ما أقبح أن يفشل القادة فيُحمِّلون الشعوب مسؤولية
الفشل! وما أقبح أن نضطر إلى مناقشة مثل هذه القضية ولا تزال دماء الثورة ساخنة
ولهيبها وهّاج! إن الشعب الذي أشعل ثورة تجاوز فيها النخبة الذين ما ظنوا أن يثور،
ثم اختارهم في خمس استحقاقات انتخابية، ثم واصل العطاء بالدماء في الشوارع في ظل
انعدام قيادي أو توجيه ثوري.. هذا الشعب يجد الآن من كثير من أولئك الذين خذلوه من
يتهمه بأن الخنوع من طبعه، وبأن الذل أصيل في جيناته، وبأنه المسؤول عن الفشل!
سأعتمد في هذا المقال على تحليلات المفكر المصري
الجغرافي المرموق جمال حمدان، وهو ممن يكاد يُتفق على تبحره علميا وانفراده
بالمجهود الجليل المبذول في موسوعته "شخصية مصر".
(1) هل الاستبداد نتيجة
حتمية للطبيعة النهرية؟
نظرية مشهورة تلك التي تقول بأن الشعوب التي تعيش على
الأنهار وتعتمد على الزراعة تنبت فيها الدولة المركزية، وخلاصة تلك النظرية أن
الشعوب التي تزرع اعتمادا على النهر تحتاج إلى سلطة تنظم توزيع الماء فيما بينها
كي ينتفع الجميع ولا يصير النزاع على الماء تقاتلا (وهذا بخلاف الشعوب التي تعتمد
على الأمطار حيث لا تنشأ هذه الحاجة للسلطة). كذلك فإن النهر يحتاج لمن يشرف عليه
ويُحسِّن الاستفادة منه بإنشاء الجسور وحفر القنوات وبناء القناطر، وهذا كله من
عمل السلطة. ثم إن المجتمعات النهرية تحتاج إلى السلطة لصد عادية وغارات البدو
والرُّحَّل الذين عادة ما تغريهم مناطق أهل الزراعة بما فيها من ثراء وثمرات.
لكل هذا تنشأ الحاجة إلى السلطة، ويتخلى الناس عن بعض من
حريتهم في سبيل تمكين السلطة التي تشرف على هذه الأمور. وإذا نشأت السلطة وقويت
زاد الاعتماد عليها فصارت طباع الشعوب أسهل وألين وأرفق، وصار المرء أقل قدرة في
الاعتماد على نفسه والقيام بشؤونه من مثيله في المناطق الجبلية الوعرة، إذ الخشونة
والشظف هناك يجعل المرء أقوى وأصلب وأخشن وأكثر قياما بشأنه.
فإذا أضفنا إلى هذا أن مصر من البلاد النهرية السهلة حيث
الجغرافيا منبسطة لا وعرة، والوادي المعمور ضيق ليس فسيحا ولا متناثرا.. فهنا تكون
السلطة أكثر قدرة على الهيمنة والسيطرة، إذ لا بيئة جبلية يمكن أن يلجأ إليها أو
يختبئ فيها المتمرد، وحينئذ يكون التمرد على السلطة محفوفا بالمخاطر، واحتمال
الفشل فيه أعلى ما يمكن.
مع كل هذا يقول جمال حمدان بوضوح "الشيء المؤكد
علميا بالقطع أن الطغيان أو الاستبداد –شرقيا أو غير شرقي- ليس من حتم البيئة
النهرية أو من فعل النيل أو غير النيل، ولا هو لعنة طبيعية عمياء، وبالمثل فإن أية
انحرافات قد يفرضها الطغيان فهي لا علاقة لها قط بزراعة الري أو جغرافية النهر من
حيث هو"[1]، ويقول بأن ما عرفته مصر من الاستبداد "إنما كان -للأسف- روح العصر zeitgeist وليس –لحسن الحظ- روح المكان genius
loci... وهذا بالدقة مفتاح الحقيقة العلمية، إنه
(الاستبداد) حقيقة بالتاريخ لا بالجغرافيا، وظاهرة تراثية لا وراثية، أي موقوته
مهما طالت. هو إذن لا يعبر عن أي طبيعة كامنة في مصر كبيئة أو كشعب، ولا يمثل
انبثاقة طبيعية من المكان وإنما انحرافة سياسية عبر الزمان، وفي النهاية لا يعبر
عن شخصية مصر الاجتماعية الكامنة الأصيلة قط"[2].
(2) مزايا المجتمعات
النهرية
يكتمل الوجه الآخر لصورة المجتمعات النهرية بكونها
المجتمعات التي تنشأ فيها الحضارة، حيث ينشأ من الاستقرار التفنن في العمارة
والفنون وممارسة العلوم، وهكذا تختزن الشعوب النهرية ميراثا حضاريا غزيرا لا ينشأ
مثله في البيئات الجبلية أو الصحراوية التي لا يبق لها تاريخ معروف ولا تسهم في
نهر الحضارة بشئ ذي بال.
إلا أن شأن الحضارة ليس من شأننا هنا، وإنما هل يوجد
للمجتمعات النهرية مزايا في شأن الثورة وطبيعة الحاكم والمجتمع؟
من يحاولون الترويج لكون الشعب المصري لا يثور ينسون –أو
يتناسون- بأنه بقدر ما ولَّد وجود النهر الحاجة إلى سلطة بقدر ما صنع مجتمعا
تعاونيا متماسكا كذلك، وهذا التكوين هو أساس ثوري لا غنى لأصحاب الثورة عن البناء
عليه. يقول جمال حمدان:
"إذا كانت البيئة الفيضية تحتم قيام حكم قوي وتنظيم
سياسي مؤثر، فما معنى هذا؟ معناه ببساطة أن النظام النهري وأيكولوجية النيل تؤهل
بطبعها وتلقائيا لعنصر كامن أصيل وبعيد المدى من الاشتراكي... لأن مواجهة أخطار
النهر وذبذباته الجامحة وبناء القرى المجمعة ونظام الحياة اليومية في القرى من
تنظيم المياه والدورة الزراعية... إلخ. كل أولئك لا يمكن أن يتم كعمل جماعي منسق
يقوم على التعاون"[3]. ويضيف: "مصر كبيئة فيضية إنما مؤهلة بطبعها
للاشتراكية التعاونية الخالية من الاستغلال والابتزاز... شخصية مصر الحقيقية طلقة
حرة من الانحراف أو الضغط، هي بيئة ومجتمع المشاركة الجماعية والجهد المشترك في ظل
التعاون والتماسك والتضامن"[4].
وبقدر ما استطاع الثوار ترسيخ التعاون والتماسك
الاجتماعي بقدر ما استطاعوا تقليل الحاجة إلى السلطة وتقليل الاعتماد عليها، ولا
يزال المصريون يشتهرون بتماسكهم الاجتماعي، وإن كان هذا قد تعرض لضربة قاصمة منذ
محمد علي واشتدت أكثر مع دخول مصر في النمط الغربي عند عصر الانفتاح الساداتي ولا
يزال الضغط السلطوي على المجتمع يريد تفكيكه وتفتيته كما هي عادة وطبع السلطة
الحديثة. كما لا يزال المصريون يفضلون ممارسة علاقتهم وفض إشكاليتهم بعيدا عن جهاز
السلطة ما أمكن! وهذا بحد ذاته رصيد في ميزان الثورة على حساب الاستبداد.
(3) نجاح أو فشل الثورات
مسؤولية من؟
على غير ما يشيع عن المصريين بقلة ثوراتهم يذكر جمال
حمدان بأن "التاريخ المصري القديم سجل صراع طويل وحافل تنقطه الانتقاضات
الشعبية المتواترة والتي قد تفصل بينها فترات من الصبر المتربص، ولكنها قد تتحول
أيضا في حالات إلى انفجارات عارمة وثورات مسلحة تعرف الدموية والعنف والوعي الطبقي،
ولئن رجحت في هذا السجل عموما نسبة الهبات والحركات غير الحمرات على الثورات
الدامية الثقيلة، فذلك لأن مصر بحجمها جسم ضخم ثقيل الوزن، لا يتحرك باندفاع
متهور، بل بدفع محسوب، ولذا فإن ثوراتها الشاملة قليلة العدد نسبيا ولكنها فاعلة
وحطمة حين تقع، ومن ثم تصبح علامات تحول بارزة وأحيانا سباقة تاريخيا"[5].
ويضيف في موضع آخر: "لم تنقطع المقاومة الشعبية
بالطبع ولا استكانت، فالعصور الوسطى مُنَقَّطَة مُرَصَّعة بالانتفاضات والمواجات،
إلى أن كان العصر التركي المملوكي حين تصبح الثورات تيارا متقطعا ولكنه لا ينقطع،
وحيث تتعدد أنواعها بين الثورات الزراعية وثورات المدن، بين ثورات البدو والفلاحين
والرقيق، في الدلتا والصعيد وفي العاصمة"[6].
وإذا كان الشعب يثور ويعترض، فإنه لا مجال هنا لتحميل
الشعب مسؤولية نجاح أو فشل هذه الثورات والانتفاضات، فهذه المسؤولية هي من نصيب
القادة، أولئك هم الذين يستطيعون أن يديروا المعركة الثورية بنجاح لتصل إلى
أهدافها أو يخفقوا في إدارتها فتسرق منهم الثورة أو يُنقلَب عليها! لا يُطلب من
الشعب أن يكون ثوريا وسياسيا في آن واحد، وما هذه بطبيعة الشعوب.. فلئن حصل
الإخفاق في الثورة، فهو أمر يتحمله من تصدروا لها بعد أن رفعتهم الثورة في مصاف من
يتكلم باسمها وفوضتهم بالنيابة عنها.
(5) لغوٌ باطل
"أما النظرية
الكاسحة البراقة التي تقول إن الشرق بطبعه نزاع إلى الاستبداد والملكية، والغرب
إلى الديمقراطية والجمهورية، فقطعة من اللغو اللغوي لا أكثر، أكثر منها حتى مجرد
تبسيط مخل، بالاختصار، الاستبداد أو الطغيان حقيقة عرفتها معظم البلاد في معظم
العصور على اختلاف بيئاتها، والفروق بين البشر أقل بكثير من التشابه الأساسي.. بل
لقد كان أغلب تاريخ العالم حتى وقت قريب هو في الواقع الحكم المطلق والاستبداد
بصورة أو بأخرى"[7].
إن من يتحدثون عن الشرق
المولع بالاستبداد لا يمدون أبصارهم إلى التاريخ، لا يعرفون كيف كانت أوروبا في
القرون الوسطى، ليس ثمة شعب إلا ووقع تحت الاستبداد وقُهِر تحته لفترة تطول أو
تقصر، فكيف تُشتم شعوبنا بشيء لم ينج منه شعب على وجه هذه الأرض!
من أراد شعبا يثور كل
يوم، أو شعبا لم يصل نار الاستبداد، فليبحث خارج هذا الكوكب!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق