حين ترك المصريون ميدان التحرير بعد تنحي المخلوع، كانت تملؤهم الثقة في أن ثورتهم قد نجحت، وفي أن الجيش المصري "العظيم" سيأخذ بيد الثورة حتى تسليمه إلى سلطة مدنية منتخبة بأقل الخسائر وأكثر الطرق أمانا، ذلك أن الجيش كان –ولا يزال- المؤسسة المتماسكة القادرة على حماية الخيط الأخير في حلقة انهيار الدولة.
عظيم.. هذا بحد ذاته دليل على أن الثوار لا يحبون الثورة بطبيعتهم، ولا يدمنون الاعتصامات، ولا لديهم هوس بالمظاهرات، ولا وُلِدوا ملتصقين بميدان التحرير.. لقد تركوه عندما كانت لديهم الثقة، ولذلك عادوا إليه كلما افتقدوا إلى الثقة.
لا يغيب عن بالي كلمات عبد الناصر لحسن العشماوي قبل ستين سنة حين صرح له أنه لا بد من التضييق على هذا الشعب في الرزق لكي ينشغل بحاله ويكون طيِّعا، وهو ما فهمه حسن العشماوي، ورواه بعدئذ في كتابه "مذكرات هارب" بعد أن طاردته شرطة عبد الناصر في قصة إنسانية غاية في الإثارة والمأساة!
لقد كان حسن العشماوي أحد المخدوعين في ضباط 52، وقد دفع المخدوعون حينها ثمن انخداعهم باهظا، سجون ومعتقلات ومشانق وأسر أكلت التراب ولم تجد حتى الثياب الممزقة تستتر بها، وقبلهم وبعدهم دفع الوطن من عمره وحريته وموارده ستين سنة هي في عمر التخلف الحضاري والعلمي والاقتصادي أكثر من الف سنة!
حسنا، لنتكلم بوضوح:
1. الجيش نكث عهده مع الشعب، ومضت ثمانية أشهر بدون خطوة حقيقية على مسار التحول الديمقراطي، والطريف –بل الصاعق- أن المجلس العسكري قد صرح بعدة تصريحات تنسف ما يُتوهم أنه مسار للتحول الديمقراطي، أخطرها تصريحان؛ الأول: عن أن المجلس غير ملزم بأن يكلف الأغلبية بتشكيل الحكومة فالنظام ما زال "رئاسيا"، والثاني: أن القائد العام للقوات المسلحة لن يعينه حتى الرئيس المنتخب!!
2. ثم استطاع الفريق سامي عنان ومجموعته القيام بخدعة، نعترف به فيها بالمهارة الرائعة، لمجموعة الأحزاب الثلاثة عشر، فاستخلص منهم موافقة على جدول زمني قاتل للثورة بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، ثم أمسك في تلابيب هذا الاتفاق، برغم أن هذه الأحزاب لا تمثل الشعب المصري وبرغم تراجع بعض الموقعين عن الاتفاق!
3. هذه الخطوات أفضت إلى أن الفترة الزمنية لم تعد ستة أشهر، بل صارت مفتوحة بلا حد، ومليئة بالفخاخ.. وحتى لو تم كل شيء في الحد الأدنى من الزمن فإن البرلمان القادم منزوع الصلاحيات، بل حتى الرئيس المنتخب لديه بعض الخطوط الحمر!
الآن تسود الساحة نوعين من الرؤى: رؤية وطنية، ورؤية أنانية انتهازية سافلة (لا أحب التهذب في موضع الحقيقة).. وهي تلك الرؤية التي تريد الإبقاء على حكم العسكر غير الشرعي وغير الديمقراطي وغير المنتخب لأنهم يعلمون موقعهم ومكانتهم الشعبية، فهم على استعداد صريح للتضحية بالوطن ومستقبله إذا لم يكونوا ذا مكانة فيه.
وأما الرؤية الوطنية فهي تنقسم إلى تيارين، تيار يسير مع الجدول الزمني الممطوط ويريد أن يلاعب العسكر ويثق بقدرته على استدعاء الحشد الشعبي في الوقت الذي يحيد فيه العسكر عن طريق تسليم السلطة، والتيار الآخر يريد من الآن تقليص الجدول الزمني والمطالبة بانتخابات رئاسية قبل وضع الدستور، وهذا التيار هو الذي يدعو للنزول والحشد في مليونية يوم الجمعة 28/10/2011 في ميدان التحرير للضغط حتى إصدار قرار بهذا المعنى.
وأعلن أنني منحاز تماما وبكل كياني إلى هذا التيار الثاني، وأدعو للنزول يوم الجمعة في مليونية تتطور إلى اعتصام حتى يتم إصدار قرار بإجراء الانتخابات الرئاسية في إبريل أو مايو 2012 بحد أقصى.. وأسوق في دعم هذا بعض الاعتبارات:
أولا: بالنسبة لأروقة الحكم
1. لا ضرورة أبدا، بل ولا شبهة ضرورة، في أن يظل العسكر في الحكم حتى يتم كتابة الدستور والموافقة عليه في الاستفتاء الشعبي.. ما المانع أن ينتخب رئيس يمارس الصلاحيات كما هي في الإعلان الدستوري، وليُكتب الدستور على السعة.
2. كتابة الدستور في ظل رئيس مدني منتخب لم يستكمل أسباب الديكتاتورية خير ألف مرة من كتابته في ظل حكم عسكري.
3. ستثور مشكلات لا شك حول لجنة كتابة الدستور، ثم حول مواد الدستور، وهذا نقاش يطول، وقد تكون نتيجة الاستفتاء الشعبي رفض الدستور، وفي هذه الحالة ستمتد الفترة الانتقالية سنة أخرى، فهل سنة أخرى تحت حكم رئيس مدني منتخب أفضل أم تحت حكم عسكري؟
4. وفي حالة انتفاء الثقة في العسكر –الذين أجبرونا على العودة لميدان التحرير في كل قرار- فالشك قائم في تدخلهم في صياغة مواد فوق دستورية أو تعيين أعضاء في الشعب والشورى ثم إدخالهم لجنة الدستور لتفجيرها أو تفخيخها.. ففي النهاية لا مجال للمقارنة بين الثقة في رئيس مدني منتخب لا يستطيع أن يكون ديكتاتورا في شهور، وبين مجلس عسكري يزداد كل يوم ترسخا في الحكم وينجذب له مزيد من المنافقين، ويدير كل علاقات البلد الداخلية والخارجية في الكواليس دون أدنى قدر من الشفافية.
5. حتى لو جرت انتخابات نزيهة وأفرزت برلمانا نزيها، فإن الحقيقة أنه سيكون بلا صلاحيات مؤثرة لأن النظام ما زال رئاسيا، المعركة الحقيقية تكمن في انتخابات الرئاسة وتأجيل هذه المعركة إلى ما بعد سنة ونصف سيجعل قدرة العسكر على المناورة أفضل جدا، فهو سيلاعب القوى السياسية بما حصلت عليه من مكاسب، وسينسحب من المعركة كل من لا يقدر أو لا يريد المنافسة على الرئاسة.
6. والخارج، لماذا يبدو المحللون والمراقبون في مصر وكأنهم نسوا الخارج تمامًا، من ذا الذي يشك ولو لحظة أن أمريكا وإسرائيل والغرب ليسوا على الخط الساخن المفتوح مع المجلس العسكري منذ اندلاع الثورة على الأقل.. حين نترك كل هذا الوقت لإدارة البلد من خلال هذا الخط الساخن ودون أي شفافية، فيما يظل الشعب في موقع الانتظار والمفعول به، فأي الحالين أفضل: أن تكون المواجهة الآن أم بعد سنة ونصف على الأقل، هذا مع الإقرار بأن الوقت الذي خسرناه قد لا يُعوض؟!
7. إذا كان الوقت الذي مضى أثبت لنا أن الإسلاميون (وهم القوى السياسية الحقيقية الوحيدة بحكم الأمر الواقع) في العموم لا يُفضِّلون المواجهة مع المجلس العسكري مع كل ما حدث في هذه الشهور (انخداعا أو خوفا – لا فرق الآن) فلماذا نتوقع أنهم سيفكرون في المواجهة حين يتبين لهم أن العسكر قد نكثوا العهد. أغلب الظن أنهم لن يخاطروا بأنفسهم ولا بكياناتهم (التي ستكون قد أخذت حريات جزئية ومقاعد برلمانية وربما وزارات هامشية) وسيتواءمون مع الواقع ويرضون به. أقول هذا وأنا من الإسلاميين، وأقوله مقرا به وكلي حسرة!
ثانيا: بالنسبة للزخم الثوري
8. لعل أحدا لا يشك في أن الزخم الثوري يتراجع بالفعل، وإذا كانت القوى الوطنية تعاني من حشد مليونية بعد عشرة أشهر من الثورة، فكيف بها بعد سنة ونصف أخرى على الأقل.
9. يخدع نفسه جدا ذلك الذي يظن أن الزخم الثوري سيستمر، وأنه قادر على حشد الناس دائما وقتما يحب، دعونا نتذكر مثلا (وهذا المثال أهديه للإسلاميين خصوصا) أن الحشد الذي صرفه عبد القادر عودة في مظاهرة عابدين 1954 لم يُر مرة أخرى على الإطلاق رغم ما نزل بالأمة والوطن من كوارث.. وكل مطالب المظاهرة من سلطة مدنية وعودة نجيب تم سحقها دون أن ينبس أحد ببنت شفة، ولا حتى في السجون التي قُهِر فيها المعتقلون على الهتاف بحياة جلاديهم!
10. ذلك أن الوقت عنصر فاعل، فكما أن الوقت يُنسي الهموم ويداوي الجروح، فهو أيضا يرسخ المشكلات والأزمات.. ثمة لحظات فارقة تساوي أعمارا طويلة، وهذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل، كم مرة فاتتك الطائرة لأنك تأخرت دقائق فاضطررت أن تتأخر يوما أو شهرا أو تلغي السفر كله.. الثمن لم يكن تلك الدقائق، بل كان ثمنا باهظا، وهذا إن أمكن دفع الثمن وتعويض الخسارة أصلا.. ولذا فخوض المعركة في هذه اللحظة أفضل بما لا يقارن من خوضها حين تزداد الثورة تراجعا ويزداد المجلس العسكري رسوخا في الحكم.
هذه عشرة أسباب، أرى أنها فاصلة وواضحة وضرورية في الدعوة للحشد والنزول يوم الجمعة 28/10/2011.. وأتمنى على الله أن يوفق القوى السياسية والثورية، وفي القلب منها رجل المرحلة الرائع: الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، لاستكمال هذا الحشد وأن تكون مليونية وأن تتطور إلى اعتصام.. فإما أن تنجح هذه الثورة وإما أن نعد حقائبنا: إلى السجون أو إلى المهاجر، هذا إن لم يذهب بنا الطغاة الجدد إلى المشانق والمقابر..
الأمر فعلا جد خطير، ولو أن هذه الثورة لم تكن إلا استبدالا لاسم الطاغية مع الإبقاء على المنهج والنظام وفلسفة الحكم فهي ثورة فاشلة، فاشلة فاشلة فاشلة، فاشلة كأخواتها اللاتي سُرِقْن من الشعب في كل مرة..
اللهم قد بلغت..
اللهم فاشهد..
نشر في شبكة رصد الإخبارية