مذكرات الشيخ
رفاعي طه (16)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
هكذا حاول الإخوان الهيمنة على الشباب
الإسلامي بجامعة أسيوط
·
ورث أسامة حافظ زعامة صلاح هاشم بعد
تخرجه، وصار أمير الجامعة واقعيا!
·
كان النزاع والتنافس أقرب إلى الشيخين
الكبيرين: درويش والسماوي من التعاون!
·
اسم "الجماعة الإسلامية"
أطلقه الإخوان، وهذه شهادتي للتاريخ!
سجلها عنه
وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة:
تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة – (14) بيعتي للشيخ السماوي – (15) بداية زعامة صلاح هاشم
ترسخت بيني
وبين صلاح هاشم أخوة عميقة، كانت بذرة نشأة الجماعة الإسلامية المصرية، وبعد ذلك
بقليل بدأ يظهر في المشهد الشيخ أسامة حافظ.
كان ظهوره
أيضا في معسكر من تلك المعسكرات، كان يدير حلقة فيه وأعجبني حديثه مع الإخوة في
هذه الحلقة، فذهبت أتعرف عليه، وكان طالبا في كلية الهندسة، وكان في ذات سني هذه
المرة وليس أكبر مني كما كان صلاح هاشم، فكلانا مواليد 1954، ولئن كان من فارق في
العمر فهو في نحو الثلاثة أشهر بيننا.
في تلك الفترة
بدأ يحدث تراشق بين الشيخ مصطفى درويش والشيخ عبد الله السماوي، وقد ذكرت فيما سبق
أن الشيخ مصطفى درويش كان أميرا لـ "جماعة الحق"، وقد كان قبل ذلك ينضوي
تحت جميعة أنصار السنة المعترف بها رسميا من قبل الدولة، إلا أنها ضاقت بطاقته
وطموحه وآفاقه فتركها وأسس جماعة الحق هذه، لتمثل همَّه كرجل من التيار السلفي
المقاوِم العامِل، وقد ذكرتُ أن من أهم ما أخذناه عنه الالتزام بالهدي الظاهر
كاللحية والثياب. وكان هو والشيخ السماوي صنويْن، مع أن الشيخ مصطفى أسنُّ منه
بكثير، بل كان الشيب يخط خطوطا في لحية الشيخ مصطفى بينما لم يجد الشيب طريقه إلى
لحية الشيخ عبد الله السماوي!
فيما بعد سارت
الشهرة في ركاب الشيخ السماوي أكثر بكثير من سيرها في ركاب الشيخ مصطفى درويش،
ولعل جيل الشباب الذين هم الآن في الثلاثينات يعرفون اسم السماوي لكن لا يعرفون
اسم مصطفى درويش، بينما في ذلك الوقت كان كلاهما علمٌ من أعلام العمل الدعوي، ولكل
منهما في جيلنا بصمات لا تنسى.
كلاهما
سلفيٌّ، وكلاهما من أهل العمل والالتزام والمقاومة لا الخمول والاستسلام للواقع أو
للحاكم، وكلاهما صاحب تأثير ونفوذ واسع على أتباعه ويجيد تكوين وتجميع الشباب من
حوله، ومع هذا فبدلا من أن يجد التعاون مدخلا ليجمع بينهما فقد سبقت إليهما
المنافسة والمنازعة على النفوذ والمناطق. كانت سوهاج مركز الشيخ مصطفى درويش وهي
بهذا الاعتبار محرَّمة على الشيخ السماوي، وهكذا.
وقع بينهما
التراشق اللفظي، وشهدناه معشر الشباب، فساءنا كما يسوء شباب كل جيل أن يشهدوا
خلافات مشايخهم، ولأن الشباب من طبيعته الحماس والحسم فقد سبق إلى الأذهان سؤال
الشباب المعتاد: من منهما على صواب ومن منهما على خطأ؟ وقد يتطور السؤال إلى أن
يقال: من منهما على حق ومن منهما على باطل وضلالة؟
فأسررت لصلاح
هاشم بهذا فقال: إنني أعرفهما، ولعل الشيخ مصطفى درويش يكون أقرب إلى الحق من
الشيخ السماوي، إنني أعرفه من سوهاج، لكن على كل حال لن ندخل بين الرجلين ولن نخوض
في خلافاتهما.
كان الشيخ
صلاح هاشم شخصية مسالمة توافقية مع الجميع، ولم أكن كذلك، إنما كنت أتوق إلى اتخاذ
موقف من أحد الرجلين، والانحياز إلى الآخر، فسؤال من منهما على صواب أو من منهما
على الحق لم يكن سؤالا نظريا أطرحه لممارسة الثرثرة الفكرية، بل كان سؤال عمل
وحركة يستتبعه انحياز وتعسكر وتخندق وراء أقربهما للحق.
كان صلاح هاشم
يُجِلُّ الشيخ مصطفى درويش لمعرفته به، فهما من سوهاج، ولسبق سنه وقدمه في خدمة
الإسلام، وكان يرى أن الخلاف لا يأتي إلا بشر، وأنه يسعنا أن نعمل في الدعوة بعيدا
عن الخلافات بين الرجلين الكبيرين.
وخلاصة القول أنه إلى نهاية هذا العام
الدراسي توثقت العلاقة بين ثلاثتنا: صلاح وأسامة وأنا، ثم حمل العام الدراسي
الجديد ظرفا فارقا في تاريخ الحركة الإسلامية كلها.
لقد خرجت
قيادات الإخوان المسلمين من السجون الناصرية وشرعوا في التعرف على هذه الحالة
الشبابية الإسلامية المتنامية في الجامعات، وساروا في هذا سيرا حثيثا يستطيع الذين كانوا في جامعة القاهرة أن يسردوا
تفاصيله أحسن من غيرهم. وقد وصل إلينا هذا السير الحثيث في أسيوط متمثلا في معسكر
دعت إليه قيادات الإخوان في مسجد عمر مكرم الشهير والقريب من محطة القطار. كان هذا
بين سنتي 1976، 1977.
لم أحضر هذا
المعسكر، ولا أتذكر الآن ما سبب تغيبي عنه، ربما كنت خارج أسيوط أو غير ذلك، إلا
أني سأذكر أبرز ما حصل فيه، لأنه كان لحظة فارقة في العمل الدعوي الجامعي عندنا.
كانت أبرز
قيادات الإخوان المسلمين في أسيوط حينئذ الدكتور محمد حبيب الأستاذ بكلية العلوم
وهو الذي وصل إلى نائب مرشد الإخوان فيما بعد، ومحامي اسمه محمد الغزالي، وآخر
اسمه دسوقي شملول وكان معيدا في كلية الهندسة، وآخر اسمه عبود وكان في العقد
السادس أو السابع من عمره ذا لحية بيضاء. أولئك هم وجوه الإخوان في أسيوط، وهم
الذين إليهم مرجع الشباب الذي انضم للإخوان في ذلك الوقت، وكانوا يُنَظِّمون
الفعاليات التي يُحضِرون فيها الدعاة من أمثال الشيخ محمد الغزالي والحاجة زينب
الغزالي رحمهم الله الجميع، وأولئك هم الذين نظَّموا هذا المعسكر وأنفقوا عليه.
فماذا فعلوا
في هذا المعسكر؟
اقترحوا أن
تختار كل مجموعة من الشباب المتدين في كل كلية "أميرا" لها، وذلك أن
"الأمير" هو اللفظ الشرعي لمعنى الرئيس أو المسؤول، ونحن بطبيعة الحال
منقادون للشرع. وهكذا اجتمع أبناء كل كلية واختاروا لهم أميرا، وبدأت تتهيكل
الجامعة، فهذا أمير كلية الطب وهذا أمير كلية التجارة وهذا أمير كلية الهندسة...
وهكذا.
وبعد هذا
اقترح هؤلاء الإخوة قيادات الإخوان الأربعة أن يختاروا أميرا لكل الجامعة، يكون
أميرا فوق أمراء الكليات.. وسأقف بالمشهد هنا لتوضيح بعض أمور، ثم أعود إليه.
كان شباب
الجامعات ينظرون لقيادات الإخوان باعتبارهم قيادات دعوية قديمة لها احترامها
وإجلالها لا سيما من له منهم محنة طويلة، فلذا يقبلون عليهم ويستمعون لهم كما
يستمعون إلى أي شيخ كبير مرموق، فشباب هذه الفترة رغم حماستهم وطاقتهم الجبارة لم
يكونوا يأنفون أن يتعلموا ويستمعوا بل ويخضعوا للكبار طالما رأوا في هذا مصلحة
الدين والدعوة. ولهذا فلم يكن يستنكف الشباب المتدين من غير الإخوان المسلمين بل
وبعض الذين في نفوسهم شيء من الإخوان، لم يكونوا يستنكفوا أن يحضروا فعاليات
الإخوان الدعوية ولا أن يجيبوا دعواتهم إلى معسكر ينظمونه ولا أن يسمعوا لهم في
أمر يقترحونه.
في سياق آخر
كان صلاح هاشم قد تخرج في كلية الهندسة ولم يعد زعيمها، وإنما آلت الزعامة من بعده
إلى أسامة حافظ، وكان هو بحكم الواقع أمير كلية الهندسة وإليه يرجع الشباب فيها
وعن رأيه يصدرون، ولهذا لم يكن اختياره أميرا لهذه الكلية في ذلك المعسكر إلا أمرا
سهلا وتحصيل حاصل.
لكن زعامة
أسامة حافظ لم تتوقف عند حدود كلية الهندسة، لقد ورث زعامة صلاح هاشم التي تكونت
في العام الماضي، وهي زعامة الشباب الملتزم في الجامعة كلها، فهو على الحقيقة زعيم
الشباب الإسلامي بالجامعة.
وكان لأسامة
حافظ صديقٌ معيدٌ بكلية الهندسة اسمه عبد المتعال، وكان صديقه هذا مسجونا مع
الإخوان في الفترة الناصرية، إلا أنه كان يُكِنّ كراهية شديدة للإخوان، وكان كثير
الحديث عن ضلالتهم وبدعهم، فألقى هذا بظلاله في نفس أسامة حافظ، لم يصل الحال إلى
أن يكرههم كما كان حال صديقه، لكنه وصل إلى قناعة تقول: لا يجب أن نكون مع الإخوان
ولا تابعين لهم. وإذا كانت هذه قناعة أسامة حافظ فهي قد تسربت إليَّ أيضا بالتبعية.
ولا يزال هذا كله أمر في القلوب وحديث عابر على اللسان لا يترتب عليه عداوة ظاهرة
أو عمل أو تنافس.
أعود إلى
المعسكر:
اختير أسامة
حافظ أميرا لكلية الهندسة ببساطة، فلما جاء دور اختيار أمير الجامعة لم يكن ثمة
أحد يستطيع أن ينافس أسامة في هذا الموقع، فإنه في واقع الأمر أمير الجامعة وزعيم
شبابها الإسلامي. إلا أن إرادة قيادات الإخوان اتجهت إلى اختيار طالب صغير في
السنة الأولى من كلية الطب اسمه أسامة سيد، بالكاد نبتت لحيته، ثم إنه حليقٌ، وهذا
أمر حساس عند الشباب في ذلك الوقت.
وهكذا تضاربت
إرادة شباب الجامعة وإرادة قيادات الإخوان، فجاء دور الدبلوماسية، فأخذ المهندس
دسوقي شملول –أحد القيادات الأربعة- دفة الكلام وقال: يا شباب الشيخ أسامة حافظ
أهل لهذا بلا شك ولكن المشكلة أنه الآن في السنة الأخيرة من كلية الهندسة،
والمصلحة تقتضي أن يتولى الأمر شاب صغير فيمارس الأمر وتتراكم خبرته ويفيد
ويستفيد، بينما الذي سيتخرج لن يستطيع مراكمة خبرة ولن يستفيد منه إخوانه وسيكون
الأمير في العام القادم جديدا بلا خبرة ويتعلم من الصفر مرة أخرى. ومن هنا فمصلحة
العمل الدعوي في أن يتولى الأمر من كان في السنة الأولى أو الثانية.
كان بهذا
الكلام يريد أن يحث الشباب على اختيار أسامة سيد. ولهذا فكلما طُرِح اسم آخر غير
اسم أسامة سيد لم يصلوا إلى نتيجة، ولم يكن أسامة أمير كلية الطب حينها بل كان
أميرها في ذلك الوقت سيد العربي. وقد رفضوا أيضا أن يكون سيد أمير الجامعة لذات
السبب: أنه سيتخرج العام المقبل.
ونجحت
دبلوماسية القيادات الإخوانية آخر الأمر، وصار أسامة السيد، الطالب بالفرقة الأولى
بكلية الطب أميرا للجامعة.
من هنا صار لقب أسامة السيد "أمير
الجماعة الإسلامية في أسيوط".
ولهذا فإن أول
من وضع اسم "الجماعة الإسلامية" في جامعة أسيوط كانوا هم الإخوان
المسلمين، فمن قبل هذه اللحظة كان الشباب يعملون بغير اسم محدد، فربما سمينا
أنفسنا أو سمانا أحدهم جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كان بعضنا من
جماعة الشيخ السماوي، أو كان بعضنا الآخر من جماعة غيره، لكن بعد هذه اللحظة صار
اسم الشباب الإسلامي "الجماعة الإسلامية".
هذه روايتي
للتاريخ وان خالفها من خالفها!
وهنا لا بد أن
أكرر وأؤكد: لقد كان أسامة حافظ قادرا على أن يفسد مشهد اختيار أمير الجامعة، وله
من الدوافع ما هو جدير بالأخذ به، من أول قناعته بأن الإخوان ليسوا الجماعة التي
يجب اتباعها بل لديهم من البدع والضلالات ما ينبغي لأجلها الانصراف عنهم، وانتهاء
بقناعته بأنه أسامة سيد لا يصلح لهذا الموقع. لكن الشباب كما ذكرتُ لم يكن ينطلق
في العمل إلا متجردا لله ومُقَدِّمًا مصلحة الدين والدعوة على مصلحة نفسه،
ومُوَقِّرًا للسابقين في العمل والدعوة وإن لم يكن تابعا لهم، وبعيدا عن المناكفات
المبنية على حظوظ النفس. فإذا اقترح شيخٌ فكرة ولم يكن لدينا فكرة تضادها فلا
مشاحة ولا نزاع، وإذا كان لدى أحدهم رؤية وليس لدينا ما يقابلها فليكن ما يرى.
هكذا قيل:
الجماعة الإسلامية! ما رأيكم في هذا الاسم؟
لا مانع؟ لا
مانع. فانتهى الأمر وثبت الاسم.
وانتهى
المعسكر على تسمية أمراء الكليات، وتسمية المجموع، وتسمية أمير الجماعة الإسلامية
بجامعة أسيوط.
بعض إخواني في
"الجماعة الإسلامية" يخالفني في هذه الرواية، وربما يأتي فيما بعد ما
يجعلنا نسرد آراءهم. لكن النتيجة التي انبثق عنها هذا المعسكر رغم مروها بسهولة
فإنها أسست فيما بعد لنزاع بدأ ولم ينته، وهو النزاع الذي انتهى بالانشقاق بين اسم
وكيان ما صار يعرف بعدئذ بـ "الجماعة الإسلامية"، وبين اسم وكيان
"الإخوان المسلمين".. وهو ما نرويه إن شاء الله في اللقاءات القادمة.
نشر في مجلة كلمة حق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق