السبت، سبتمبر 01، 2018

الحج.. الفريضة المقاوِمة


شاء الله تعالى أن ننتهي من سلسلة رصد الأوضاع في مصر قبل وبعد الحداثة من خلال رحلتي حج، في نفس الشهر الذي تظللنا فيه أيام الحج.. وكلما ظللنا مشهد الحج عرفت لماذا تمنى المستشرق الفرنسي كيمون أن تهدم الكعبة، وينبش قبر النبي ويوضع رفاته في متحف اللوفر. وهذا الرأي عرفناه بالأصالة لأن الذي نقله كان هو وزير الخارجية الفرنسي مسيو هانوتو، كان هذا الأخير منزعجا ومتعجبا من مقاومة الجزائريين وأنهم لا يقبلون الخضوع لفرنسا رغم فارق القوة وتطاول الزمن وفداحة التكاليف.. رأى كيمون أن قبر النبي كالعمود الكهربي الذي يبث أفكاره في المسلمين الذين يتحولون إلى مجانين بهذه الأفكار، ولقد كانت ألفاظه الأصلية من الوقاحة والحقد بحيث أخجل من نقلها كما هي[1].

إن الحج فريضة إسلامية تقاوم كل ما أريد أن يُغرس في الأمة ويرسخ فيها قسرا وقهرا، وهو فريضة تذكر الأمة بما أريد لها أن تنساه، فلا يزال الحج يُقاوم التقسم القُطري ويذكرها بأنها أمة واحدة، لا يزال يقاوم الأفكار التي تجعلها أقواما وأعراقا ويذكرها بأن هويتها الإسلام، لا يزال يقاوم ما ينشب بينها من الخلافات ويذكرهم بالألفة ووحدة المسار والمسير المصير، لا يزال يقاوم صناعة الأعداء الوهميين وتسويقهم فيها ويذكرهم بأن عدوهم الشيطان، لا يزال يقاوم ما يراد لهم من الانهمار على الدنيا واتباع الشهوات ويذكرهم بمشهد الكفن والحشر يوم القيامة.

قد منع الله الجدال في الحج فيجتهد الناس في لزوم الألفة ويحملون أنفسهم على كبح الغضب والمسامحة والنزول على رأي أحدهم بسلاسة فيرتد هذا على أنفسهم في بقية حياتهم، وإن مواقع التواصل الاجتماعي تزخر بموقف وقع بين مصري وجزائري أو بين باكستاني ومغربي أو بين حجازي وإندونيسي فيتذكر الجميع ما بينهم من الرابطة والرحم.

هذا الحج هو أحد أهم الدعائم التي جعلت الأمة المسلمة في هذه الصورة من المتانة والترابط والتلاحم عبر خمسة عشر قرنا، مهما تقسمت الأنظمة السياسية ومهما حاولت تقسيمهم، ومهما اختلفت ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم، ومن أهم ما أذكره في هذا الباب أني كنت في مؤتمر علمي بالسودان عن طرق الحج وآثارها المتعددة، وتحدث عدد من الأساتذة عن أن رحلة الحج أدت إلى رسوخ المذهب المالكي في السودان وفي الشمال الإفريقي لأن الحجاج المغاربة كانوا يقطعون الطريق إلى الحج عبر السودان. فعقب أستاذ سوداني بلفتة بديعة، فهو يرى أن مذهب المالكية في الحج مما ساهم في ترابط المغاربة بالمشارقة وذلك أن المالكية يجعلون القدرة على الحج هي فقط القدرة الصحية، فيعذرون المريض لكن لا يعذرون الفقير، ومذهبهم أن يخرج الصحيح فيعمل حتى يوفر أجر الطريق فيسير فيه ثم يعمل حتى يوفر أجر الطريق، وهكذا حتى يصل.. ومن ثَمَّ كان الحجاج المغاربة بمن فيهم الفقراء الأصحاء ملزمون بالحج، وهو ما ساعد على كثرة الحجاج من بلاد المغرب وغرب إفريقيا.

بقيت الفريضة قائمة في نفوس المسلمين التي تتشوق للبيت الحرام وزيارة مسجد النبي، حتى في الأوقات التي كان الطريق فيها مخيفا وموحشا كان الحجاج يفدون من مشارق الأرض ومغاربها حتى وإن غلب على ظنهم وظن أهاليهم أنها الرحلة الأخيرة، بلا عودة.. وبمثل هذا ظلت الرابطة الإسلامية تجدد نفسها كل عام مرة كبيرة، بخلاف مرات غير معدودة من سنة العمرة والزيارة.

لذلك، فمنذ أن دخلت أمتنا في عصر الاستضعاف ورزحت تحت الاحتلال والحكومات العلمانية حتى عملت كثير من تلك الأنظمة على التضييق على الحج، وما من حكومة نشأت في تلك البلاد إلا واعتدت على أوقاف الحج، وهي أوقاف ضخمة مرصودة بكل بلاد الإسلام للإنفاق على الحرمين تنتج أموالا غزيرة، وهو ما أثر سلبا على أوضاع الحرمين، فضلا عن الصدقات الأخرى والعادات التي كانت تؤديها الإمارات الإسلامية من أموالها أو التي كان يتبرع بها الناس، فكل هذا قد توقف مع الدخول في الدولة القومية الحديثة التي بسطت سيادتها على سائر ما في أراضيها من الموارد وتحكمت فيها، والأصل أن الأوقاف أموال محبوسة لله وليس للحكومات عليها سبيل. ولولا الطفرة النفطية في الجزيرة العربية لكانت أحوال الحرمين الآن مزرية للغاية وتشهد بهذا الضرر الخطير.

كذلك فقد ضيقت بعض الحكومات على الحج نفسه، وقد روى شكيب أرسلان في رحلته إلى الحج (التي كانت 1930م) أن حجاج الأناضول حُرِموا من الحج "لأن مصطفى كمال (أتاتورك) يأبي أن ينفق التركي شيئا من ماله في بلاد عربية، فهو قد أراد هذا لأجل التوفير على الأتراك بزعمه. وياليته احتاط للتوفير على أمته في الطرق التي ذهبت فيها الملايين من أموالهم إلى جيوب الإفرنج كالخمر والميسر والألبسة الإفرنجية"[2]. وحاول بورقيبة أن يفعل مثله لكنه لم يستطع غير أنه ألقى خطابا في صفاقس (29 إبريل 1964) دعا فيه إلى الكف عن الحج لأنه يهدر العملة الصعبة، واقترح على أهل تونس أن يزوروا مقامات الأولياء في تونس بدلا من الحج.

وأشد من ذلك وأشنع ما فعلته الأنظمة الشيوعية في الصين وفي آسيا الوسطى وفي أوروبا الشرقية، والتاريخ حافل بآلام وأهوال في حظرهم الحج أو تشديد المراقبة عليه أو تعذيب وقتل من ثبت أنه تسلل خفية إلى الحج، وهذا التاريخ لا يزال أكثره مجهول لأن أهله ليسوا من العرب، ولأن كثيرا من تلك البلاد لا تزال في نفس الحال أو أهون قليلا.

والخلاصة أن الحج هو مؤتمر المسلمين السنوي الذي يكافح كل ما أريد أن تنساه الأمة، ويغرس كل ما أريد خلعه روح الأمة، وهو لهذا مصدر خطر على كل عدو لهذه الأمة، فلست تجد عدوا لها إلا وهو متوجس من الحج ساعٍ في عرقلته ورفع كلفته وصد الناس عنه وتشديد الرقابة عليه.




[1] انظر: محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، ط1 (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2011م)، ص23.
[2] شكيب أرسلان، الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف، وقف على تصحيحها وعلق بعض حواشيها: السيد محمد رشيد رضا، ط1 (القاهرة: مطبعة المنار، 1350هـ)، ص82.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق