السبت، أكتوبر 08، 2011

شهادة قانوني غربي للشريعة قبل مائة عام!

في حواره مع قناة الجزيرة مباشر مصر لفت المستشار طارق البشري النظر إلى أن المتشكك في الشريعة الإسلامية ليسوا –في العموم- من أهل القانون، بل هم من "النخبة السياسية" التي يمثل جهلها بالإسلام وبالشريعة المشكلة الأساسية في السجال السياسي والثقافي القائم.

على أنه ينبغي أن نضيف شيئا آخر، ذلك أن النظر إلى العلمانيين على أنهم مجرد أصحاب رأي مخالف هو بعض الصورة لا كلها، وتكتمل الصورة حين ننظر إلى الخارج الذي استطاع في سنوات الاستعمار ثم سنوات الاستبداد صناعة قواعد داخلية وطابور خامس ينطق باسمه على لسان عربي، ويروج لأفكاره باللغة العربية.

لكن الخارج وأذنابه قد أفلسوا إفلاسا تاما في المعركة الفكرية، وصاروا يرددون الكلام الذي مضى على إثارته أكثر من قرن من الزمان، وهو الكلام الذي أُشْبِع ردا وتفنيدا من علماء الإسلام بل من المستشرقين المنصفين، ولم يعد أحد يردده ممن يحترم نفسه ويحرص على صورته ومكانته في المجال الفكري[1].

ولمزيد من إثبات هذا الكلام نسوق هنا شهادة دافيد دي سانتيلانا (David de Sautillana) (1855 - 1931م) المستشرق الإيطالي والقانوني الذي تبحر في دراسة الشريعة الإسلامية، وقد اعتمد عليه الاحتلال الفرنسي في تدوين القوانين التونسية، فوضع القانون المدني والتجاري معتمدا على قواعد الشريعة الإسلامية ولكن بالصياغات الأوروبية، وقد تخصص سانيلانا في دراسة المذهب المالكي والشافعي على وجه التحديد، وله في هذا مجموعة من المؤلفات مثل: (ترجمة وشرح الأحكام المالكية)، و(الفقه الإسلامي المالكي ومقارنته بالمذهب الشافعي) في نحو 1300 صفحة، و(القانون والمجتمع) في المقارنة بين الفقه الإسلامي والقوانين الأوربية، و(القوانين المدنية والتجارية) وهو مُصَنَّف كبير وبحث جامع لفقه الحقوق الإسلامية، وله أيضًا (ملخص ابن الإنسان) للشيخ طنطاوي جوهري، و(الخلافة والسلطان في الشرع الإسلامي)، كما ترجم الجزء الثاني من كتاب (مختصر خليل) في الفقه المالكي مع تعليقات عليه[2].

***

فارق ما بين الشريعة والقانون الوضعي

أدرك سانتيلانا الفارق الجوهري بين القانون الذي يُستمد من الإله، وبين القوانين الوضعية، وأثر هذا الفارق في تنظيم سلوك الناس وفي وحدتهم الاجتماعية، يقول:

"إن أساس الوحدة الاجتماعية المسمى في المجتمعات الأخرى (حكومة) يُمَثِّلُه (الله) عند الإسلام؛ فالله هو الاسم الذي يُطْلَق على السلطة العاملة في حقل المصلحة العامة، وعلى هذا المنوال يكون بيت المال هو (بيت مال الله)، والجند هم (جند الله)، حتى الموظفون العموميون هم (عمال الله)، وليست العلاقة بين الله والمؤمن بأقل من ذلك، ولا يوجد بين المؤمن وربه وسيط، وما دام الإسلام لا يقرُّ بسلطان كنسي وكهنوتي، ولا يعترف بأسرار مقدسة، فأي فائدة تُرْتجى من الوسيط بين الإنسان وبين خالقه، الذي كان يعرفه قبل أن يُبدعه، والذي هو أقرب إليه من حبل الوريد"[3].

إن أقوى ما يصنعه الدين هو تحويل الشريعة والقوانين إلى التزامات دينية قبل أن تكون التزامات مجتمعية، فيضع الإنسان أمام ضميرة، يقول سانتيلانا: "الخضوع لهذا القانون إنما هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه، ومن ينتهك حرمته أو يشقّ عصا الطاعة عليه لا يأثم تجاه النظام الاجتماعي، بل يقترف خطيئة دينية أيضًا".

أسفر هذا الامتزاج بين الدين والقانون في الشريعة الإسلامية عن نتائج مثيرة، يقول سانتيلانا: "نتيجة هذه الرُّوح الجميلة الخلابة في الشريعة ما كانت ممارسة الحق إلا إنجازُ واجبٍ؛ لأنه إن كان الحقُّ شيئًا حسنًا، فلا يمكن إغفاله، وإهمالُ المطالبة به إثمٌ، ومَنْ يَدَّعِي بملكه مِنْ مغتصب لا حقَّ له فيه إنما يُنجز واجبًا أخلاقيًّا، وفي بقائه ساكنًا مهملاً مطالبته بحقه يجعل الباغي متماديًا في بغيه".

فالأمر لا يقتصر على الحق باعتباره منفعة شخصية بل يُعَدُّ "الحق" قيمة دينية عليا لا يجوز التفريط فيها، "ولكنه إذا كان حق المرء هو منفعته الخاصة وواجبه الأدبي معًا؛ فإن لذلك الحقِّ حدودًا معينة بموجب مبادئ الأخلاق والمصلحة العامة؛ فالصلح والتراضي هما سيِّدَا الأحكام في كل وقت، وأخذ الثأر ممنوع منعًا باتًّا، والتضييق البدني على الْمَدِين مخالف للقانون، ولا اعتساف في استعمال الحقِّ تمامًا؛ إذ ليس لأحد أن يمارس حقًّا له، بالدرجة التي يسبب للآخر ضررًا مُحَقَّقًا، وللفقهاء المسلمين في هذا الصدد إحساس دقيق مرهف يفوق ما نتصوره؛ فمثلاً: يمنع أن يخوِّل حقَّ الادعاء إلى وكيل هو عدو للطرف الذي أُقِيمَتْ عليه الدعوى، وممنوع أن يُؤجر حيوان لشخص عُرِفَ بقسوته على الحيوان، كذلك حُرِّم بيع أمة صغيرة السن لرجل حُرٍّ بالغٍ خشية أن يُغَيِّرها بالفسق أو أن يَطَأَها زانٍ، وهكذا ترسم الأخلاقُ والآداب في كل مسألة حدود القانون".

على أن وجود الدين والإله في المجتمع الإسلامي لا تتنازعه المخاوف من تحول الدين إلى كهنوت، ولا تسمح بتقديس رجال الدين الذين لا سلطة روحية لهم على الناس ولا دور لهم في الوساطة بين العبد وربه، يقول: "إن أشد المذاهب البروتستانتية صرامة إنما تكاد تكون مذهبًا كهنوتيًّا صرفًا إذا ما قورنت بعقيدة التوحيد الراسخة، التي لا تلين ولا تتزعزع، ولا تسمح بالتدخل بين الخالق والمخلوق".

***

الشريعة الإسلامية وقضية الحرية

ومن خلال دراسته في الشريعة فهم سانتيلانا أن القضية الأساسية للشريعة الإسلامية هي "الحرية"، وأن الشريعة تعامل الإنسان باعتبار أصل الحرية فيه، ويرد على من يثير شبهة الاسترقاق بقوله: "أمَّا الرق فهو استثناء لتلك القاعدة (كان آَدم وحواء وكلاهما حُرٌّ)، من هذا المبدأ استخلص الفقهاء مسائل عديدة إليك بعضها:

1. اللقيط المجهول أصله تُرَجَّح حريته على عبوديته.

2. الحرُّ المشكوك في حريته لا يُجْبَر مبادهة على إثبات حريته؛ حتى تنهض القرائن والدلائل القضائية على عكس ما يزعم.

3. تُرَجَّح حالة الحرية عند وجود الشكِّ.

... فالحرية على هذا الأساس لا يمكن أن تُبَاع أو تُشْتَرَى لرغبة ساورت صاحبها، أو لنزوة عارضة، والعبودية التي يختارها المرء بملء رغبته لا تعترف بها الشريعة قانونًا قط، وعلى هذا المنوال تُحَرِّم الشريعة الانتحار".

وحيث أن الأصل في الإنسان هو الحرية، كان طبيعيا أن يسبق الإسلام غيره في إقرار المساواة، يقول: "قد بشر الإسلام بهذه المساواة في وقت لم يعرف عنها العالم المسيحي شيئًا".

ولذا نرى سانتيلانا يستشهد بمقولة رينان: "الإسلام هو دين الإنسان"، ثم يزيد عليها فيقول: "رُوح الشريعة الإسلامية يتسم بطابع جَلِيٍّ هو إفساح أرحب المجال للأعمال البشرية، وهنا نَتَّفِق مع المشترعين والفقهاء المسلمين بأن القاعدة الأساسية في القانون هي (الإباحة) لكن هذه الإباحة لا يمكن أن تكون غير محدودة، فالإنسان بطبعه طماع، كفور، جشع، يميل إلى السطو على مال الآخرين وهو شحيح كَزٌّ يستطيب الخمول، ويستنيم إلى الكسل، وهو كافر بنعم الله، فلو أن الله أطلق الحرية التامة لنزعات كل فرد، وأباح للناس كافة الظلم والتعدي، فإن المجتمع البشري يكون ضربًا من المحال".

***

الروح قبل الإجراءات

ويقر سانتيلانا بأن الشريعة الإسلامية -على خلاف الشرائع الرومانية التي تركت بصماتها على الروح الأوربية المهتمة بالشكل والإجراءات- تهتم بالروح، وتعطي الإرادة البشرية مساحة كبيرة لإقرار المقاصد الشرعية، يقول:

"إن شريعة الإسلام تفسح أوسع المجال لتحكيم الإرادة البشرية، وتُعَلِّق أعظم الأهمية على القصد القانوني لا على نصِّ القانون الحرفي... وقلما كان بطلان أو صحة أي مبدأ قانوني مرهونًا بأمر شكلي أو بنصٍّ حرفي في الشريعة الإسلامية...

لما كان الشرع الإسلامي يستهدف منفعة المجموع، فهو بجوهره شريعة تطورية غير جامدة خلافا لشريعتنا من بعض الوجوه... إنها ليست جامدة، ولا تستند على العرف والعادة، ومدارسها الفقهية العظيمة تتفق كلها على هذا الرأي".

ولهذا يعترف سانتيلانا بالتفوق الكلي والتميز الفارق بين الشريعة الإسلامية والقوانين الأوروبية، يقول: "عبثًا نحاول أن نجد أصولاً واحدة تلتقي فيها الشريعتان الإسلامية والرومانية كما استقرَّ الرأي على ذلك، إن الشريعة الإسلامية ذات الحدود المرسومة والمبادئ الثابتة، لا يمكن إرجاعها أو نسبتها إلى شرائعنا وقوانيننا؛ لأنها شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلاً".

***

فضل الشريعة الإسلامية

"إن آيات القرآن فُصِّلَتْ للناس بمعرفة خبير حكيم لتكون شريعة للحرية، وقانونًا للرحمة التي أنعم الله بها على الجنس البشري؛ للتخفيف من صرامة الكتب الإلهية الأولى، فالإسلام هو عَوْد إلى القانون الطبيعي، بل عود إلى الإيمان الأول الذي بَشَّر به الأنبياء والأولياء الأقدمون -نوح وإبراهيم- والذي ابتعد به اليهود والنصارى عن غرضه الحقيقي، إن الشريعة الجديدة ألغت القيود الصارمة والمحرمات المختلفة التي فرضتها شريعة موسى على اليهود، ونسخت الرهبانية المسيحية، وأعلنت رغبتها الصادقة في مسايرة الطبيعة البشرية والنزول إلى مستواها، واستجابت إلى جميع حاجات الإنسان".

"الميزات التي تسم الشريعة الإسلامية في كبد حقيقتها، قد نجرؤ على وضعها في أرفع مكان، وتقليدها أجلَّ مديحِ علماء القانون وهو الخليق بها".

"من بين المسائل القانونية التي غنمناها [في أوروبا] من شريعة المسلمين، الأنظمة القضائية الخاصة بالشركة المحدودة (القيراط)، وبعض المصطلحات القانونية الفنية في قانون التجارة، وإننا لو ضربنا صفحًا عن كل ما تَقَدَّم، فلا شَكَّ وأن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عَمِلَ على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مرِّ الدهور".

***

وأخيرا نقول: إن هذا كلام قانوني غربي لم يُسلم كتبه قبل نحو قرن من الزمان! وإن فيه لعبرة لبعض من لا يريدون الشريعة من أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] للإفادة: راجع مقالي: مسؤولية الإعلام عن تخلف الأمة، منشور بمجلة الوعي الإسلامي، العدد 552 (شعبان 1432 هـ)، على هذا الرابط: http://melhamy.blogspot.com/2011/07/blog-post_04.html

[2] للتوسع: د. عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين ، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، بيروت، 1993م. ص341 وما بعدها.

[3] مجموعة: تراث الإسلام، إشراف توماس أرنولد، تعريب جرجيس فتح الله، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، بيروت، 1972م. ص409 وما بعدها.

هناك 3 تعليقات:

  1. شكرا علي الموضوع

    ردحذف
  2. غير معرف2:51 م

    موضوع رائع بارك الله فيك يا استاذ محمد وفقك الله لما يحبه ويرضاه

    ردحذف
  3. غير معرف6:19 م

    يظل الخلاف حول كيفيه التطبيق وليس حول مبدأ التطبيق

    ردحذف