** قدمت هذه الورقة في المؤتمر العلمي الأول لحركة حماس، والمنعقد بغزة (18، 19سبتمبر 2018)
ليس لحماس إنتاج كثير في باب الفكر السياسي، لهذا فإن
أغلب ما يكتب عنها إنما يستمد مادته من الوثائق والبيانات والسلوك السياسي في
المواقف المختلفة أو من تصنيفها ضمن مدرسة إسلامية أوسع وهي في حالتنا هذه
"الإخوان المسلمين" ليمكن فهم منطلقاتها السياسية، وفي هذا مخاطرة
معروفة تؤثر في الدقة البحثية ووضوح التصور، فالاعتماد على تحليل السلوك السياسي
لا يؤدي بالضرورة إلى فهم الرؤية الفكرية للحالة، إذ أن السلوك السياسي الواقعي هو
نتاج عملية مركبة من ثلاثة عناصر: الفكر السياسي والإكراهات الواقعية الظرفية
وكفاءة التنفيذ، وبإمكان العنصرين الأخيرين أن يُشَوِّها كثيرا العنصر الأول
المتعلق بالفكر، وهنا موضع المخاطرة.
من هاهنا حاولت هذه الورقة رصد أزمة الفكر وتطور الفكر
السياسي لحماس تحت إكراه الواقع المعقد داخليا وإقليميا ودوليا، واضطرت أن تعتمد
على الوثائق والبيانات والكتابات المقربة من الحركة لتستخلص معالم هذه الأزمة وهذا
التطور عبر السنوات العشر منذ ما بعد الحسم العسكري والانفراد بحكم غزة (2007م) حتى (2017م) عام صدور وثيقة المبادئ
والسياسات العامة التي اعْتُبِرَتْ –بحق- تعديلا على ميثاق حماس الأول (1988م) وهو
أيضا عام آخر المحاولات الجادة في الوصول إلى مصالحة تُسَلِّم فيها حماس حكم غزة
لسلطة محمود عباس.
وسعيا لبيان ملامح هذه المسيرة قُسِّمت الورقة إلى ثلاث
محاور؛ الأول: عن إكراهات الواقع المفروض على حماس في التنظير والتطبيق وهو ما
أنتج تجربة تزاوجت فيها الثورية اللائقة بحركة تحرر والمحافظة اللائقة بحركة
محاصرة تحت ضغوط كبرى، فكان المحور الثاني عن الجانب المحافظ من تجربة حماس،
والمحور الثالث عن الجانب الثوري من تجربة حماس. وهذه القسمة هي برأيي القادرة على
بيان مناطق الثبات والتطور في التجربة لتكون كاشفة عن نتائج التدافع بين رغبة
التحرر وضغط الواقع.
ومن نافلة القول أن هذه الورقة كُتِبت لا بغرض الثناء
على حماس ولا بغرض الهجوم عليها، وكاتبها لا يتردد في الإعلان عن حبه واعتزازه
وفخاره بحركة حماس كواحدة من حركات المقاومة والتحرر الإسلامية، ولكونها أنضج
الحركات التي جمعت بين السياسة والقتال، ومع هذا فإن ما في هذه الورقة من الثناء
لم يفارق الموضوعية المقصودة والمطلوبة من أي ورقة علمية، وليس فيها من الانتقاد
إلا ما هو مقصود ومطلوب بغرض الاستفادة والنصح والتقويم، وفيها أيضا من حسن الظن
والتماس الأعذار ما هو خليق أن يُقدَّم في شأن المجاهدين.
حماس غزة: صورة مصغرة مكثفة لتحديات إنتاج تجربة إسلامية
على نحوٍ ما، يبدو أن مشكلات الأمة الكبرى العامة
تُخْتَصر في واقع الأزمة التي تعرضت لها حماس إثر توليها مسؤولية الحكم (2006م)،
فلو حاولنا استعراض مشكلات الأمة الكبرى سنجد أنها خمسة، تلك هي:
1. الاحتلال الأجنبي المهيمن على الأمة والمتحكم في قرارها –رغم الاستقلال الشكلي الزائف- وما
يتمتع به من فارق القوة الضخم الذي يجعل شأن مقاومته فادح التكاليف عظيم الخسائر، ومنذ
دخلت أمتنا في طور الاستضعاف قبل قرنين من الزمان ولا يزال الزمن يؤول إلى ازدياد
فارق القوة بين الأمة وعدوها، وقد وصلنا في الفترات الأخيرة إلى استطاعة قوى
الاحتلال القضاء على القوى الخارجة عن هيمنتها بمجرد التفوق الجوي والأمني وأحيانا
قبل نزول القوات على الأرض كما وقع في أفغانستان مع حركة طالبان (2001م)، وفي
العراق مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (2017م) وفي سوريا مع مناطق الثورة
في حلب والغوطة الشرقية وغيرها (2017، 2018م).
وفي حالة غزة تبدو نفس هذه الأزمة على المقياس المصغر،
إذ الفارق ضخم بين القوة الإسرائيلية العسكرية وقدراتها الأمنية وبين فصائل
المقاومة، وهو ما يتيح لها القدرة على إحداث دمار واسع تضغط به على المقاتل وعلى
المُفاوِض أيضا في حال إرادة الوصول لإنهاء الحرب. إلا أن الحالة الغزاوية تشهد
بعض المزايا مثل: قدرة حماس على ضرب شبكات أمنية مؤثرة للاحتلال داخل غزة، وعلى
إنهاء الوجود الفتحاوي الذي يمثل الإسناد الأرضي المناظر للقوات العراقية الحكومية
وقوات التحالف الشمالي الأفغاني وقوات نظام الأسد، مما يجعل المهمة الأرضية موكولة
إلى جنود الاحتلال الذي هو شديد الحساسية والحرص على طاقته البشرية.
2. الاستبداد الداخلي والذي تمارسه النظم المحلية الوظيفية المسنودة بالاحتلال
الأجنبي، والتي يمثل مجرد وجودها أحد أكبر التحديات لأي حركة مقاومة، ذلك أن
مواجهة عدو أجنبي محتل أسهل على سائر المستويات –إلا العسكري- من مواجهة طرف من
نفس الشعب ويتمتع بجذور سياسية وحواضن اجتماعية وخبرة محلية، فضلا عما يضفيه عليه
الإسناد الخارجي من شرعية قانونية وحضور دولي وإمكانيات مالية ودعم مالي.
وفي الحالة الغزاوية ينتصب نموذج السلطة الفلسطينية
كحالة مثالية للسلطة التي ترفع عن المحتل الأجنبي عبء إدارة الشؤون اليومية وتسخر
مجهوداتها الأمنية ونفوذها السياسي لصالحه، وهي واحدة من أنجح تجارب التوظيف
الاحتلالي لفئة محلية ضد حركات المقاومة.
3. الموقع الجغرافي الخطير، وذلك أن الأمة تتمدد جغرافيا في قلب العالم، حتى ليمكن القول بأنه ما من
أمة في هذا العالم تستطيع إنشاء سياسة أو تجارة أو أي نوع علاقة مع أمة أخرى إلا
واحتاجت إلى إذن الأمة المسلمة، وهذا الاتصال الجغرافي للأمة والممتد من أقصي
الشرق حتى أقصى الغرب بقدر ما هو قوة عظمى للأمة في حال قوتها، بقدر ما هو نفسه
أزمة مرهقة وخطيرة في حال ضعفها، وتلك أقدار الله التي تحتم على الأمة دائما أن
تسعى للنهوض والقوة، فالموقع الحساس إما أن يكون مصدر القوة أو أن يكون مسرح صراع
الأقوياء من حوله ونقطة جذب لأطماعهم، وهذا هو قدر الأمة، وهو بالذات قدر قلبها
المصغر الذي يشمل الشام والعراق ومصر وتركيا.
وتبدو هذه الأزمة نفسها في حال قطاع غزة، لا سيما بعد أن
حكمته المقاومة، إذ هو بها قطاع صغير متكدس معزول بلا عمق استراتيجي، محشور في كبد
الكيان الصهيوني الذي هو القاعدة العسكرية الأمنية المتقدمة للنظام الغربي في قلب
العالم الإسلامي، فـ "إسرائيل" هي ابنة الحضارة الغربية وربيبتها التي
ولدتها وأنشأتها ورعتها في هذه البقعة، وسواءٌ ذهبنا مع من قالوا بأنهم فعلوا هذا
حبا وكرامة وإخلاصا لدينهم وعقائدهم كما يقول من يُغَلِّب المُكوِّن الديني على
قرار السياسة الغربية[1] أو مع من قالوا بأنهم فعلوا هذا سياسة ومصلحة وتوظيفا
للمتناقضات كما يقول من يُغلِّب المُكوِّن المادي العلماني على هذا القرار[2]، فالحاصل أن إسرائيل هي أول خطوط الدفاع والهجوم عن
الحضارة الغربية ونظامها العالمي، وقد جزم البعض بأن الصراع العالمي كله متوقف على
الصراع مع إسرائيل[3].
4. سيادة نمط الدولة الحديثة، وهو النمط الذي أنتجته الحضارة الغربية المعاصرة
وبَنَتْ عليه نظامها الدولي، وخلاصته أن أحلَّ الدولة محل الإله، فالدولة هي
المرجعية وهي صاحبة السيادة وهي المتصرفة في سائر الأنشطة الإنسانية ضمن البقعة
الجغرافية التي تهيمن عليها، وسائر أوجه النشاط المجتمعي إنما هو محكوم بما تسمح
به السلطة، فالمجتمع على الحقيقة أسير أمام الدولة التي لم تعد مجرد سلطة سياسية
ذات قوة عسكرية وأمنية، بل صارت جهازا ضخما يدير ويتحكم في كل التفاصيل. هذه
الحداثة لم تغرس في بلادنا إلا بقهر الاحتلال والاستبداد، ذلك أنها تخالف وتناقض
النظام الإسلامي الذي شكَّل طبيعة بلادنا وصورة علاقاتها السياسية والاجتماعية عبر
خمس عشرة قرنا، ولذلك فكل قصة "تحديث" في بلادنا كانت هي ذاتها قصة
الاحتلال والاستبداد. وأسوأ ما في هذا النمط هو تعطيله الفاعلية الذاتية الشعبية
بمصادرة مساحات حركة المجتمع، فحتى معلم المدرسة أو خطيب الجامع صار يحتاج تصريحا
من الدولة لممارسة هذه المهمة، بل صار محتاجا إلى ورقة رسمية تعترف له بأنه معلم
أو خطيب! لكل هذا كانت خلاصة قصة "الحداثة" في بلادنا أنها النظام الذي
تمكَّن من شلِّ طاقة الأمة وتعطيل شعوبها، لطبيعته هو نفسه أولا ولكونه مفروضا
علينا في زمن الضعف فمن ثَمَّ كان عمله في ترسيخ قوة الغالب الغربي وترسيخ ضعف
المغلوب الإسلامي.
تلك هي المحنة الكبرى والنازلة العظمى على المستوى
النظري والعملي، أي على مستوى إنتاج الاجتهاد الإسلامي الأصيل الرشيد، وعلى مستوى
المقاومة الإسلامية التي صارت كأنها في قضية تحررها ضد نظام العالم كله.
تبدو مشكلة الأمة هذه متمثلة في غزة أيضا، فلقد استطاع
نمط الحداثة هذا أن يجعل غزة تحمل مسؤوليات الحكم كأنما هي في دولة تتحمل فيها
مسؤولية إدارة سائر التفاصيل، هذا مع أنها مُحاصَرة بنفس نظام الدول الحديثة الذي
يمنع اتصالها بطاقة الأمة بل يجعل طاقات الأمة كلها محاصَرة ومعزولة وممنوعة من
التواصل والإمداد لطاقة الغزيين، فبقدر ما تحملت المقاومة عبء إدارة دولة حديثة
طبقا لمفهوم الدولة الحديثة بقدر ما مُنِعت من وسائل الحياة طبقا لنفس هذا
المفهوم، وقد وجدت حماس نفسها أمام المعضلتين معا: معضلة أنها تتولى إدارة قطاع
متكدس بالبشر (وهو عبء داخلي) وهو محاصر معزول (وهو عبء خارجي).
لا يمكن مطالبة حماس بإنتاج اجتهاد إسلامي لنازلة الدولة
الحديثة، التي هي النازلة العامة التي اضطربت فيه آراء الإسلاميين من أقصى اليمين
(هدم الدولة الحديثة ومن ورائها النظام العالمي) إلى أقصى اليسار (الذوبان فيها
واعتبارها حتى بوضعها الحالي غاية إسلامية)، والغالب أن همّ مقاومة الاحتلال
وتثبيت المكاسب الأمنية والعسكرية لم يتح أصلا فرصة طرح هذا التوجه الفكري على
مائدة البحث في أي وقت.
لكن حماس عمليا بين اختياريْن، وإن لم يكن أمامها الوقت
ولا الإمكانية لبحث المسألة في صورتها النظرية، وهما: أن تكون سلطة رشيدة ضمن
مفهوم الدولة الحديثة أم تكون قيادة مقاومة ضمن مفهوم ما قبل الحداثة أو تصورات ما
بعدها. وكل هذا ينعكس بقوة على طبيعة وحدود العلاقة بين السلطة والشعب ووظائف كل
منهما.
5. افتقاد التنظير السياسي
الإسلامي المعاصر، والانقطاع الكبير في هذا
الباب نتيجة لغياب نظام الخلافة من جهة وانحدار شأن العلماء في المجتمعات
الإسلامية من جهة أخرى، وبهذين الأمرين صار أمر الاجتهاد المعاصر محتاجا إلى فقهاء
يعرفون علم الشرع وعلم الواقع ولديهم القدرة على الاجتهاد الذي يحلون به معضلة لم
تواجه القرون الأربعة العشر الماضية[4]، إذ سائر التراث الفقهي مكتوب في حال لم تعد موجودة،
فضلا عن أنه مكتوب في حال لم تبلغ أبدا من الضعف والقلة مثل ما تبلغه الأمة الآن
من أنها مقهورة في سائر تفاصيل نشاطها بفارق قوة ضخم وبأفكارٍ أجنبية أنتجت
نُظُمًا استقرت وتمكنت، فلو أن كل باب السياسة الشرعية هو باب الموازنات بين
المصالح والمفاسد ضمن ثوابت الإسلام ففي زماننا هذا صار أمر السياسة الشرعية هو
شبكة الموازنات بين الأوضاع المعقدة التي لا تكاد توجد فيها مصالح بل مجموعة من
دفع الأضرار والمفاسد نحتاج إلى تقدير الأقل من بينها.
هذا فضلا عن أن الجهة المؤهلة للاجتهاد، وهم العلماء،
إنما كانوا أهم المستهدفين بالإقصاء والعزل عن المجتمعات، مع تدمير مكانتهم
الاجتماعية ومحاضنهم العلمية العريقة، حتى لقد جرى إقصاؤهم عن قضايا الأحوال
الشخصية التي صار الحكم فيها إلى قانونيين ومحاكم وضعية، مما كان من آثاره أن يكثر
فيهم أنفسهم الجاهلون بأبواب السياسة الشرعية وأن ينصرف الكلام في هذه الأبواب إلى
غيرهم ممن لا يحسنها فيكثر فيها الاضطراب[5] والتأثر بالثقافة الغالبة[6]. ومن جهة أخرى صارت جماعة العلماء بين عالم في ظل سلطة
أو عالم في ظل حركة إسلامية أو عالم مستقل بنفسه، تحول مجمل الاجتهاد المعاصر إلى إجابة مسائل
نوازل متفرقة تعالج أحداثا جزئية وقطرية وحزبية. وهو ما يجعل كل تجربة إسلامية في
الحكم خاضعة لظروف الواقع أكثر من صدورها عن منظومة عامة.
وهذا في حالة غزة أشد عسرا حيث تجتمع عليها العديد من
النوازل في الوقت الواحد.
يتفرع عن تلك المشكلات الخمس الكبرى ويدعمها مشكلات أخرى
كثيرة، كالبيئة الدولية المضطربة والمعقدة بما تطرحه من محاولات التوظيف والإنهاء،
وبروز تيارات الغلو أحيانا، والتيه في التوفيق بين ما يستحق التشدد وما يستحق
المرونة، والعمل في ظل نظام سلطوي ثم نظام عالمي يتحسس ضد أي محاولة تغيير فيه أو
مقاومة له، ويكافحها بلا رحمة، لا سيما والقرب الجغرافي من "إسرائيل"
يجعل المعركة في قلب الصراع المحتدم بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وهو الصراع
العالمي الطويل الممتد لأكثر من ألف سنة.
تمثل كل مشكلة من تلك الخمس الكبرى في حد ذاتها تحديا
ضخما أمام الأمة، ولهذا يمكن تصور كيف يتحول اجتماعها معا في منطقة جغرافية صغيرة كغزة
إلى محنة عظيمة، كان على حركة حماس أن تتعامل معها، في لحظة لم تتوقعها أو تستعد
لها. لا سيما وأن قرار حماس ينتج في الداخل والخارج، وهو محنة أخرى لها تأثيرات
داخلية عميقة على الحركة نفسها، إذ مهما قيل في الانسجام بين حماس في غزة والضفة
والخارج فلن يغير هذا من حقيقة أن الأوضاع المختلفة تنتج فروقا في الرؤية وأسلوب
العمل.
ومع التسليم بكل ما سبق سرده من المشكلات الخمس الكبرى،
والتقدير التام لكون عملية الاجتهاد في منازلتها عملية صعبة ودقيقة وهي أشد كلفة
على الطرف الأضعف، إلا أن هذه الورقة تمثل وجهة نظر ترى أن عامة سلوك الحركة في
تجربة الحكم كان أقرب إلى المحافظة منه إلى الثورية، وأن هذا هو ما فوَّت عليها
عددا من الفرص المهمة، مثل الموقف من الانقلاب في مصر والنأي بنفسها عن الدخول فيه
حفاظا على "ثوابتها السياسية"، وعلى نحو مثير للنظر يبدو الجناح العسكري
أكثر ثورية ومرونة إذ استطاع استنقاذ أسرى له في السجون المصرية في اللحظات الأولى
من انهيار الشرطة (28 يناير 2011م) وقبلها كان قرار الحسم العسكري هو ردة فعل
عسكرية لا قرارا سياسيا، وبدا فيه أن الجناح العسكري أيضا أكثر ثورية ومرونة في
التعامل مع المستجدات، ويرى الباحث أنه لولا وجود السلاح بيد حماس فلربما شابهت مصير الإخوان في مصر، ذلك أن وجود
السلاح والجناح العسكري جعل الحسم قرارا نابعا من إكراه واقعي وردة فعل ظرفية، وهو
من أهم القرارات المؤثرة في مصير القضية الفلسطينية كلها، وبه صارت غزة قلعة
مقاومة منيعة.
طبقا لهذه الرؤية، نستطيع
أن نجمل مسار تجربة حماس السياسية في خطَّيْن: خط المقاومة والثبات (الجانب
الثوري)، وخط القبول بالواقع (الجانب المحافظ)، فمن أهم معالم خط المقاومة: الموقف
من الاحتلال، ومن فتح مفاوضات معه، واستهداف "المدنيين" منهم، والحفاظ
على العلاقات مع إيران وتركيا وقطر رغم الضغوط لقطعها. ومن أهم معالم خط القبول
بالواقع: الموقف من سلطة فتح ومنظمة التحرير، والقبول بنمط الحداثة في إدارة قطاع
غزة وفي التعامل مع الوضع الإقليمي والدولي، والحرص المبدئي على عدم فتح أي نزاع
مع الدول العربية والتحمل التام للسياسات المضادة والمعادية من قبلها.
ومن نافلة أن توزيع هذه
المواقف ضمن خطي المقاومة أو القبول بالواقع هو باعتبار الغالب على الحال، وإلا
فقد يقع في بعض المسائل وبعض الظروف ما يكون فيه نوع رضوخ كما في لهجة وثيقة
المبادئ (1 مايو 2017م) فليس يجعلنا هذا ننقل الموقف من الاحتلال من جانب الخط
المقاوم إلى خط القبول بالواقع، وقد يقع حسم عسكري ينهي وجود سلطة فتح في غزة فليس
يجعلنا هذا ننقل الموقف من سلطة فتح من جانب خط القبول بالواقع إلى خط المقاومة..
وهكذا!
الجانب المحافظ من تجربة
حماس
عملت عدد من الأسباب على
أن تبدأ حماس تجربتها في الحكم بأسلوب محافظ غير ثوري، ومن أهم هذه الأسباب أربعة:
الأول: أن فرصة الحكم جاءتها على غير توقع فخاضته دون رؤية سياسية مسبقة، وفيما
يُعتبر هذا الخوض نفسه عملا ثوريا مفاجئا استجابت له الحركة بمرونة تحمد عليها لكن
هذا يجعله من "إكراهات الواقع"[7] ومفاجآته، وكان طبيعيا أن يكون التصرف في واقع الحكم بعد الفوز محافظا، إذ
طالما لم تكن ثمة رؤية مسبقة فالأغلب أن تبقى التقاليد القائمة على حالها، وحماس
قد نشأت كحركة مقاومة وتحرر ولم يشغل بالها أن تدير حكومة في المدى المنظور[8]، لقد كان فوز حماس مفاجئا للجميع[9].
الثاني: كذلك فإن حماس باعتبارها من مدرسة الإخوان المسلمين[10] فإن خلفيتها الفكرية في هذا الباب ستكون أقرب إلى المحافظة، فالإنتاج
الفكري لمدرسة الإخوان في باب السياسة يعتمد على إصلاح ما هو واقع وتقديم رؤى
جزئية وتفصيلية، ولم يكن لهذه المدرسة إنتاج فكري ثوري في باب السياسة يتجاوز
الدولة القومية الحديثة ونظمها في الحكم والإدارة[11]، وإذا كان من الصعب العسير أن يجري حوار عميق حول نقد الديمقراطية في دولة
غير ديمقراطية فكيف يمكن أن يجري حديث عن تجاوز الدولة في تجربة فلسطينية عاشت
تتشوق للدولة دون أن تحققها؟!
الثالث: كذلك فإن تأسيس حماس حمل في بذوره أنها بديل لحركة فتح وحركات اليسار
الفلسطينية، وهي الحركات التي تبنت المواجهة المفتوحة والعالمية مع الاحتلال مما
جعل دول العالم بما فيها الدول العربية تتخذ منها موقفا معاديا كلَّف حركة الكفاح
الفلسطينية خسائر فادحة، فاعتمدت حركة حماس نمط المواجهة المحدودة المحصورة داخل
الأرض المحتلة ومن بين آمالها أن يوفِّر هذا لها دعما عربيا أو في أقل الأحوال ألا
يستثير عليها عداءً عربيا.
الرابع: حرص حماس على تقديم صورة مطمئنة للوضع الإقليمي والدولي لتجربتها في
الحكم، وهو الحرص الذي رافق كل تجربة الحركات الإسلامية السياسية والناتج عن شدة
التشويه والتفزيع من كل تجربة إسلامية.
دفعت هذه الأسباب إلى
تجربة حكمٍ محافظةٍ تَتَحَسَّس من التغيير ومواجهة الوضع السائد، وغاية ما ترجو أن
تتمكن من إدارة الشأن الفلسطيني بأكبر قدر من التوافق والهدوء مع خصوم الداخل،
وبأكبر قدر من التهدئة والطمأنة مع خصوم الخارج:
1. لم تسع حماس إلى إزاحة
فتح أو غيرها من رفاق أو خصوم الدخل بل عملت جهدها على تكوين حكومات ائتلافية
تتشارك في مهمة الحكم والإدارة منذ اللحظات الأولى[12]، ولما انفردت بتشكيل الحكومة جعلت من وزرائها مسيحي هو طناس أبو عيطة ولما
اعتذر استبدلت به مسيحيا آخر هو جودة جورج مرقص[13]، وحرصت على خطاب إعلامي يجانب التعميم والوصم الفصائلي[14]، مع ما تعرضت له حكومتها من العرقلة والتجريد من الصلاحيات لتتركز في يد
وكلاء أو موظفين متنفذين في الأجهزة وهم بطبيعة الحال تابعون لحركة فتح[15].
2. لم تحاول حماس هدم
شرعية منظمة التحرير الفلسطينية بل كافة ما صدر عنها كان في إطار محاولات الإصلاح
للمنظمة وتوسيعها[16]. ورغم كل ما وقع بين حماس وفتح[17] إلا أن الموقف الثابت الذي كانت حماس تعود إليه مهما ابتعدت عنه قليلا أو
كثيرا هو الاعتراف بالسلطة الفلسطينية والتعامل معها كسلطة شرعية، ووصل الحال إلى
الاستجابة لشروط كثيرة بغية تسليمها قطاع غزة ولكن تعطلت المصالحة على صخرة سلاح
المقاومة والسيطرة الأمنية أي عند نقطة وجودية بالنسبة لحماس[18]. كما لم تحاول حماس إجراء أي تعديل جوهري في بنية وهيكلة المؤسسات
القائمة، فضلا عن أن تنطلق من توسيع المشاركة المجتمعية في شأن الإدارة، وإنما
حافظت على الواقع القائم[19]، وكثيرا ما تردد في خطابها السياسي معنى الحفاظ على المؤسسات وإصلاحها[20].
3. قدَّمت حماس خطابا
سياسا يبتعد ما استطاع عن الإشكاليات الفكرية[21] ويتجنب المشاكل السياسية، ولم تتزحزح حماس في تصريحاتها ومواقفها عن
الثناء على النظم العربية وتثمين مواقفها وشكرها على ما يصدر عنها من مواقف مهما
كانت تافهة أو صدرت بغرض الاستهلاك الإعلامي، وتجنب التعليق على سياساتها العدائية[22].
4. لم تتزحزح حماس عن
موقفها بعدم التدخل في شأن أي دولة ولو كان هذا التدخل يؤثر على مصالحها، وأوضح ما
يبدو هذا في أنها فضَّلت أن تعاني أشد المعاناة من إغلاق معبر رفح دون أن تطور
موقفا ضد النظام المصري الذي كان أهم الفاعلين في الحصار الخانق المفروض على غزة والمستمر
منذ وصول حماس إلى الحكم[23].
وقد ظلت هذه السياسة تُثْقِل
القرار السياسي لحماس حتى في أوقات الفرص الكبرى مثل الثورة المصرية وفترة
الاضطراب والارتباك التي سادت ثلاث سنوات على الأقل، منذ مطلع 2011 إلى مطلع 2014،
ونزعم أنه كان بالإمكان إذا تحررت حماس من هذه السياسة المحافظة أن تحقق في هذه
السنوات الثلاث مكاسب نوعية في الملف الداخلي والخارجي، بل ونزعم أن لحظة الانقلاب
العسكري في مصر كانت تساوي بالنسبة لها معركة وجودية تستدعي أن تتدخل فيها بثقلها.
وهي اللحظة التي أنتجت فيما بعد سياسات مصرية في غاية الشراسة تجاه حماس ألزمتها
بالتراجع في الطموح والموقف حتى وصل الأمر إلى مصالحة تُسَلِّم بها قطاع غزة
للسلطة الفلسطينية وهي المصالحة التي فتحت موضوع "سلاح المقاومة"!
ومن الآثار السلبية لهذه
السياسة هو تضخم الروح الوطنية القومية لحماس على حساب الروح الأممية والإسلامية، وهذا
مما قد يُعَدُّ في الميزان السياسي المعاصر نوعا من الرشد والنضج، إلا أنه وفق
تقييم يعتمد ميزان حركة التحرر الإسلامية يعد نوعا من التراجع والتأثر السلبي
بمفردات الواقع الضاغطة وإكراهات الحالة السياسية[24]، فقد تكرر كثيرا أن تمدح حماس نفسها بالاعتدال في مقابل حركات إسلامية
أخرى تخوض حروب مقاومة وتحرير، أو يتطور هذا إلى إدانة "العنف والإرهاب"
بمقياس الأنظمة الحاكمة لا بمقياس حركات التحرر والمقاومة[25]، وظهرت بعض عناصر تنتمي إلى حماس تبدي انحيازا إلى بشار وإلى علي عبد الله
صالح وترى أن الثورات عليهما تحديدا كانت مؤامرة تستهدف القضية الفلسلطينة[26]، كما وترى أن الثورات العربية إنما عادت بالضرر على القضية الفلسطينية في
حين أن هذه الثورات هي المحاولة الحقيقية لتحرير فلسطين، والانقلاب عليها هي ردة
فعل إقليمية ودولية تضع نصب أعينها حماية إسرائيل وإعادة الوضع إلى ما كان عليه أو
أسوأ. وأظهر ما بدا عليه هذا الوجه القومي الوطني على حساب الوجه الإسلامي في نعي شخصيات
مثل سمير القنطار[27] أو إزجاء الثناء العلني[28] على شخصيات مثل قاسم سليماني[29] مع صمتها عن نعي الملا محمد عمر أو خلفه الملا أختر منصور أو غيرهما من
قيادات نالت الشهادة في بلاد إسلامية محتلة، وعادة ما يفَسَّر هذا –أو: يُبَرَّر-
بأنه يعتمد على ما قدمه هؤلاء لخدمة القضية الفلسطينية[30]، وهذا هو جوهر ما نعنيه بأن الهوية الوطنية الفلسطينية تتقدم على الهوية
الإسلامية للحركة، ونرى أن هذا من التأثر السلبي بإكراهات الواقع وضغوطه.
كذلك فإن من الآثار السلبية
لهذه السياسة أنه فيما يتعلق بالأنظمة العربية فقد ظلت حماس تتلقى الهجوم والضربات
دون ردّ، وكان التقدير السياسي لحماس أن الدخول في معركة ولو إعلامية مع الأنظمة
العربية يسرِّع من قطار التطبيع مع إسرائيل ويوفر الأجواء لهذه الأنظمة في شن
الحملات عليها وعلى القضية الفلسطينية، ورأت أن هذه المعركة هي من مسؤولية الحركات
السياسية والإسلامية العربية داخل هذه البلدان، وبالرغم من تحملها الضغط الهائل
وضبط النفس إزاء ما يمارس ضدها في إعلام هذه القنوات إلا أن قطار التطبيع يمضي
سائرا وتُشَنُّ الحملات الإعلامية الضارية ضد حماس بل والفلسطينيين وقضيتهم عموما
لتمهد الطريق للتطبيع. ويرى الباحث أن الحركة لو اعتمدت سياسة الهجوم والفضح لهذه
الأنظمة على الأقل فيما قبل موجة الثورات المضادة فإنه كان بالإمكان تحقيق نتائج
أفضل ضد الأنظمة في تلك الفترة، وأن استفادة الأنظمة من سياسة حماس تجاهها جعلها
تقدم على ما تريد باطمئنان، فهي قد استفادت من سكوت حماس وتثمينها لمواقف الأنظمة بأكثر
مما استفادت حماس من هذه السياسة تجاه الأنظمة.
ومن الآثار السلبية لهذه
السياسة أن استطاع خطاب تيارات الغلو أن يجد له موقعا في نفوس عدد ليس بالقليل من
أبناء غزة بل ومن أبناء حماس نفسها[31]، وصل في بعض الأحيان إلى اعتناق تكفير حماس وقتل من يعينها ردة كما وقع من
تنظيم ولاية سيناء الذي استقطب بعض الغزيين وبعض أبناء حماس[32]. والواقع أن حركة المقاومة والتحرر لا بد لها من موازنة شاقة وعسيرة بين
خطاب سياسي يدير العلاقة برفاق وخصوم الداخل والخارج وبين خطاب واضح وحاسم ومشبوب
بالعاطفة للحفاظ على صفها.
الجانب الثوري من تجربة
حماس
والمقصود بالجانب الثوري
هو قدرة حماس على مقاومة ما يُفرض عليها من ضغوط تريد تغيير مواقفها المبدئية، أو
ضغوط تريد استعمالها كورقة ضغط أو
استقطابها كحليف يتبنى المواقف السياسية في ظرف ما، وتُبْدي حماس حتى الآن
قدرة متميزة على أن تكون نفسها وألا تسقط في فخ الاستقطابات والمعادلات المتشكلة
والمتقلبة في المنطقة العربية الساخنة. ولا يمنع من هذا أن يقع شيء هنا أو هناك
مرة أو مرات، فذلك لا يغير من المسار العام.
وأبرز المواقف الثورية
لتجربة حماس هو موقفها من الاحتلال الإسرائيلي لكامل فلسطين، وعليه تركزت معظم
الضغوط السياسية التي أرادت استخراج اعتراف من حماس بإسرائيل، أو في أقل الأحوال
استخراج تصريح واضح بأنها تسعى لتحرير الأراضي المحتلة عام 1967 مما يعني اعترافها
بحق إسرائيل في احتلال الأراضي قبل ذلك العام، وقد تمسكت حماس بهذا الموقف طوال
هذه السنوات العشر، حتى أنها حين أصدرت وثيقة المبادئ والسياسات العامة (1 مايو
2017م) حرصت على صياغة هذا الموقف بعبارات قاطعة، ووضعت هدف تحرير الأرض المحتلة
عام 1967 في قلب مادة تنص على عدم الاعتراف بإسرائيل[33]، وهو موقف غير جديد عمليا بل دفعت إليه سابقا ظروف الأزمة مع فتح عام 2006
ضمن وثيقة الأسرى للوفاق الوطني (مايو 2006) لتجاوز الانقسام[34]، وبشكل عام فإن هذه الوثيقة (وثيقة المبادئ والسياسات العامة: 2017) بقدر
ما يمكن اعتبارها نوع تراجع بقدر ما يمكن اعتبارها وثيقة تَمَسُّك، وذلك أن
عباراتها عَبَّرَتْ عن المواقف العملية والمبدئية للحركة لكن بصيغ أكثر اقترابا من
مصطلحات ومفاهيم السياسة والقانون وابتعادا عن العاطفة والحماسة، والصيغ السياسية
في العادة بقدر ما تعبر عن حصافة ومرونة بقدر ما تعبر أيضا عن مأزقٍ اقتضاها وألزم
بها.
ومما يترتب على هذا موقف
الحركة من "المدنيين الإسرائيليين"، وقد تمكست الحركة بموقفها القائل
بأن هؤلاء محتلين وليس فيهم من يصدق عليه وصف "المدنيين"، فهم فوق كونهم
قد احتلوا وسكنوا هذه البلاد بعد طرد أهلها والاستيلاء على أراضيهم وبيوتهم فإن
التكوين العسكري لجيش دولة الاحتلال يجعل من سائر مواطنيها مجندي احتياط. على أن
الحركة وجناحها العسكري عمدت إلى تجنب استهداف أولئك "المدنيين" عمليا
ضمن تطور ونضوج عمليات المقاومة والقدرة على تحديد الأهداف العسكرية، وهي سياسة
مفيدة على المستوى السياسي والإعلامي، وهذا الالتزام العملي دون الإعلان عنه كمبدأ
أو التزامه كموقف يجعل من هؤلاء "المدنيين" ورقة ضغط.
ومن أبرز المواقف الثورية
في تجربة حماس عملية الحسم العسكري في قطاع غزة، والذي كان منعطفا تاريخيا في مسار
القضية الفلسطينية، ذلك أنه حجر الأساس في تحويل قطاع غزة إلى قلعة منيعة
للمقاومة، وما كان بالإمكان أن يتحقق شيء من الإنجاز العسكري الكبير إذا بقيت
أجهزة الأمن الفتحاوية التي تمثل شبكات تجسس إسرائيلية متقدمة فضلا عن مجهودها
الضخم في إجهاض العمل المقاوم. ولو لم يكن الحسم العسكري على يد حماس فإن حسما
عسكريا كان سيكون على يد السلطة الفتحاوية لا ريب في ذلك[35]، وساعتئذ سنكون أمام مشهد التصفية الكاملة لحماس في قطاع غزة على نحو ما
وقع في مصر بعد الانقلاب العسكري (يوليو 2013م) ضد الإخوان المسلمين، أو على نحو
ما وقع في الضفة الغربية ذاتها من استهداف سائر أوجه نشاط الحركة[36].
كذلك من أبرز المواقف
الثورية في تجربة حماس هو وقوفها إلى جوار الشعب الثوري في ثورته المشهودة،
واضطرار مكتبها السياسي لمغادرة دمشق تبعا لهذا الموقف، وهو ما تأثرت به علاقتها
مع الحليف الإيراني، وهذا من أثمن المواقف المشرفة لحركة حماس في وقتٍ لم يكن ليُغْتَفَر
لها فيه الصمت والحياد فضلا عن مساندة النظام السوري، وهذا بالرغم من التبعات
المتوقعة لهذا الموقف، وحاولت حماس اختطاط موقف توازن فيه بين علاقاتها بإيران
وحزب الله من جهة، وعلى حاضنتها الشعبية الممتدة والمتعاطفة مع الثورة السورية
خصوصا تجاه المذابح البشعة، ثم صار موقفها أكثر حرجا مع تعرض المخيمات الفلسطينية
في سوريا لمذابح النظام واتخاذ منظمات فلسطينية (كالجبهة الشعبية – القيادة
العامة) جانب النظام السوري، ثم ازداد الموقف حرجا بتحول الثورة السورية إلى
الكفاح العسكري الذي برزت فيه الفصائل المتعددة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وعملت
الآلة الإعلامية الدولية على توصيف المشهد باعتباره حربا أهلية أحد أطرافها
الجماعات "الإرهابية" التي تنأى حماس عن أن توصف كمتعاطفة معها أو
مرتبطة بها. لقد أدى هذا كله في ظرف تراجع موجة الثورات بالانقلاب العسكري في مصر
إلى تراجعات متوازية في مواقف حماس، التي صارت أقرب إلى الصمت –إلا من تنديد
بمذبحة هنا أو هناك- ثم بدأت تتالى تصريحات مسؤوليها التي تحاول إعادة ترميم
العلاقات بينهم وبين النظام السوري، وقد كانت هذه العودة جزءا من عودة محاور ما
قبل الثورات في المنطقة العربية التي تستعيد انقسامها إلى محور اعتدال مقابل محور
ممانعة[37].
ومن أهم المواقف الثورية
لحماس هو موقفها من إيران، فبالرغم من الضغوط الكثيرة عليها لكي تفصم العلاقة مع
إيران إلا أنها لم تفعل، وهذا موقف تُحْمَد عليه أيضا، إذ يجب أن لا ترهن حركة
المقاومة نفسها ضمن معادلة إقليمية أو دولية ما تلبث أن تتغير، ولا أن تتخلى عن حليف
مهم[38] بضغوط من أعداء في ثياب حلفاء كما هو الحال مع السعودية، لا يؤمن جانبهم
فضلا عن أن يؤمن التزامهم بوعودهم، وقد صعدت التوقعات بتغير الموقف السعودي مع
تولي الملك سلمان خلفا لعبد الله الذي رهن أي تعاون مع حماس بإعلان موافقتها
المسبقة على مبادرته، وهي الموافقة التي من شأنها إنهاء حماس نفسها، فإذا بسلمان
يشتري الكرسي لولده بالسير هرولة في مسار التطبيع الذي يسحق القضية الفلسطينية،
ويشن الحملة الإعلامية على الشعب الفلسطيني نفسه. وقد حرصت حماس ألا تنزلق لمستنقع
التنازع الطائفي الشيعي السني، بل استطاعت بكفاءة ومهارة أن تُبْقِي خطابها
مُعْلِيًا قضية فلسطين فوق هذا النزاع وتقديمها كقضية جامعة.
وقد استفادت حماس من هذا
الجانب الثوري من سياستها بقاءها في خط المقاومة وصمودها الذي خالفت به تقديرات
"الخبراء والمحللين" السياسيين[39]، وحافظت ألا تتحول مع السلطة إلى نسخة أخرى من تجربة فتح تحت إغراء السلطة
أو تحت ضغط الحصار الخانق والحروب المتكررة، وذلك في ظرف إقليمي أسوأ وأصعب من
الظرف الذي جرى فيه التحول الفتحاوي، إذ انفردت أمريكا بالهيمنة العالمية وانفردت
إسرائيل بالهيمنة الإقليمية وذهبت النظم العربية فرادى وجماعات خطوات واسعة في
مسار التطبيع والتوظيف للمصلحة الصهيونية.
كذلك استفادت حماس من
بقاء قرارها غير مرتهن لمحاور إقليمية، وتسليم الحلفاء بأنهم لا يتعاملون مع ورقة
يتحكمون فيها ويصنعون سياستها.
وأهم هذه المكاسب قاطبة
هي تحول غزة الصغيرة المتكدسة إلى قلعة منيعة للمقاومة، تعجز إسرائيل عن اجتياحها
عبر أربعة حروب كلٌّ منها أكبر وأخطر من سابقتها، وهي التي استطاعت اجتياح أربعة
دول عربية ذات جيوش نظامية في ساعات وأيام عبر تاريخها منذ نشأت، وبهذا تكون غزة
قد حققت في مواجهة إسرائيل ما لم يتحقق في تاريخ المقاومة العربية الصهيونية منذ
بدايته، ولم يكن هذا ليتم لولا انفراد حركات المقاومة بالحكم في غزة وبناء أجهزتها
وشبكاتها الأمنية وأجنحتها العسكرية وفق العقيدة القتالية الإسلامية.
الخاتمة
تقر أدبيات حماس منذ ميثاقها
الأول (1988م) وحتى لحظة كتابة هذه السطور أن حل القضية الفلسطينية هو مسؤولية لا
ينفرد الفلسطينيون بحملها وإنما تقع أيضا على عاتق الأمة العربية والإسلامية[40]، إلا أن الوسيلة التي اعتمدتها حماس هي أن تحاول حث الأنظمة الحاكمة على
القيام طوعا بالمساهمة في هذه المسؤولية، طبقا لموقفها المبدئي بعدم توسيع نطاق
المواجهة مع العدو الصهيوني خارج الأرض المحتلة، والحفاظ على علاقات ساكنة –في
أدنى الأحوال- مع كافة الأنظمة. وربما كانت هذه السياسة حكيمة ومناسبة فيما قبل
زمن الثورات العربية أو قبل زمن إعلان الحرب العالمية على الإرهاب (2001م) أو حتى
قبل زمن الانفراد الأمريكي بالعالم وعصر القطب الواحد. ففيما قبل هذه المراحل كانت
الدول القومية تتمتع بقدر معقول من السيادة ومساحة الحركة والمناورة والدخول في
أحلاف بين قطبين عالميين، أما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فقد تساقطت تباعا قدرة
الدول القومية العربية على المناورة وتضاءلت مساحة حركتها المستقلة مما افتتح معه
عصرا جديدا من التعاون والتنسيق الأمني[41] جعل العناصر المحسوبة على المقاومة تعتقل وتخضع للتعذيب منذ مطلع
التسعينات في دولة كالإمارات، ثم تتابع المجهودات حتى يعقد مؤتمر لمكافحة الإرهاب
في شرم الشيخ (1996م) والهدف منه استئصال حماس وتثبيت أركان السلطة الفلسطينية
الموالية للاحتلال، ثم تأتي أحداث سبتمبر والحرب العالمية على "الإرهاب"
بعاصفة ضخمة من المطاردة الأمنية وتجفيف المنابع المالية والفكرية والتصفيات
الجسدية لقيادات المقاومة.
كان حريا بهذا المسار أن
يدفع حركة حماس إلى التخلي عن سياستها هذه، مهما كان هذا التخلي حذرا وتدريجيا
وسريا، لتتمسك بفرصة الثورات العربية فتعمل ما في وسعها لدعم الساحتين المصرية
والسورية على وجه التحديد، والمصرية على وجه أخص، وكان يجب ألا يُكتفى بالتعويل
على جهود الإخوان فحسب لا سيما بعد أن أظهروا ضعفا وترددا غريبا في السيطرة على
مقاليد الأمور، ثم كان يجب ألا يُستسلم تجاه وقوع الانقلاب العسكري في مصر
باعتباره شأنا مصريا.
وتعد المطالبة بمراجعة
هذه السياسة هي الخلاصة الأساسية لهذه الورقة، إذ مهما أبدى الغزيون من البسالة
والصمود فإنهم في هذا الضيق الجغرافي وتحت هذه الضغوط لا يملكون مفاتيح تغيير
المشهد الذي يمكن له أن يتغير وينفتح على خيارات أخرى بتحول الأوضاع في القاهرة،
مما يفرض على حركة المقاومة المعنية أن تفكر في هذا حتى لو لم تكن متضررة بشكل
مباشر من سياسات النظام المصري، فكيف إذا كان الضرر الواقع عليها مباشرا وفادحا بل
هو من أهم أولويات ومهمات ووظائف هذا النظام؟!
وبعد هذه الخلاصة
الأساسية يمكن تقديم بعض خلاصتين أخريين:
1. ضرورة توسيع المشاركة
الشعبية في تحمل أعباء الإدارة والاستفادة من قوى الروابط الاجتماعية: العائلية
والجغرافية والتشجيع المستمر للمبادرات الفردية والأفكار المبدعة، فمن شأن هذا كله
أن يخفف من أعباء الإدارة عن كاهل الحركة، وهذا التوجه يتأسس على إدراك أن الحداثة
ونمط الدولة المركزية ليس مناسبا في عالمنا العربي والإسلامي، على الأقل هو غير
مناسب تحت سلطة احتلال أجنبي متفوق وفي وضع مختنق، ومن ثم فينبغي أن تتوجه الجهود
الفكرية والعلمية في الجامعة والمحاضن التعليمية والتربوية نحو نشر وتوثيق النمط
المجتمعي التكافلي الذي يطلق طاقة المجتمع ويخفف الأحمال عن السلطة.
2. ينبغي لحماس ألا تتمسك
بشرعيات مهترئة كما هو الحال في منظمة التحرير أو حتى شرعية السلطة الفلسطينية،
فهذا ثقل إضافي يقيدها ويثقلها، بل ينبغي عليها هدم هذه الشرعيات ما استطاعت، مع
التأسيس لشرعية شعبية أخرى أو لشرعية تنطلق من قيم الكفاح والجهاد، ويمكن أن
تستلهم في هذا السبيل ما فعلته حركة فتح نفسها ضد منظمة التحرير الفلسطينية
وفي الختام نقول: هنيئا لحماس بهذه الأعوام الثلاثين، ونسأل الله تعالى أن تكون الثلاثون عاما القادمة هي أعوام العز والتمكين والنصر الكبير.
[1] من
المفارقات هنا أن كثيرا من الباحثين والمؤرخين الأجانب يجنحون إلى التفسير الديني
بينما أكثر الباحثين والمؤرخين العرب يجنحون إلى التفسير العلماني، وقد عزا المؤرخ
الأمريكي ديفيد فروماكين إنشاء إسرائيل إلى الميول الصهيونية لدى لويد جورج رئيس
الحكومة البريطانية، وذلك في واحدة من أهم الدراسات المكتوبة عن هذه الفترة، وقد
أفرد كثيرون هذه الفكرة بالتأليف مثل جاريس هالسل في كتابيها "النبوءة
والسياسة: الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية"، ثم "يد
الله: لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل". انظر: ديفيد
فروماكين، سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط 1914 - 1922، ترجمة: أسعد
كامل إلياس، ط1 (لندن – قبرص: رياض الريس للنشر، 1992م)، ص295 وما بعدها.
[2] يعتمد
تنظير د. عبد الوهاب المسيري في شأن الحضارة الغربية أنها مادية علمانية، وينعكس
هذا على تفسيره لمسألة إسرائيل بأنها "دولة وظيفية" صنعها الغرب تخلصا
من المشكلة اليهودية داخلها، وإنشابا لمشكلة عويصة للعالم الإسلامي، فهي قاعدة
عسكرية وحضارية متقدمة خارج أوروبا. انظر مثلا: عبد الوهاب المسيري، موسوعة
اليهود واليهودية والصهيونية، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 1999م)، 7/347، 8/39.
[3] يرى د.
جمال حمدان أن الصراع العالمي ومصير الإمبريالية متوقف على مصير العالم الثالث،
وأن مصير العالم الثالث متوقف على مصير العالم العربي، وأن مصير العالم العربي متوقف
على مصير الصراع مع إسرائيل. جمال حمدان، استراتيجية الاستعمار والتحرير، ط1
(القاهرة: دار الشروق، 1983م)، ص351.
[4] مهما
اختلفت أساليب الوصف في الأزمة الإسلامية المعاصرة، فلعل أخصر ما يعبر عنها ما
قاله شادي حميد أحد أبرز الوجوه الغربية في مجال بحث الحركات الإسلامية، الأزمة
القائمة في العالم الإسلامي بقوله: "المشروع الأساسي للحركات الإسلامية
السائدة، إن أمكن تلخيصه في جملة واحدة، هو السعي للتوفيق بين الشريعة الإسلامية
والدولة القومية الحديثة. مهما تعددت الطرق، وفي أغلب الأحيان حصدت “الدولة”
النتائج الأفضل في تلك العلاقة. ذلك أن نمط بناء الدولة الحديثة والبيئة الدولية
المتمركزة عليه والداعمة له، لهما أثر علماني متأصل في المؤسسات الاجتماعية
والسياسية، وهو ما يضغط على الحركات الإسلامية لتحد من طموحاتها الدينية الدافعة إلى
حد لم يكن ليخطر بالبال فيما قبل الدولة الحديثة، مما يقود إلى درجة خطيرة من
التوتر بين المجتمعات المسلمة التي لا تزال إلى حد كبير متدينة ومحافظة"، وهو
ما اختصره ألبرت حوراني في جملة واحدة بقوله: "أوجد العرب في القرن السابع
عالما جديدا اندمجت فيه شعوب أخرى. وفي القرن التاسع عشر والعشرين أصبح العرب
أنفسهم مندمجين في عالم جديد أوجدته أوروبا الغربية".
انظر: ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب
العربية، ترجمة: أسعد صقر، ط1 (دمشق: دار طلاس، 1997م)، ص284؛ Shadi Hamid and Rashid Dar, Islamism, Salafism, and jihadism: A primer, (Brookings, July 15, 2016)
[5] بعد مسح إحصائي في مصادر
السياسة الشرعية، وفي الكتابات المعاصرة عن الفكر السياسي الإسلامي، توصل د. نصر
عارف إلى أن "جميع من كتب عن الفكر السياسي الإسلامي أو التراث السياسي
الإسلامي أو إحدى ظواهره لم يطلع على أكثر من 6% من المصادر المباشرة لهذا
التراث". د. نصر محمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي: دراسة في
إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل، ط1 (فيرجينيا، المعهد العالمي للفكر
الإسلامي، 1994م)، ص39.
[6] ينظر في
هذا: إبراهيم السكران، سلطة الثقافة الغالبة، ط1 (الرياض: دار الحضارة،
2014م)، ص24 وما بعدها.
[7] كانت
الفكرة السائدة في ذلك الوقت، وكان في عهد جورج بوش الابن، أن انتخابات ديمقراطية
في فلسطين من شأنها أن تُمَكِّن حركة فتح وتمنح الشرعية الكاملة لمحمود عباس، الذي
خلف عرفات ولم تكن له مثل زعامته ولا تاريخه التي مثلت شرعية عرفات، كما أنه أكثر
استعدادا للتنازل، مما يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية بيد حكومة شرعية منتخبة.
هذا الضغط هو ما دفع حماس لخوض الانتخابات رغبة أن تكون معارضة قوية يمكن لها
عرقلة هذا المسار، ثم فوجئ الجميع بأنها اكتسحت الانتخابات وفازت بفارق كبير.
[8] يلاحظ
اختفاء الرؤية السياسية من ميثاق حماس (1988م)، والتعامل مع الأوضاع من منظور حركة
تحرر ومقاومة لا من منظور حزب سياسي معارض، وهو أمر متفهم.
[9] كوندليزا
رايس، أسمى مراتب الشرف: ذكريات من سني حياتي في واشنطن، ترجمة: وليد
شحادة، (بيروت: دار الكتاب العربي، مايو 2012م)، ص476، 477.
[10] ميثاق
حماس (1988)، الديباجة والمواد: 2، 5، 7، 8. وإن كانت في الوثيقة الأخيرة (2017)
لم تذكر شيئا عن الإخوان لا ارتباطا ولا انفكاكا، وهو تطور طبيعي في ظل التغيرات
التي شهدتها الأعوام الأخيرة. وانظر: يوسف رزقة، الرؤية السياسية لحماس،
ضمن: محسن صالح (محرر)، حركة المقاومة الإسلامية حماس: دراسات في الفكر والتجربة،
ط2 (بيروت: مركز الزيتونة، 2015م).
[11] لكثير من
الأسباب التي ليس هنا محل بيانها كان مجمل إنتاج هذه المدرسة ورموزها كالقرضاوي
والغزالي وتوفيق الشاوي وضياء الدين الريس وغيرهم ينحو إلى تعديل التفاصيل كالقوانين
والمهمات دون التطرق إلى باب الفلسفة والنظرية والبدائل الكلية، بل وخرج من هذه
المدرسة اتجاهات تقترب كثيرا من العلمنة والحداثة الغربية وأحيانا إلى حد المطابقة
أو التبرير الشرعي للحداثة كما عند الترابي والغنوشي والعلواني والعثماني والعوا وجاسر
عودة غيرهم.
[12] سعت حماس
بعد فوزها في الانتخابات (2006م) لتشكيل حكومة ائتلافية من الفصائل، إلا أن
الفصائل امتنعت، فاضطرت لتشكيل الحكومة منفردة برئاسة إسماعيل هنية (19 مارس
2006م)، ثم اشتعل صراع الصلاحيات بين وزراء حماس ونوابها من جهة وبين رئيس السلطة
وموظفيها (الفتحاويين) من جهة، وفرضت إسرائيل ومصر حصارا على غزة، واعتقلت إسرائيل
نواب حماس لتعيد أغلبية المجلس التشريعي لحركة فتح، واستغلت فتح هذا بتمرير قوانين
وإجراءات تفشل حماس وتجعل فوزها الانتخابي بلا قيمة، بالإضافة إلى تنظيم
الاعتصامات والإضرابات ضد الحكومة، وابتدأ الانفلات الأمني الذي وصل إلى اغتيالات
ومحاولات اغتيال استهدفت رئيس الحكومة والوزراء والقيادات، ولم تفلح اجتماعات
ثنائية ولا اجتماعات في القاهرة ودمشق، ثم انبثق اتفاق مكة عن تشكيل حكومة وحدة وطنية
(فبراير 2007م) لم تتمكن من تغيير الأوضاع، ومع استمرار الانفلات الأمني حتى اضطر
الجهاز العسكري لحماس من تنفيذ عملية الحسم في غزة، وهي التي قابلتها فتح في الضفة
المحتلة بسلوك مشابه، وأعلن عباس إقالة هنية وتعيين سلام فياض رئيسا للحكومة، فصار
الانقسام واقعا بين الضفة وغزة، وتعددت محاولات المصالحة في 2009 ثم 2012 ثم 2017
دون أن يغير هذا من الواقع العملي شيئا ذا بال. انظر عرضا مميزا لفصول هذه
التطورات عند: أحمد سعيد نوفل ومحسن صالح، موقف حماس من منظمة التحرير
الفلسطينية وفصائلها، ضمن: محسن صالح (محرر)، حركة المقاومة الإسلامية حماس،
مرجع سابق، ص144 وما بعدها.
[13] تصريح
للمتحدث باسم حماس صلاح البردويل، بتاريخ 26 مارس 2006.
[14] حرصت حماس
إبان الأزمات مع سلطة فتح، قبل الحسم العسكري في غزة، على وصف الاعتداءات عليها
بأنها من فعل مجموعات "مسلحة محسوبة على حركة فتح" أو "مأجورة تحسب
نفسها على حركة فتح" أو مجموعات متشكلة "خارج حركة فتح وخارج الأجهزة
الأمنية"، وأن خلفها "بعض القيادات المتورطة في العلاقات المشبوهة مع
جهات صهيونية ودولية" من "أصحاب المصالح والأجندات الخاصة"، وأن
هؤلاء يتسببون "بالضرر البالغ لحركة فتح وسمعتها". وأطلقت عليهم أحيانا
"التيار الانقلابي" أو "التيار الخياني" أو "تيار الفتنة".
وتكرر في الخطاب السياسي لحماس توجيه النداء إلى "عقلاء حركة فتح".
انظر مثلا: بيان حماس بتاريخ 13 ديسمبر
2006م؛ بيان حماس بتاريخ 16 مايو 2007؛ نص المؤتمر الصحفي لحركة حماس في غزة
بتاريخ 22 يونيو 2007م (بعد الحسم العسكري لشرح الموقف).
[15] انظر
مثلا: نص استقالة وزير الداخلية هاني القواسمي من حكومة إسماعيل هنية، بتاريخ 17
إبريل 2007؛ نص المؤتمر الصحفي لحركة حماس في غزة بتاريخ 22 يونيو 2007م.
[16] منذ
البداية الأولى اتخذت حماس موقفها الرافض لمنظمة التحرير الفلسطينية لتبنيها
الفكرة العلمانية ومع هذا فقد وصفت العلاقة مع المنظمة بأنها علاقة الابن بأبيه
والأخ بأخيه وأنها تنتظر منها أن تنبذ العلمانية لتعتنق الفكرة الإسلامية (ميثاق
1988: مادة 27)، ثم وصلت إلى وثيقة المبادئ العامة الأخيرة إلى وصف المنظمة بأنها "إطار
وطني يجب المحافظة عليه مع ضرورة العمل على تطويرها وإعادة بنائها على أسس
ديمقراطية (وثيقة 2017: مادة 29). وبطبيعة الحال لم يكن هذا الانتقال فجائيا بل
شهد عددا من مراحل الاقتراب الحمساوي من المنظمة، لكن الذي نقصده هنا أن فكرة
مواجهة المنظمة أو هدم شرعيتها وإنشاء بديل عنها لم يكن ضمن خطة حماس منذ وصلت إلى
الحكومة، بل ربما نقول منذ تأسيسها إلا في لحظة استثنائية عند مطلع التسعينات في
ظرف أوسلو.
انظر: إبراهيم أبو غوشة، المئذنة
الحمراء: سيرة ذاتية، ط2 (بيروت: مركز الزيتونة، 2015)، ص165 وما بعدها؛ البرنامج
الانتخابي لكتلة التغيير والإصلاح 2006: بند 1/12، 5/18، 19؛ صقر أبو فخر، حماس
وفتح ومنظمة التحرير: شقاء الأخوة، ضمن: محسن صالح (محرر)، قراءات نقدية في
تجربة حماس وحكومتها 2006 – 2007، ط1 (بيروت: مركز الزيتونة، 2007م)، ص69 وما
بعدها؛ أحمد سعيد نوفل ومحسن صالح، موقف حماس من منظمة التحرير الفلسطينية
وفصائلها، ضمن: محسن صالح (محرر)، حركة المقاومة الإسلامية حماس، مرجع
سابق، ص131 وما بعدها.
[17] أحصت حماس
بالأسماء والوقائع 76 شهيدا من أعضائها والمحسوبين عليها بنيران الأجهزة الأمنية
الفتحاوية فيما بين مطلع 2006 وإلى منتصف 2007. وأحصت 462 اعتداءا في خلال الأشهر
الأربعة التي تلت توقيع اتفاق مكة.
انظر: المكتب الإعلامي حركة المقاومة
الإسلامية "حماس"، الكتاب الأبيض: عملية الحسم في قطاع غزة اضطرار لا
اختيار، ط1 (غزة: نسخة إلكترونية، نوفمبر 2007م)، ص179 وما بعدها.
[18] لقاء
محمود عباس مع قناة CBC
المصرية بتاريخ 2 أكتوبر 2017، وفيه قال: لن يكون في غزة سلاح غير شرعي ولن يقبل
باستنساخ تجربة حزب الله؛ تصريحات مدير عام الشرطة الفلسطينية حازم عطا الله
لصحافيين أجانب برام الله بتاريخ 8 نوفمبر 2017، وفيه كرر كلام عباس؛ المؤتمر
الصحفي لعضو المكتب السياسي لحماس خليل الحية، غزة بتاريخ 27 نوفمبر 2017 وفيه
التأكيد على أن سلاح المقاومة خط أحمر وأن ما حدث في الأيام السابقة لا يبشر بخير.
[19] يحسب
لحماس هنا، ويمكن أن يعد في الجانب الثوري من سياستها، إنشاء لجان الصلح المحلية
بعد سيطرتها على قطاع غزة لحل النزاعات التي تقضي وقتا طويلا وتستلزم إجراءات
معقدة قانونية، وقد خففت هذه اللجان من الأعباء الواقعة على عاتق الشرطة والقضاء. انظر
عن التجربة: أسماء صرصور، تقاض يسبقه تراض:
لجان الإصلاح تعمل وفق شريعة الله لرأب الصدع، فلسطين أون لاين
بتاريخ 12 سبتمبر 2011م.
[20] البرنامج الانتخابي
لكتلة التغيير والإصلاح 2006: 5/ 15، 24، 7/16، 8/5، 7، 10/ 4، 9، 10، 13، 12/3؛ وثيقة
المبادئ والسياسات العامة 2017: بند 30.
[21] انظر
مثالا عن تعامل حماس مع إشكالية مصطلحي الديمقراطية والشورى عند: يوسف رزقة، مرجع
سابق، ص79 وما بعدها.
[22] مما لا
أنساه هنا أن خالد مشعل في مؤتمر صحفي عقده بالدوحة أثناء أو بُعيْد حرب 2014 وقد
حاصرته أسئلة الصحافيين تريد انتزاع تعليق منه ضد مصر السعودية والإمارات وقد كانت
مواقفهم في هذه الحرب غير مسبوقة العدائية تجاه حماس، فالتزم ألا يعلق واستشهد
بقول المتنبي:
وهَبْني قلتُ هذا
الصبح ليلٌ .. أيغشى العالمين عن الضياء؟
[23] للمزيد في
علاقة حماس بالدول العربية، انظر: عدنان أبو عامر، علاقات حركة حماس مع العالم
العربي، ضمن: محسن صالح، حركة المقاومة الإسلامية حماس، مرجع سابق،
ص287 وما بعدها؛ .
[24] يبدو
الفارق واضحا كلما اتسع الزمن، في ميثاق حماس (1988م) عرَّفَتْ الحركة نفسها
بالهوية والانتماء الإسلامي في 11 مادة ثم تناولت مسألة الوطن والوطنية في المادة
12 بصياغة إسلامية واضحة، أما في وثيقة (2017م) فقد كانت المادة الأولى هي تعريف
الحركة لنفسها بالقول "حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية". ويمكن
القول باختصار بأن لغة الهوية الإسلامية غالبة على ميثاق (1988م) بينما لغة الهوية
الوطنية غالبة على وثيقة (2017م). ونلمح التدرج المائل إلى تغليب الوطنية في محطات
مختلفة، كالبرنامج الانتخابي لكتلة التغيير والإصلاح (2006).
[28] ونؤكد في
هذا المقام على كلمة "العلني"، إذ الموقف المعلن إن كان نابعا من اختيار
حر فهو موقف من سائر الأطراف المعنية بهذا الإعلان، وإن كان ناتجا عن اضطرار فهو
يعني تقديم من كان الإعلان عن الموقف في مصلحته على غير من المعنيين. وفي كلا
الحالين فإن الحركة تمتدح من يثير امتداحُهم سخط أهلَ السنة وخصوصا في سوريا.
[29] فيديو: تصريح محمود
السنوار، بث على قناة الميادين المقربة من النظام السوري
بتاريخ 26 ديسمبر 2017م.
[30] مع أن هذا
التفسير ليس مضطردا وثابتا، فقد قدمت حماس العزاء فيمن ليس لهم خدمة معروفة
لفلسطين مثل جلال طالباني ووالدة قاسم سليماني والطيار الأدرني معاذ الكساسبة
ووزير الصحة التونسي سليم شاكر وغيرهم، فالأصح أن هذه التعازي هي من مقتضيات
المجاملات السياسية، وهو ما يدعم ما نقوله من أن الهوية الوطنية تضخمت على حساب
الهوية الإسلامية.
[31] انظر: إصدار وزارة
الداخلية بحكومة غزة للكشف عن تفاصيل محاولتي اغتيال توفيق
نعيم ورامي الحمد لله، بتاريخ 28 إبريل 2018م؛ أحمد سالم، جهاديو غزة وتقويض
العلاقات المصرية الحمساوية، مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط، بتاريخ
22 سبتمبر 2017.
[32] انظر:
إصدار "ملة إبراهيم" الصادر عن ولاية سيناء، بتاريخ 4 يناير 2018م، وفيه
ينفذ عنصر سابق من حماس حكم "القتل ردة" على من سيناوي اتُّهِمَ من قبل
التنظيم بمساعدة حماس.
[34] تنص
المادة الأولى من هذه الوثيقة على "إقامة دولته المستقلة وعاصمتها مدينة
القدس الشريف على جميع الأراضي المحتلة عام 1967".
[35] جاء في
مؤتمر حماس الصحفي بعيد الحسم العسكري (22 يونيو 2007م)، وفي غيره من التصريحات،
أن لديهم معلومات موثقة حول عزم أجهزة السلطة الدخول في مواجهة عسكرية لتصفية حماس
عقيب انتهاء امتحانات الثانوية العامة. على أنه ولو لم ترد هذه المعلومات فإن
طبائع الأمور في مثل هذه المواقف لا يمكن أن تستمر إلا بمواجهة من هذا النوع.
[36] انظر في
سياسة السلطة في الضفة: المكتب الإعلامي حركة المقاومة الإسلامية
"حماس"، الكتاب الأسود: كشف للحقائق ورصد بالوثائق لممارسات سلطة
"دايتون" وانتهاكات أجهزتها الأمنية في الضفة الغربية من 14/6/2007 إلى
15/6/2008، ط1 (غزة، نسخة إلكترونية، 2008م)؛ محسن صالح (محرر)، صراع
الإرادات: السلوك الأمني لفتح وحماس والأطراف المعنية 2006 – 2007، ط1 (بيروت:
مركز الزيتونة، 2008)؛ إسراء لافي، سياسات محاربة
المقاومة: حماس الضفة نموذجا، المعهد المصري للدراسات، بتاريخ 16 مارس
2018م.
[37] انظر
قائمة مواقف حماس من الثورة السورية بين مارس 2011 ويونيو 2014 في: رصد لمركز الشرق
العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية ونستطيع القول
بشيء من التجوز بأنه بعد هذا التاريخ بدأت مرحلة التراجع في موقف حماس تجاه ما
يحدث في سوريا.
[38] أريد هنا
أن أدفع ما قد يُتَوهَّم من التناقض بين اعتباري حفاظ حماس على علاقتها بإيران
سلوكا ثوريا تحمد عليه، وبين نقدي عليها النعي العلني لسمير القنطار أو الثناء
العلني على قاسم سليماني، ذلك أن العلاقة
بكل حليف أمر في منتهى الضرورة لحركة تحرر، وتزيد الضرورة في حال كونها مستضعفة ومنبوذة
من نظام إقليمي يفترض أن يمثل حاضنتها الطبيعية، وما من حركة في تاريخنا الحديث
والمعاصر إلا وتحالفت مع أعداء أعدائها اضطرارا أو اختيارا، وأما الموقف من شخصيات
بعينها في أزمان ومواقف بعينها فهنا يحتاج الأمر إلى موازنة أخرى، فمقتل سمير
القنطار في سوريا وهو إلى جانب نظام بشار الأسد الذي يخوض في المذابح اليومية ضد
الشعب السوري أو مدح قاسم سليماني المشرف الأعلى على هذه المذابح وفي زمن المذابح
نفسها، كل هذا يخصم من الحاضنة السنية ومن رصيد الحركة الإسلامية.
[39] انظر مثلا:
هيكل.. الفلسطينيون
وآفاق التسوية مع إسرائيل، برنامج مع هيكل، قناة الجزيرة، بتاريخ 2
يوليو 2007م.
[41] وهذا لو سلَّمنا بالأساس بأن هذه الأنظمة تفعل هذا من وضع الضعف لا أنها تملك
الرغبة ولديها العقيدة السياسية المضادة لحماس ومشروعها. وهو موضع شك ونظر كبير!