السبت، أكتوبر 01، 2005

حكاية عربية

لم يكن اكثر من مواطن ... مواطن بسيط عاش حياة آلاف البسطاء مثله ، ولد فى عائلة كمتوسط العائلات دخلها يكاد يكفيها ، لم يعد يكفيها هذا العائد حين تعرضت لأزمة مالية حادة ، اضطرته للتخلى عن دراسته ، منطلقا يبحث عن عمل فنى بسيط يلتهم وقته ويعتصر طاقته ، ثم يمنحه فى آخر اليوم القليل من المال الذى يكفى بالكاد لإقامة عوده كى يواصل العمل فى اليوم التالى .

مضت به الحياة ، ترفعه وتخفضه بين امواجها دائمة التقلب ، كبر وترعرع ، تزوج من اخرى بسيطة من نفس مستواه المادى لم تكن تريد إلا الستر ، والستر فقط .

لكن مابين نشأته وزواجه ، كان قد اكتسب قيما كثيرة ومفاهيم كثيرة ، وأسلوبا معينا يدير به هذه الحياة ، الشئ الذى لم يتغير ، ولم يلح فى الأفق أنه سيتغير كان حالته المادية المتواضعة .

كان يحب ( الزعيم ) حبا جارفا ، فهو بطل الحرب وبطل السلام ، صاحب الإنجازات التى لاتنتهى ، صاحب القرارات المصيرية التى اتخذها بعبقرية فذة ، كانت من نعم الله علينا ان رزفنا هذا الرجل فى هذا الوقت من الزمن .

كان موعد تجديد البيعة موسما لكى يبرز ولاءه ووفاءه لهذا الزعيم المجيد الذى أضاء الدنيا بنور طلعته ، فانطلق يرفع اللافتات ويعلن عن تجديد الولاء والوفاء ، خصوصا وهناكمن أتباع الزعيم من يرصد حركة اللافتات ، وياويل من لم يبايع .

***

قد يتخيل الغالبية الساحقة من القراء انى أتكلم عن مواطن مصرى ، بالعكس .. لم يدر بخلدى لحظة كتابة هذه العبارات أنها عن مواطن مصرى ، إنها لم تكن أكثر من استشرافة صغيرة لحال المواطن العراقى الذى يرقد الآن فى قبر صغير ، أو فى سجن كأبو غريب وأخوته .

فمالفارق بين الشعب العراقى قبل الاحتلال ، والشعب المصرى الآن ؟؟

نفس النسب المذهلة التى تعلن الوفاء والولاء للزعيم ،
نفس الانتشار المريع لحركة اللافتات التى تصر على التمسك بالزعيم ،
نفس النفاق الإعلامى الذى جعل الزعيم إلها لايسئل عما يفعل ، ينطق بالحق ويقول بالصدق ويتحرك بالوحى السماوى ،
نفس الجهل الذى يفترس الشعب فى بساطة عجيبة ،
نفس القدرة على إسكات الصوت المعارض وإلقائه فى السجون والمعتقلات أو القبور بعد رحلة تعذيب ممتعة ،
نفس القدرة الشعبية على ابتلاع كل هذا الكم من القهر والعذاب والمرارة والتأقلم معه ،
نفس معدلات التخلف والانهيار على كافة المستويات ،
نفس ...
نفس ...
نفس ...

****

إذن ...

مالذى يمنع أن يكون المصرى بعد سنوات راقدا فى سجن ( أبو زعبل ) هذه المرة ، يعانى نفس مايعانى منه العراقى الأسير الكسير ؟؟؟؟

حينما يفقد الشعب القدرة على مواجهة طغيان حاكم ، فهو يفقد فى نفس اللحظة مقوماته كشعب إنسانى يستشعر كرامته وحريته وحقه فى الحياة الحرة الكريمة ... إنه يفقد إنسانيته .

وحينما يفقد هذه الإنسانية ، فهو شعب جاهز للاحتلال فى مجموعه يستطيع ابتلاعه والتكيف معه ، إلا قلة قليلة تعلن الجهاد والكفاح ، وهذه القلة هى نفس القلة التى لم تفقد إنسانيتها فى مواجهة الحاكم قبل سنوات .

وصدق مالك بن نبى حين قال : " قبل كل قصة استعمار ، توجد قصة شعب قابل للاستخذاء "

النظرة السريعة عبر التاريخ ، تؤكد أن جميع الأمم التى انهارت سواء بالغزو الخارجى ، أو الانحلال الداخلى ، كانت آخر أيامها ذاخرة بصنوف الانحلال والفساد ، خصوصا على مستوى الحكم .

وقد أورد العلامة ابو الحسن الندوى فى كتابه البالغ الروعة ( ماذا خسر العام بانحطاط المسلمين ؟ ) أشكالا من الفساد الذى انتشر فى امبراطوريات فارس والهند والروم والصين قبل بعثة النبى محمد صلى الله عليه وسلم .

فنجد انحلالا رهيبا فى فارس ، وتفاوت طبقى بشع فى الهند ، وترف غير طبيعى فى الصين ، وانهيار قيمى غير مسبوق فى الروم .. وكل هذه البدايات الفاسدة التى أدت إلى هذا الكم من الفساد كان منشؤها بلاط الحكام وقصور الملوك .

وفى فترات انهيار المسلمين ، كانهيار الدولة الأموية على يد العباسيين ( كانت المشكلة فى الحكم ) والعباسيين الذين سقطوا على يد التتار ( كانت المشكلة فى الحكم ) والانهيار والخروج من الأندلس بعد حكم عريق ( كانت مشكلة حكم ) والدولة العثمانية التى سقطت ( كانت مشكلة حكم )، ولو استرجعنا كل تاريخ الدول المنهارة سنجد أن انطلاق الفساد الذى أدى إلى انتشار الانحلال كان هو الحكم .

لا اقصد بالطبع أن الحاكم الأخير هو الذى يتحمل نتائج الانهيار ، بل على العكس ، فى دراسة ستكتمل قريبا إن شاء الله وجدت أن الحاكم الأخير هو الأكثر صلاحا فى سلسلة الحكام ، لكنه ورث كما من المفاسد لم يكن يستطيع منعه من التفاقم ، ومن ثم منع الانهيار .

****

إن مصر مبشرة باحتلال قريب يذيقها ألوان المرارات ، لو أنها لم تستطع أن تأخذ على يد الحاكم فتمنعه من نشر الفساد الذى هو دائما نذير الانهيار .

فهل نطمع فى أن قارئى هذا الكلام سيعملون ؟؟

أم أننا سنبكى سويا فى أعماق زنازين أبو زعبل ؟؟؟؟



1/10/2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق