استعرضنا في المقال قبل السابق كيف تنوعت مذاهب
الفلاسفة في رسم صورة للمدينة الفاضلة ثم كيف أنها جميعها قد فشلت، وفي المقال السابق رأينا كيف حصر كل فيلسوف
أمر تحمل المسؤولية في فئة أو طبقة بعينها.
وسنحاول بإذن الله بداية من هذا المقال والمقالات التي
تليه في شرح المنهج الإسلامي في صياغة المجتمع، وكيف أنه استوعب وتميز عن المناهج
الوضعية نظريا، ثم كيف أنه قد تحقق عمليا بحضارة كبرى استمرت لألف عام ضربت مثلا
فريدا في تاريخ الحضارات، ثم هي مرشحة في كل وقت للتجدد مرة أخرى.
ونحن حين ندخل إلى رحاب المنهج الإسلامي الرباني، لا سيما
بعد ذلك الاستعراض للمناهج والأفكار الوضعية في أمر بناء المجتمعات وفلسفة المسئولية
لديها، نزداد إيمانًا بنعمة الله علينا بهذا الدين القويم.
إن الصورة العامة لمنهج الإسلام في بناء المجتمع
الإنساني ومعالجة الخلل فيه، تبدو كأنها صورة بناء كبير، مترابط متماسك، متزن منضبط،
كالجسد الواحد الذي وصفه باعثه ومؤسسه محمد r بأنه "إذا اشتكى
منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وهذا البناء الإسلامي يمكن دراسته عبر أربعة عناصر:
1. الأساس العقدي؛ إذ العقيدة تُشَكِّل الأفراد –الذين هم
في مقام اللبنات- كما تهيمن على المجتمع –الذي هو الكيان النهائي- فالعقيدة هي المادة
الخام، التي أُخِذ منها أصل البناء وهي -أيضًا- أساسه وعليها مُستَقَرُّه.
وهذه العقيدة المهيمنة على المجتمع الإسلامي تخاطب الأفراد
عبر تكليفات فردية، كما تخاطبهم جماعة عبر تكليفات جماعية، فترسم بناءً لا ينهار باختلال
أحد أجزائه؛ إذ لكل جزء مسئولياته التي إن قام بها الجميع كان المجتمع مثاليًّا، وإن
قَصَّر فيها بعضهم هرع إليه غيره من الأجزاء يشده إليه ويعيد تقويمه.
وهذه العقيدة تشكل العناصر الثلاثة الأخرى:
2. المسئولية الفردية؛ حيث الأفراد –الذين يمثلون اللبنات-
مُكلفون بمهمات فردية ومسئوليات تقع على عاتقهم، ينبغي عليهم إقامتها في كل وقت
وفي كل حال، سواء أكانوا في مجتمع إسلامي أم في مجتمع غير إسلامي، أي أنهم يقومون
بالواجبات الفردية ولو لم يكن البناء الاجتماعي قائمًا ولا أجزاؤه موصولة ببعضها، فذلك
ما يفرض على اللبنات أن تكون ذات جودة وكفاءة وصفات في ذاتها.
3. النظام العام؛ وبه يكون البناء متماسكًا مترابطًا بما
قام بين أجزائه من روابط واتصال واستمساك متين، فتلك هي الروابط الاجتماعية بين الفرد
وأسرته وعشيرته وقبيلته، ثم بين الأسر وبعضها، ثم بين العشائر وبعضها، ثم بين القبائل
وبعضها، ثم الأخوة التي تجمع كل من يقول: "لا إله إلا الله". ومن وراء ذلك
روابط الرحم والجوار والتواصل والإحسان لكل الناس، ولو لم يكونوا مسلمين.
ثم يكون البناء بعد التماسك والترابط متزنًا منضبطًا، كل
أقسامه وأجنحته متسقة لا يبغي بعضها على بعض، فلا فضل لأحد على أحد بعرق أو لون أو
جنس، وليس للسلطة أن تطغى على الأمة، كما ليس للأمة أن تتمرد بغير حق على السلطة، وليس
للابن أن يعق أباه، ولا للأب أن يعق ابنه، ولا للرجال أن يقهروا النساء ولا للنساء
أن يعصين الرجال في معروف، بل لكل جزء من هؤلاء حق على الآخر وواجب نحوه.
4. ثم يبقى نظام الحماية العام، الذي هو بمنزلة جهاز الإنذار
المنتشر في كل أرجاء البناء؛ فهو كالمظلة العامة والحارس اليقظ، فإن جاء صفير الخلل
لم يتوان أحد عن التدخل والإصلاح؛ فذلك هو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"،
الذي يقوم به كل أحد تجاه أي أحد.
بهذه الصورة –التي ندعو الله أن يُوَفِّقنا لبيانها عبر المقالات
التالية إن شاء الله- تقوى لَبِنات البناء في ذاتها، ثم تشتد بعضها إلى بعض في روابط
متينة تزيد من قوتها، ثم تتصل أجزاء المبنى القوية في اتزان وانضباط يمنع بعضها من
الطغيان على بعض.. فيرتسم قول النبي r: "المؤمن للمؤمن
كالبنيان يشدّ بعضه بعضا" وشَبَّك أصابعه[1].
في هذا البنيان وحده يبرز المنهج الإسلامي الفريد
"كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"[2].
فالمسلم مسئول عن نفسه، ثم هو مسئول عمن حوله بما لديه من روابط وصلات رحم وجوار، ثم
هو مسئول عن جماعة المؤمنين بما بينهم من صلة الدين، ثم هو بعد هذا مسئول عن البشر
أجمعين باعتبارهم موطن الدعوة وشركاءه في تلك الأرض المأمور بعمارتها.
وإذا شاء الله وتم بيان هذا المنهج نظريا، فسنتبعه
بمقالات أخرى تبين حجم الإنجاز الإسلامي في التاريخ الإنساني، وكيف صنع المنهج
واقعا حقيقيا في حياة الناس، بخلاف الأفكار الوضعية التي ظلت حبيسة الكتب والخيال.
(1)
الأساس العقدي
كيف غرس الإسلام في نفس المسلم المسؤولية تجاه
الإنسانية؟
كيف صار إنقاذ الإنسان وتحرير الإنسانية جزءا من عقيدة
المسلم؟
لقد كان ذلك عبر طريقين: غرس التوحيد، وبيان المهمة!
إن غرس التوحيد (لا إله إلا الله) يضرب القيم الأرضية،
ويرتقي بالنفس الإنسانية، فحين لا يلتزم الإنسان إلا بأمر الله فإنه يتحرر من كل سلطة
أرضية أو أهواء بشرية أو أفكار بالية أو شهوات نفس طاغية، فحينئذٍ ينبعث في الأرض إنسان
مختلف عن باقي البشر، إنسان متهيأ لتحمل الأمانة مستعد للتضحية.
ثم إن هذا الإنسان يعرف ويعي مهمته في هذه الحياة، يعرف ماذا
عليه تجاه نفسه وأهله وأمته والناس أجمعين، بل وتجاه الحياة كلها بأحيائها: نباتها
وحيوانها وحشراتها وحتى جمادها! إنه مكلف بحمل الأمانة والسعي في الإصلاح.
فالصورة المثلى للمسلم هي صورة إنسان لا يخشى إلا الله
ولا يتقيد إلا بأوامره، منطلق في طريق رسالته التي يعيها ويعرفها، لا يرجو إلا
الله واليوم الآخر.
في المقال القادم إن شاء الله تعالى سنبدأ
في بيان: معنى "لا إله إلا الله" وآثارها على الإنسان، وعلى الإنسانية.
نشر في ساسة بوست