ذكرنا في مقال سابق موجزا للعلاقة بين المسلمين والصين، ثم ذكرنا في المقال
السابق المنافذ والمصادر التي تعرف المسلمون منها على الصين
وأحوالها وعجائب أهلها، وفي هذا المقال نرى كيف ظهرت صورة الصين لدى المسلمين كما
روتها مؤلفات التاريخ والآداب والرحلات والبحث العلمي.
قدمت رحلة
سليمان التاجر، في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، صورة ممتازة عن الصين في
ذلك الوقت المبكر. ورغم كونها مختصرة إلا أنها مكثفة واستوعبت الكثير من صورة
الصين: في السياسة والاقتصاد والأخلاق والتقاليد والملابس والطعام والشراب، وهي
أول أثر معروف يقدم تلك الصورة المتكاملة. بينما ظلت صورة الصين تتناثر وتجتمع في
كتب العلوم المختلفة: المتخصصة والموسوعية.
وأبرز ما
يلفت النظر في تلك البذور المبكرة المتينة لصورة "الدولة الحديثة" التي
تُحْصِي البشر وأموالهم وتقوم على الحفاظ عليها وتراقب الطرق والبضائع وتشرف على
التعليم وتستعمل التصوير، وهو ما يجعل فكرة الدولة الحديثة القائمة الآن لا تزيد
عن أن تكون تطورا في التقنيات والأدوات فحسب. وهو أمر لا ريب سيُدْهِش من لم يكن
يعرفه.
وسعيا لجمع
أجزاء الصورة بما يسمح به المقام فقد اخترنا منها عشرة عناصر فحسب، نستعرض في هذا
المقال ثلاثة منها:
احتفى التراث
الإسلامي بما لملوك الصين من قوة السياسية وما تحفل به بلادهم من العدل، ووصف أهل
الصين بأن "الخصب والعدل لهم شامل، والجور في بلادهم معدوم"[1]، والعقوبة
تشمل الجميع فلا ينجو منها أمير ولا صاحب سلطان، بل "ربما جار الملك الذي من
تحت يد الملك الأكبر فيذبحونه ويأكلونه"[2].
ويلفت النظر
وصف المؤرخين المسلمين لملك الصين "كو خان" الذي تسبب بالهزيمة الكبرى
للجيوش الإسلامية (531هـ) بالعدل والحكمة والسياسة وكراهية الخمر، إلا أنه لا ينهى
عن الزنا ولا يُقبحه[3].
وحيث ذُكِرَ
ملوك الصين في الكتب الإسلامية يتوقع المرء مباشرة فصلا من الحكمة والسياسة،
والمحاورات التي سجلها التراث الإسلامي لملوك الصين تنضح بتلك الصورة، كمحاورة ملك
الصين مع الإسكندر المقدوني[4]، والحيلة
التي نجت بها مملكة الصين من اجتياح شمَّر بجيوش اليمن[5]، وأسباب
امتناع ملك الصين عن إمداد يزدجرد بالجيوش[6]، والمحاورة مع
سفراء قتيبة بن مسلم[7]، والمحاورة
مع ابن وهب القرشي[8]، ومحاولة
تهدئة سنجر والتوسط عنده لدى الترك[9]، وغيرها.
ويرجع نظام
الصين إلى الملك المؤسس، المعروف في الرواية العربية باسم "توتال"، فهو
الذي قرر أن "الملك لا يثبت إلا بالعدل، فإن العدل ميزان الرب"، وأنه أول
من قرر أهمية اجتماع الناس على دين وشريعة فإنه أحكم للنظام وأعدل للمحكومين وألزم
للحاكم "لجمع الشمل وتساوي النظام، فإنه متى عدم الملك الشريعة لم يؤمن هليه
الخلل ودخول الفساد والزلل"[10]، فكانت
قوانينه ومبادئ شريعته هي بداية انتظام أمر أهل الصين وهي سر استمرارها.
ومن طريف
وسائل إقاة العدل في الصين أن العامة يستطيعون إيصال شكاواهم إلى الملوك عبر ما
يشبه الآن شبكة الاتصالات أو شبكة إنذار، حيث تمتد شبكة من الحبال في سائر المدينة
تنتهي بجرس في قاعة الحكم، فما على صاحب الشكوى إلا أن يحرك الحبل فيدق الجرس عند
رأس الملك في قصره فيؤذن له بالدخول وعرض شكايته[11].
وقرر قانون
الصين ألا يتولى الملك إلا من بلغ الأربعين ليكون ممن حنكته التجارب، فإن تولى
الملك صغيرا كان في مجلسه من يقف وراءه فيصحح له ما يغلط فيه من الحُكم، ولا ينبغي
أن يجلس الملك للفصل في المظالم إلا وقد أكل وشرب لئلا يغلط. ومن دلائل العدل وحسن
السياسة أنه إن وقع الغلاء بالصين أخرج الملك الغذاء من خزائنه وباعه بأرخص
الأسعار فيكثر المعروض وينتهي الغلاء[12].
واستمر
المسلمون الذين عاشوا في الصين في وضع مكرم محترم منذ البداية حتى ما قبل عهد أسرة
منج، بل تشير بعض الروايات إلى ما لهم من امتيازات حتى على أهل الصين، إذ يورد ابن
فضل الله العمري رواية عن شيخه الشريف السمرقندي أنه رأى بالصين احترام المسلمين،
"متى قَتَل أحدُ من الكفار مسلما، قُتِل الكافر القاتل، هو وأهل بيته، وتُنْهَب
أموالهم، وإن قَتَلَ مسلم كافرا، لا يُقتل وإنما يطلب بالدية، ودية الكافر عندهم حمار،
لا يطلب غير ذلك"، ولا ريب أن هذا من الظلم، إلا أن تلك الفترة كانت ذروة
التميز الإسلامي في الصين لأن منهم عدد من أهم رجال الدولة ذوي المناصب الرفيعة في
عهد قوبيلاي خان، وهو من سلالة المغول[13].
تسفر صورة
الصين عن نظام إداري متقن وترتيبات محكمة، فالصينيون "لهم سياسة عظيمة وأحكام
متقنة"[14]،
"فأمورهم منتظمة وأحوالهم مستقيمة"[15]. ويبدأ
النظام في شمول الصيني منذ لحظة مولده إلى وفاته، فيُسَجَّل لدى السلطة إحصاء
المواليد، والوفيات، وتؤخذ من الشعب ضريبة على الرؤوس ما بين سن الثمانية عشرة
والثمانين[16]، وتجري
الأمور وفق أنظمة مستقرة وموثقة؛ فصاحب المظلمة إن رفعها إلى الملك فإنه يمر على
كاتب يكتبها ثم يوقع باسمه، فالملك لا يعبأ إلا بالمكتوب، فإن عُثِر على خطأ
بالمكتوب عوقب الكاتب[17]. وفي الصين
ما يشبه الساعة العظيمة، إلا أنها أبواق، يُنفخ فيها خمس مرات في اليوم فيُعلم بها
المواقيت والساعات[18].
والصيني إن
شاء السفر حمل معه كتابين من الملك ومن الخصي، فكتاب الملك فيه اسمه وعمره وقبيلته
ورفقته (ما يشبه الآن بطاقة الهوية) وكتاب الخصي فيه ما يحمله من الأموال والمتاع
(يشبه الآن بطاقة البنك)، وتنتشر في الطرق نقاط شرطة تسجل بيانات من ورد عليها
وتاريخ ورودهم وما معهم من الأملاك، فبهذا يُضمَن لكل واحد حقه، فإن فقد شيئا مما
معه عُلِم أين فُقِد ومتى ومن الجهة المسؤولة عن رده، فرُدَّ ما فقد عليه أو على
ورثته من بعده[19]، فإن حل
الليل فإن الفنادق محروسة بقوات مسلحة فيحصي قائدها أسماء من فيها وممتلكات كل
منهم قبل أن يغلقها، ثم يرسل معهم حال المسير من يحرسهم حتى يأتيه بكتاب من عند
القائد المشرف على المرحلة اللاحقة بتسلمهم وأماناتهم[20].
ويستعين جهاز
الأمن بالرسامين في رسم صور الغرباء بحيث إذا فعل غريب شيئا يستوجب المعاقبة وهرب
بُعث إلى الأنحاء بصورته حتى يُقبض عليه[21]. فما أشبه
هذا ببطاقة الهوية ذات الصورة الشخصية.
والتاجر
المسلم حين ينزل بالصين إما أن يدخل في ضمان تاجر مسلم مُعيَّن من قبل السلطة لتلك
المهمة، فيتسلم من التاجر القادم أمواله وأمتعته وينفق عليه منها بالمعروف، فإن
ضاع منها شيء فيضمنها التاجر الكافل. وإما أن ينزل بفندق فتكون مسؤوليته على صاحب
الفندق الذي يتسلم منه أمواله وأمتعته ويحسن الإنفاق عليه ويعينه على ما يريد من
الإتجار أو التسري أو الزواج[22].
وتتسلم
السلطات من البحارة أسماء المسافرين القادمين مع السفن والراحلين إليها، ويوضع هذا
في سجلات تُحفظ، فإن عادت سفينة بعد السفر صعد إليها رجال السلطة وقارنوا قائمة
المسافرين بقائمة العائدين، فإن فُقِد أحد كان على صاحب المركب تقديم الدليل على
أنه مات أو فر أو ما سوى ذلك، وإلا كان هو المتهم فيه. وعليه أن يقدم إحصاء بما في
السفينة من البضائع، ثم يُنزل ما فيها تحت إشراف الشرطة فإن عُثِر على أنه كتم
شيئا منها صودرت أمواله[23].
ويخضع الصناع التابعون للسلطة إلى رقابة إضافية، وعددهم
ألف وستمائة –في زمن ابن بطوطة- يعملون فيما يخص حاجة السلطة من الثياب وآلات
الحرب، ولا يسمح لأحدهم بمغادرة العمل قبل عشر سنوات، ويُعرضون يوميا على الخان
لإثبات عددهم، فإن مرت السنوات العشر خُير الصانع بين أن يواصل العمل أو يعمل حيث
يشاء لكن لا يخرج من الصين[24]. وأغلب الظن
أن هذا لئلا ينقل أسرار السلطة أو أسرار عملها فهو من نوع الموضوع الأمني.
في المقال القادم إن شاء الله نستعرض صورة الصين في
الأخلاق والثقافة والتعليم والصناعات.
نشر في مدونات الجزيرة
[20] سليمان
التاجر، ص51، 52؛ ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، (الرباط: أكاديمية المملكة
المغربية، 1997م)، 4/134.