ترى
لماذا استطاع العرب أن يجتمعوا اليوم عند البحر الميت، وهم أنفسهم من عجزوا أن
يجتمعوا العام الماضي في الرباط؟ لماذا كانت الأحوال العربية العام الماضي –كما
جاء في بيان المغرب- لا تسمح بعقد القمة، بينما اجتمعوا لها الآن؟
(1) موسم الهجرة إلى إسرائيل
لا
أحسب إلا أن هذه القمة إنما هدفت إلى تغطية الانفتاح العربي على إسرائيل، وهو أمر
أشبه بقص الشريط أو وضع "الختم العربي" على الملف الذي اكتمل بالفعل. إن
عددا من الدول على رأسها السعودية ستفتح صفحة جديدة مع إسرائيل، وتريد من هذه
القمة أن تكون تدشينا! وبعد السعودية ستهرول إلى "إعلان العلاقة" (لا
إلى فتح العلاقة) دولٌ أخرى تريد أن يكفيها غيرها شعور الحرج الشعبي.
لم
يكن الأمر جديدا على مستوى الواقع العملي وإنما هو خروج من حالة الإسرار والخفاء
إلى حالة الإعلان مع التدثر بالمبادرة السعودية –التي سميت عربية- والتي وُلِدت
ميتة قبل خمسة عشر عاما في قمة بيروت، وحينئذ كان عرفات محاصرا وكانت إسرائيل
تجتاح جنين. صحيح أن المبادرة غطاء مهترئ كما يعرف الجميع لكن لا بأس به كلافتة
تجعل الأمر يبدو طبيعيا لا جديد فيه.
لا
يخفى على الجميع أن بيع جزيرتي تيران وصنافير معناه دخول السعودية إلى اتفاقية
كامب ديفيد وتعداتها الأمنية، وهو ما تمّ وانتهى بالفعل، وما كان يُقال بالتحليل
صار يقينا لا يدخله شك بعد التسريب الصوتي للمكالمة الهاتفية لوزير الخارجية
المصري وهو يراجع بنود الاتفاقية مع المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلي، وهذا
فضلا عن اللقاءات المعلنة لشخصيات غير رسمية سعودية إسرائيلية، أو اللقاءات غير
الرسمية لمسؤولين على هامش اجتماعات أخرى.
هنا
تلح على الذاكرة قصيدة العبقري أحمد مطر التي أنشأها قديما:
الثور فرّ من حظيرة البقر، الثور فرّ،
فثارت العجول في الحظيرة،
تبكي فرار قائد المسيرة،
وشكلت على الأثر،
محكمة ومؤتمر،
فقائل قال: قضاء وقدر،
وقائل: لقد كفر
وقائل: إلى سقـر،
وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة،
لعله يعود للحظيرة؛
وفي ختام المؤتمر،
تقاسموا مربطه، وجمدوا شعيره
وبعد عام وقعت حادثة مثيرة
لم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحظيرة..
(2) الإرهاب الإسلامي
يعتبر
كارل شميت أن وظيفة السياسي هي "صناعة العدو"، وذلك أن النظام السياسي
حين يتخذ له عدوًّا فإنه يبرر سائر المشكلات بتحميل مسؤوليتها له، فالعدو يعمل
كمهدئ، ويصرف المسؤولية عن مستحقيها إلى نفسه، ويزيد من ارتباط الشعب والأواصر الاجتماعية!
بعبارة أخرى يقول عالم الاجتماع الفرنسي الشهير: "حين يعاني
المجتمع يشعر بالحاجة لأن يجد أحدا يمكنه أن يعزو إليه ألمه ويستطيع أن ينتقم لخيبات
أمله"[1].
هكذا
عاش الحكام العرب زمنا على عداوة إسرائيل، وهي عداوة معلنة، بينما الواقع أن سائر
هذه الأنظمة إنما اكتسبت "شرعيتها الدولية" من قيامها بواجب حماية ودعم
إسرائيل، وليس سرًّا أن إسرائيل كانت باب العديد منهم إلى الأمريكان. إلا أن
العداوة المعلنة كانت المبرر للبقاء في الحكم على جثث الملايين وعلى حساب موارد
الشعوب والأجيال القادمة.
وحيث
سيتحول العداء إلى غير إسرائيل، فقد شهدت كلمات القمة تدشينا للحرب على العدو
الجديد: "الإرهاب الإسلامي"، حيث حفلت كلمات القمة بالتحذير من خطر
"الإرهاب" و"الإرهابيين"، فمن لم يكن يقتل بيده أو بيد حلفائه الأجانب كما في العراق ومصر
وسوريا وليبيا واليمن فإنه يدعم من قريب ومن بعيد بالمال والإعلام.
وهكذا
يتخلص النظام العربي من ازدواجيته بين العمل والشعار، ليصير العدو عدوا معلنا
والصديق صديقا معلنا كذلك. ومن المثير أن أول من أعلن هذا كان رئيس الوزراء
الإسرائيلي نفسه الذي قال ولم يُخف دهشته: "لأول مرة في حياتي وفي حياة
إسرائيل، لا تنظر الدول العربية إلينا كعدو، بل ترى فينا حليفا ضد عدو
مشترك". ولما سُئل في نفس هذه الزيارة: مَن مِن العرب الذين يعنيهم، أجاب
قائلا: السؤال الأصح: من من العرب ليسوا كذلك!
(3) مفارقات القمة
صنعت
مفارقة انعقاد القمة العربية في مدينة "البحر الميت" مادة ممتازة
للسخرية الشعبية، لقد اعتاد الساخرون الحديث عن أن القمة مجرد "اجتماع سنوي
لدار العجزة"، وأنها مؤتمر مبتكر لمرضى الشيخوخة حيث جرى انتقاء أبرز أنواع
المرضى كي يتابعه الأطباء عبر الشاشات بدلا من انعقاد مؤتمر للأطباء أنفسهم، ولم يحدث
مرة أن حرمتنا القمة العربية من مشهد كوميدي كرئيس ينام، وآخر يتعثر، وثالث يخطئ
خطئا غريبا، ورابع يتشاجر مع خامس. في هذه المرة "اجتمع الموتى في البحر
الميت"!
من
آثار الشيخوخة العامة كذلك أن لا أحد منهم يكاد يُبين، تسقط الكلمات من لسانه،
تتوه من بين أسنانه، تهرب مع اضطراب شفتيه. ثم إنه لا يكاد أحد منهم يجيد الكلام
باللغة العربية، بما فيهم الأمين العام العربي العَيِيّ اللسان الركيك البيان!
ولم
يغب عن المفارقات رسالة شاردة، خارج الزمن، كأنها كتبت قبل زمن الثورات العربية،
بعث بها مكتب الإخوان المسلمين في لندن، ينادي فيها أولئك "أصحابَ الفخامة
والجلالة والسمو ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية"، ثم احتوت الرسالة لأول
مرة على كلمة "دولة إسرائيل"، توقع كثيرون لأول وهلة أن الرسالة مكذوبة حتى
ثبتت صحتها. هنا يبدو المشهد مثيرا للشفقة فوق كونه إثارة للسخرية، فعلى المسرح
يعرف الممثلون أنهم يقومون بدور مكتوب لهم، ويتعامل جميع المشاهدين على هذا
الأساس. بدت رسالة مكتب الإخوان في لندن كأن مشاهدا صدَّق المسرحية وهب من مقعده
محاولا تقديم نصيحة للممثلين على المسرح! ضحك الجميع من فرط الدهشة، لكنه ظل
مندهشا من دهشتهم، لا يدري لم ضحكوا، فقد أراد لهم الخير!! ما أشبه عواجيز الحركات
المعارضة المدجنة بعواجيز القمة العربية.
(4) متى تكون القمة العربية حلا؟!
بينما القمة العربية منعقدة، كانت رصاصة إسرائيلية
تحيل حياة امرأة فلسطينية إلى شهيدة على بُعد كيلومترات معدودة من موقع القمة، فلا
القمة بلغها حال المرأة ولا المرأة انتفعت بانعقاد القمة. وكما لاحظ صديق بحق: ترى
لو كانت إسرائيل تعلم أن لدى هؤلاء نية حقيقة لحل القضية الفلسطينية، ألم تكن
لتخرج طائرة فتقصفهم في مكانهم؟!
ثمة حالة وحيدة يمكن أن تكون القمة العربية فيها
حلا حقيقيا للوضع العربي، تلك الحالة صاغها أحمد مطر عندما قال:
أنا لو كنت رئيسا عربيا، لحللت المشكلة..
وأرحت الشعب مما أثقله..
أنا لو كنت رئيسا.. لدعوتُ الرؤساء..
ولألقيت خطابا موجزا عما يعاني شعبنا منه..
وعن سر العناء..
ولقاطعتُ جميع الأسئلة..
وقرأت البسملة..
وعليهم وعلى نفسي قذفت القنبلة..
[1] انظر: بيار
كونيسا، صنع العدو: أو كيف تقتل بضمير مرتاح، ترجمة: نبيل عجان، ط1 (الدوحة:
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مايو 2015)، ص29 وما بعدها، 36.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق