مذكرات الشيخ رفاعي طه (4)
أول تحقيق في أمن الدولة حين كنت بالصف الأول
الثانوي
عندما فهمت معنى الحديث النبوي من ضابط أمن الدولة
لقراءة الحلقات السابقة:
الحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية
مغمورة بالصعيد المجهول
الحلقة الثانية: أول الطريق إلى
المسجد، وأول الطريق إلى السياسة
الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير فيإقامة دولة إسلامية
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
كان مقياس الدولة الإسلامية عندي منحصرا في ثياب
النساء وفي الرشوة وفي المحسوبية، ففي تلك الفترة كانت هذه الثلاثة شائعات جدا،
فلا يمكن أن تقضي حاجة لك دون أن تدفع رشوة، أو يكن لك واسطة. كان تقديري حينذاك
أن الدولة الإسلامية ستقضي على هذه الأمور، وقد كنت حينئذ قد حفظت خمسة عشرة جزءا
من القرآن من التزامي بالكُتَّاب، وكنت أقرأ كذلك في كتب الحديث، وأتذكر قراءتي في
صحيح مسلم.
يرجع الفضل في قراءتي كتب الحديث المختصرة إلى
الأستاذ عيد الرافعي، كان مدرسا أول للغة العربية، وكان حافظا لكتاب الله، ولاحظ
أنني شاب متدين فكأنه كان يتبناني، وكان لي زميل في المدرسة الثانوية اسمه علي،
فكنا أنا وهو نجلس كثيرا إلى الأستاذ عيد الرافعي، وكان يطلب مني تحضير حديث
الصباح في الإذاعة المدرسية، ولم تكن حينها إلا ثلاث فقرات: حديث شريف، كلمة قصيرة،
نشرة أخبار.
في كل يوم سبت أجهز برنامج الإذاعة، أختار
الطالب الذي سيلقي نشرة الأخبار، وأختار الحديث، وأعد الكلمة. كان لدى الأستاذ عيد
نسخة من صحيح مسلم، وكان يعطيني منها بعض الأحاديث لأحفظها، أو يحفظني إياها
أحيانا، وربما طلب إلي أن أختار حديثا ثم أقرؤه عليه كي يصحح لي فلا أخطئ فيه، ومن
هنا صارت لدي ثروة أحاديث في مرحلة يمكن فيها أن أتفكر وأتدبر ويتشكل عندي من
حصيلتها رؤية وأفكار.
ذات يوم وقعت عيني على الحكمة القائلة:
"سُئل فرعون: من فرعنك؟ قال: حين لم أجد من يردني ويصدني"، فأعجبتني
للغاية فوضعتها من فوري على مجلة حائط المدرسة. وفي اليوم التالي اخترت لحديث
الصباح حديثا لم أكن أفهم إلا نصفه فقط، ولم يكن الأستاذ عيد يعلم أني سأقوله، وهو
قوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: رجال بأيديهم
سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة
البخث المائلة.. الحديث". كنت أفهم نصف الذي ينهى عن التبرج لكن لم افهم نصفه
الأول، وقد كان غرضي من إلقائه هو مسألة التبرج، حيث كانت كل نساء المدرسة
متبرجات.
غير أن كلامي أصاب منهن واحدة بعينها دون أن
أقصد.. تلك هي: الأستاذة إكرام.
كانت إكرام مدرسة الدراسات الاجتماعية لصفنا
"الأول الثانوي"! وكانت مغرقة في التبرج، والأهم من ذلك أنها كانت زوجة
ضابط مباحث قسم الشرطة في المركز، فإذا بها تُنْزل كلامي على نفسها، وتحسب أنها
المقصودة به.
ومن عجائب اليوم أن حصتها علينا كانت في نفس
اليوم وشهدت اشتباكا بيننا لم أقصده ولم يخطر ببالي أيضا، لقد قالت في أثناء الشرح
بأن اللغة العربية هي المسؤولة عن نشر الإسلام في الوطن العربي، فلفت نظري ما
تقول، ولم أكن قرأت شيئا في الموضوع من قبل، لكن وجدتني أرد عليها قائلا:
-
أعتقد يا أستاذة أن الإسلام هو سبب نشر اللغة العربية
وليس العكس فالعرب أنفسهم لم يكونوا معروفين قبل الإسلام.
-
من قال لك هذا الكلام؟
-
لم يقله لي أحد، ولكن هذا ما أفهمه.
ظلت تجادلني وأجادلها في الموضوع، فتأكد لديها
أنني أتقصدها وأشاكسها، ومن ثم ترسخ عندها أني أقصدها بالحديث الذي ألقيته عن
التبرج صباح اليوم. ثم لا أدري إن كانت هي أم غيرها من ربط هذا بالحكمة التي
كتبتها في مجلة الحائط عن الفرعون الذي لم يجد من يرده ولا من يقومه. في اليوم
التالي وجدتني مطلوبا لأمن الدولة!!
حضر إلى المدرسة المخبر سيد وقال لي
"عايزينك في كوم امبو"، حيث مقر أمن الدولة إذ لم يكن لهم مقر في مركز
ادفو، فتفجر في صدري خوف شديد، لماذا أنا؟ ماذا فعلت؟ وما الذي حصل؟.. ثم إني
ذهبت.. ذهبت وحدي، فقد كان أبي -رحمه الل رحمة واسعة- يتخوف من تلك الأشياء.
تركوني أربع ساعات منتظرا، وتلك فترة طويلة،
طويلة على المنْتَظِر، وهي أطول منها على المنتظر الخائف المترقب، وهي أطول وأطول
إن كان هذا غلام يافع صغير لم يخبر من الدنيا مخوفاتها! ثم أدخلوني إلى التحقيق:
-
من قال لك حديث فرعون الذي كان على مجلة الحائط؟
وماذا تقصد به؟
-
لا أتذكر أين قرأته ولكنه أعجبني.
-
وماذا تقصد به؟
-
لم أقصد به شيئا معينا، فقط أعجبتني الفكرة: الحاكم
اذا لم يعترض عليه أحدا يكون فرعونا.
-
كيف تعرف أنت هذه الأمور؟ من قال لك هذا الكلام؟
-
لا تحتاج إلى من يعرفني، أي حاكم إذا لم نعترض عليه
يكون مثل فرعون! (كنت خائفا، لكني كنت أتماسك وأكابر).
-
وحديث النساء العاريات؟!
-
هذا حديث عن البنات التي تمشي متبرجة في الشارع،
وسبحان الله، لقد وصف النبي حالهن تماما كأنه معنا الآن!
-
هل قصدت به أستاذة إكرام زوجة ضابط المباحث؟!
أنت لا تحترم أستاذتك، ولا تحترم الرجل الذي يجتهد لحماية البلد.. ضباط المباحث يقاومون
الجريم،ة ويحمون البلد من السرقة.
-
لم أقصد هذا المعنى أبدا.. لكن الحقيقة أنك الآن
شرحت لي النصف الذي لم أفهمه من الحديث، سبحان الله! حقا ضباط المباحث هم كما وصف
النبي بيدهم سياط كأذناب البقر ويضربون بها الناس!!
شعر الضابط من التحقيق أنني أتكلم من تلقاء
نفسي، وأنه ليس ثمة أحد يؤثر علي أو يوجهني، وأنني غير مندرج في أي نشاط جماعي أو
ما شابه.. كنت أتحدث معه ببراءة الغلام الذي يتعرف على الحياة ويستقبلها بفطرته
السليمة، ويتفهم ما فيها من المعاني والأحداث بنفسه رويدا رويدا. عندما أيقن من
هذا قال لي: أنت طيب يا رفاعي، وهذا رقم هاتفي، وإذا أردت أي شيء اتصل بي.
رجعت إلى البيت، ولم أهتم بما قال، لكن المهم أن
الخوف المهيمن على أجواء الأسرة انقشع حين وصلتُ، وبدأ يتسرب إليها من جديد الشعور
بالأمان.
صباح اليوم التالي في المدرسة أقبل على الناظر
فسألني: ماذا فعلوا معك بالأمس؟ فقصصت عليه ما كان، فقال لي: يا بني أنت متفوق، وأنت
ابننا، ونحن نحبك، لا تدخل نفسك في مثل هذه الأمور. فقلت له: لم يحدث شيء، فقط سألوني
من أين جئت بهذا الحديث وأجبته وأنتهى الأمر. ولقد كان اللافت للنظر أن الأستاذ عيد
الرافعي لم يمنعني من الحديث في الإذاعة.
في المدرسة الثانوية شكلت مجموعة من الطلاب، كنا
أحد عشر طالبا وكنت زعيمهم رغم أني في الصف الأول الثانوي وبينهم من هو في الصف
الثاني والثالث الثانوي، فكنت أجمعهم في وقت الراحة بين الحصص الدراسية ونجلس في
المسجد لنقرأ ما نجده مفيدا من كتب في مكتبة المدرسة: رياض الصالحين، وأتذكر كتابا
أعجبني للغاية وقتها هو "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، فكنت أقرأ
منه على المجموعة. لكن الغرض الخفي الذي جَمَعَنا واتفقنا عليه هو أننا سندخل
الكلية العسكرية لنكون ضباطا في الجيش، وننفذ انقلابا عسكريا نقيم به الدولة
الإسلامية المنشودة.
لم يعرف أحد نيتنا
هذه، لكن الأستاذ عيد الرافعي خشي
علينا من مجرد الاجتماع والقراءة في كتب دينية، فأرسل إلي ابنه علي أن لأذهب إليه
ببيته، وقال لي بأني أعرض نفسي للمشكلات بمثل هذه الطريقة، واقترح إنقاذا للموقف
أن يتقدم هو بصفته مدرس اللغة العربية للمدرسة لتحويل تلك المجموعة إلى "أسرة
مدرسية" يكون هو مقررها، واقترح أن نسميها "مجموعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"
فهكذا يُسبغ على المجموعة صفة شرعية رسمية وتكون مندرجة ضمن نظام الأسر المدرسية
بإشراف مدرس وبإذن الناظر، ورحبت لا شك بالفكرة والاقتراح التي لم تخطر لي على
بال، ولم أطلعه على غرضنا منها بدخول الكلية الحربية.. وهكذا صار لنا غرض معلن وهو
"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المدرسة".
نشر في مجلة كلمة حق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق