مذكرات الشيخ رفاعي طه (6)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
قصتي مع التصوف
·
قلت لضابط أمن
الدولة: نعم، عبد الناصر صنم.. ألم يكن له خطأ واحد؟!
·
كنت أتمثل عبد
الناصر وأخطط لتنفيذ انقلاب عسكري وحكم مصر
سجلها
عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة
الحلقات السابقة:
ولم تنته الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان
من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة. هذه المرة لم أكن وحدي، بل كنت
مصحوبا بمخبر، ولما دخلت إلى المحقق، سألني:
-
ماذا تقصد بأن جمال عبد الناصر كان صنما؟ ومن قال
لك هذا التعبير؟
-
لم يخبرني أحد، أنا أرى كل الناس تمدح عبد
الناصر ولهذا أستشعر أنه صنم، وأنا عضو في منظمة الشباب الاشتراكي، ومسؤول تثقيف
مركز ادفو
-
"يخرب بيتك، يخرب بيتك ما
احنا عارفين"
-
فقط أسمع المديح المديح المديح لعبد الناصر، لا
يوجد أي شخص يقول شيئا آخر.. الا يخطيء عبد الناصر أبدا؟ بالتأكيد لقد أخطأ يوما
-
أخطأ في ماذا مثلا؟
-
لا أدري.. أنا لا زلت صغيرا ولا أستطيع أن أعرف
فيما أخطأ، لكنه أخطأ بالتأكيد!
-
أنت يا رفاعي شاب متميز، وتفكر، وتسأل، وأنا
واثق أنه لم يخبرك أحد شيئا سيئا عن عبد الناصر، ومن الحسن أن تسأل مثل هذا
السؤال.
-
فما تريدون مني الآن؟
-
لا نريد منك شيئا، فقط نريدك أن تحافظ على نفسك،
أنت شاب جيد، ونحن نحب من هم مثلك من الشباب، وأنا قرأت ملفك، وعرفتُ أن زميلي قد
أوصى بك، وترك لك رقم هاتفه.. وها هو أيضا رقم هاتفي، كلمني إن احتجت إلى أي شيء،
فأنت أخونا الصغير.. إلخ!
كان أهم ما يريدون معرفته هو "ماذا
تقصد"؟ و"من قال لك هذا"، ولما تبينوا أنه ليس ثمة أحد يلقنني هذا
الكلام استهانوا بالأمر. إلا أن هذه المقابلة أذهبت من نفسي الرهبة منهم، فمن بعد
ما كنتُ خائفا ارتحت واطمأننت، لقد تصورت أني سأدخل كهف العذاب الجهنمي من رؤيتي
لوجه النظر وفزع الأستاذ عيد، رغم أني لما تحدثت مع المحقق كنت أتحدث بثقة أفضل
مما توقعت. إلا أن أهم ما خرجت به من تلك المقابلة أن النظام في مصر صار يتسامح مع
مثل ما أقول، أو حتى: يرحب بأن تنتشر هذه المقولات التي تخدم استراتيجية السادات،
وقد تبناها فعلا فيما بعد.
أما في البيت فهيمن على أجواءه خوف أشد من خوف
المرة الأولى. إن أبي –رحمه الله- رجل أمي بسيط، يقرأ ويكتب بصعوبة، وأمي من جهتها
أمية، وهما كما هو حال الشعب المصري تلك الفترة يخافون جدا من التعرض لكل ما هو من
شأن السلطة والدولة، كان أبي يقول لي: إن لم تكن تخشى على نفسك فاخش عليَّ، إني
أريد أن أُرَبِّي إخوتك كما ربيتُك!
كان كلامه يعكس الخوف الشديد، إلا أنني لم أكن
أتأثر بهذا إطلاقا، كان يملك عليّ نفسي أني على الحق وعلى الطريق الصحيح، وحيث أن
الأمر كذلك فلا اعتبار لكل ما ألقى في سبيله، سواء في ذلك التهديدات أو الرجاءات!
وأبعد من ذلك أني في هذه المرحلة لم أكن أشرك
أحدا في تفكيري إطلاقا، نعم.. أتحدث مع الأستاذ عيد الرافعي، وفي مرحلة لاحقة دخل
على الخط أستاذ آخر اسمه سيد وكان يدرسنا اللغة العربية وكان صوفيا، وكذلك أستاذ
آخر هو جمعة أبو زلازل.. كل هؤلاء كانوا يجلسون ويتحدثون معي، وكنت أستفيد منهم
علميا وشرعيا، إلا أنني لا أطلعهم على أفكاري ولا أحكي لهم مقصد جميعة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، كنت أستشعر أن هذا عمل عظيم وأني أتفرد به، كنت أرى
نفسي كمن يطوي جوانجه على السر الكبير الخطير، كأنما أنا زعيم الثورة المرتقب،
مثلي مثل جمال عبد الناصر!
لقد سيطرت عليَّ فكرة أنني سأصنع شيئا، بل شعرت
أحيانا أني قد أصبحت قريبا جدا من أكون رئيس مصر.. إنها خمر المراهقة التي تقرب
الأحلام البعيدة من الأفق البعيد فتجعلها كأنها في متناول اليد وأنه ليس بيننا
وبينها إلا هذه الخطوة.. وما تلك الخطوة؟ أني سأدخل الكلية العسكرية، ثم أنفذ
انقلابا.. وهكذا أصير رئيس مصر، أرأيت إلى المسألة كيف هي يسيرة؟!
لا أتذكر أحداثا أخرى مهمة في هذه السنة، الصف
الثاني الثانوي، لكن هذه السنة شهدت إقبالي على المكتبة وكثرة القراءة فيها، وكان
الأستاذ عبده قد دخل إلى عالمي.. وكان صوفيا!
قبل ذلك بعام، كان خط آخر قد بدأ في حياتي.. ذلك
هو خط الصوفية..
لقد كان أساتذة المدرسة متصوفة، لكنهم لم يكونوا
ينتمون إلى طريقة بعينها، أما أنا ففي الصف الأول الثانوي التحقت بالطريقة
الأحمدية النقشبندية.. وقصة ذلك أن لدينا جارا يعمل في مصنع ادفو للسكر، اسمه
محمد، وكان يراني شابا متدينا أغدو إلى المسجد وأروح، فدعاني ذات يوم للذهاب معه
إلى الزاوية، لم أمانع، ومن ساعتها كثر ترددي إلى هذه الزاوية.
عرفت هناك أن طريقتهم هي الأحمدية النقشبندية،
أو لعلها الأحمدية الشاذلية، لقد نسيت وتطاول العهد بهذا، وعلى كل حال دعاني جارنا
هذا إلى الانضمام للطريقة على أن أكون "مريدا ثانيا"، لقد كان لديهم
مراتب ودرجات، وكان المريد الأكبر عندهم شيخ اسمه الزرقاني.
لم يكن عندهم علم بالشرع، وتصدق فيها الانتقادات
التي توجه للصوفية، كنا في تلك الزاوية نحفظ أحاديث بسيطة جدا، وكذلك في حفظ
القرآن، ولقد رأيتني أحفظ أكثر منهم، فلربما كانوا يحفظون في جز عم، بينما أنا في
الجزء الخامس، وفي تلك الفترة كنت قد وصلت في حفظ القرآن إلى سورة الإسراء إلا أني
نسيته لأني لم أكن أداوم على المراجعة، إلا أن هذا لم يخفض قدري بين أقراني أيضا
إذ كنت أحسن منهم حفظا وكذلك استحضارا للآيات، فإذا فُتِح باب نقاش أو أردت فتح
كلام فإن الآيات المتعلقة به تكون حاضرة في ذهني، والشاهد أنني كنت بين هؤلاء
القوم من المنسبين لهذه الطريقة أحسنهم، فكنت أقرأ لهم القرآن، فإن غمض عليهم شيء
شرحته وفسرته لهم، وما هو إلا أن بدأت في النقد والنقاش، أو قل: الجدال واللجاجة..
وهذا شيء لا تحبه الصوفية!!
لا أتذكر الآن هل كنا نلتقي في تلك الزاوية كل
أسبوع أو مرتين في الأسبوع الواحد، لكن الذي تنبغي الإشارة إليه هنا هو انتشار
فكرة الحلول والاتحاد فيما بينهم.. لم يكونوا ينشرون هذه الفكرة من خلال الدروس،
وإنما هي منتشرة في حكاياتهم.
أذكرة مرة أنه قد حُكِيت أمامي أن رجلا قد سأل
شيخه معترضا على كيفية الخلق، وكيف أن الله (سبحانه وتعالى) يخلق بعض الخلق
متشابهين مع كثرتهم وتعددهم، فقال الشيخ: تعال عندي اليوم بعد العصر لنشرب الشاي
معا. فحضر المريد في الموعد المضروب، فلما جلس بين يديه طرق الباب، فأمره الشيخ أن
يفتح، فذهب ففتح فوجد نفس الشيخ أمامه، فصار يقلب بصره مندهشا بين شيخ جالس في
الدار وشبيهه الواقف على الباب، ثم ألجمته الدهشة حتى دخل الذي بالباب، وما إن جلس
بين يدي الشيخ حتى طرق الباب مرة أخرى، فأمره أن يفتح، فذهب ففتح فتكررت القصة حتى
دخل الدار أربعون رجلا على نفس هيئة الشيخ الجالس في الدار. فهنا قال الشيخ لمريده
صاحب السؤال: كنت قد سألتني سؤالا في الحلقة وأنا أريد أن اجيبك عليه. فقال المريد
له "لقد أجبت.. لقد أجبت.. لقد أجبت"، وهكذا أعطاه الشيخ درسا عمليا
وأدبه تأديبا قويا وعلمه ألا يسأل مثل هذه الأسئلة، فإن كان الشيخ الولي يستطيع أن
يخلق أربعين نفسا على صورته فكيف بالله الواحد القهار!!
ما إن سمعت هذه القصة حتى غضبت غضبا شديدا
وانطلقت صائحا: هذه القصة لا يمكن أن تكون صحيحة، هي بلا شك كذب!
واندهش الشيخ من جرأتي وصاح بدوره: كيف تقول؟!
هل تعني أنني كاذب؟
فقلت له وما زلت في غضبي: لا أدري هل أنت الكاذب
أم غيرك، لعلك نقلتها من كتب ليست صحيحة، لكن اليقين أن هذه القصة كذب لا يمكن أن
تصح. حتى ولو افترضنا أن هذا الشيخ قد استعمل قوة الجن وسخرهم لنفسه، فلن يمكن
للجن أن يفعلوا هذا، تلك القصة في حكم المستحيل!
كانت القصة في حكم المستحيل.. وكانت غضبتي هي
الفراق بيني وبينهم! قررت ساعتها –وكنت في الصف الثالث الثانوي- ألا أذهب إليهم
مرة أخرى.
ومع هذا لم تنقطع علاقتي كلية بالصوفية، لقد كنت
أعود في أسئلتي وفي مثل هذه الأمور إلى أساتذتي في المدرسة، لقد كانوا مع تصوفهم
أكثر ثقافة ونضجا من هؤلاء البسطاء، لا سيما الأستاذ عبده، لكم كان مثقفا حقا،
وكان شديد التدين مشهور به في مركز إدفو، وكان له شيخ أكبر منه يعمل مفتشا للغة
العربية وقد بلغ سن المعاش، وكان هذا الشيخ أكثر تدينا منه وأشهر، ولقد كانت لي
قصة معه لعلي أذكرها إن شاء الله.
استاذ محمد باقي الحلقات عندما ندخل إلى الرابط لا يعمل نرجو اعادة رفعها مرة أخرى
ردحذف