذي ترك تونس ومصر وقبرص تسقط تحت الاحتلال خوفا من ضياع الشام؟!

علم الله نرجو النصر لكل مسلم، ويحرق قلوبنا إن تضاربت مصلحة اثنين من المسلمين.. ولكنه ثمن العجز والضعف ندفعه وسنظل ندفعه حتى نعدل ميزان القوة فيكون الحال حالا آخر!

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق