الأحد، أبريل 17، 2016

أثر الإيمان في انحيازات السياسة الإسلامية

قال الشيخ محمد قطب:

إن المعبودات اليوم لا تكاد تحصى! فهي أحيانا "الدولة" وأحيانا "الوطن" وأحيانا "القومية" وأحيانا "النظام" وأحيانا "الزعيم الأوحد" وأحيانا "المصلحة القومية" وأحيانا "الرأي العام" –المحلي أو العالمي- وأحيانا "الإنتاج" وأحيانا "العقل" وأحيانا "العلم" وأحيانا "التقدم" وأحيانا "الموضة".. كلها معبودات ترسم للناس مناهج حياتهم فيعمل الناس بوحيها وأمرها في الوقت الذي يعصون فيه أوامر الله، ويستكبرون عن عبادة الله![1].

***

ليس ثمة خلاف بين المؤرخين حول أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) فعل شيئا مذهلا في التاريخ، سواء في هذا من أحب أو من كره، وقد صرَّح العديد منهم بأنه أعظم شخصية في التاريخ، وأنه الوحيد الذي حقق نجاحا على المستوى الديني والدنيوي في الوقت نفسه[2].

وتقتضي هذه الحقيقة التاريخية، كما يقتضي واجب الاقتداء، التأمل الطويل في النموذج السياسي الذي استغرق أكثر من نصف عمره (13 سنة من 23) في التركيز على مفهوم التوحيد: لا إله إلا الله!

لا يبدو الأمر واضحا إذا فهمنا أن "التوحيد" جاء مضادا لعبادة الأصنام، بل ليس الأمر صحيحا، إنما الصحيح والواضح هو مضادة كل ما سوى الله، وإفراد الله باستحقاق العبادة، وإفراده بالحق في "وضع منهج الحياة"، فالإسلام ليس الدين الذي نزل على قريش، بل هو الدين الذي واجه عبادة فرعون وعبادة الكُهَّان والأحبار والرهبان، ومن ثمَّ فإن مواجهة أصنام قريش هي آخر فصوله.

ونعم؛ كان الطرف الآخر يفهم حقيقة الأمر هذه ويواجهها بكل عنف، وقد أعلن فرعون وحاشيته رفضهم التام لأن يكون لأي أحد غيره حق السيادة التي هي –كما يقول جان بودان- التفرد بالحقّ في إنشاء الخطاب الملزم، فقال: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِي} [يونس: 78]. فمعنى "الكبرياء" في الآية هو معنى "السيادة" في الاصطلاح السياسي المعاصر[3].

ولذلك تمسك جميع أولئك بصنم "العادات والتقاليد، وتراث الآباء والأجداد"، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].

بعد كل هذا يكون من السذاجة الشديدة أن يُظَنَّ بأن النموذج السياسي الإسلامي يقوم حين توضع في الدستور عبارة "الإسلام دين الدولة والشريعة هي مصدر التشريع"، ولو كان الأمر كذلك لما نشب الصراع التاريخي الطويل بين الحق والباطل.

إن النموذج الذي محوره "الدولة" أو "الوطن" أو "القومية" أو "التقدم" أو "المصلحة" أو "العلم" .. إلخ، سيتناقض بطبيعته مع النموذج الذي محوره "الإسلام"، فكل هذه العناوين إما هي مرجعيات في نفسها قائمة بذاتها فيحدث التناقض في القيم العليا والثوابت والأصول والانحيازات الحضارية، وإما هي أدوات ووسائل تفتقر بطبيعتها إلى المرجعية التي تحتكم إليها (العلم مثلا ليس إلا أداة، والمرجعية الفلسفية هي التي تحدد ما هو المطلوب منها وما هو الممنوع والمحظور، وفيم يستعمل وفيم يحرم استعماله)، وإما هي معانٍ لا معنى لها بدون وجود المرجعية الحاكمة (التقدم مثلا ليس شيئا حقيقيا صلبا وإنما هو معنى تحدده المرجعية، فالتخلص من الضعفاء والمرضى هو تقدم عند نيتشه وهو إجرام عند آخرين)، ولنضرب على ذلك مثالا واحدا، يعبر عن القضية بوضوح شديد، وهو: قضية الانتماء.

يكتسب الانتماء للدولة الإسلامية بالدخول في الدين، ففي هذه اللحظة ترتب على كل من الدولة والفرد حقوق وواجبات، غير تلك التي كانت لهما وعليهما قبل تلك اللحظة، أي أنها تساوي لحظة حصول المواطن على الجنسية في الدولة الحديثة، إلا أن الدولة الحديثة تمنح جنسيتها لمن وُلِد على أرضها أو وُلِد من العِرْق الذي تنتمي له وإن كان خارج أرضها، أو بشروط معينة تضعها، ومن سوى ذلك فهو أجنبي له حقوق وواجبات مختلفة.

وهكذا يكون الانتماء للدولة الإسلامية محض قرار شخصي لا يد للدولة فيه، وهو مفتوح أمام جميع الشعوب والأعراق والألوان واللغات، ثم إن الدولة الإسلامية تحتضن بعد ذلك من لم يكن مسلما على أرضها وتضمن له بعض الحقوق والواجبات ولكنها غير تلك التي تبذلها للمسلم، بينما الانتماء للدولة الحديثة هو قرار الدولة لا قرار الفرد، وفي حين تملك الدولة الحديثة سحب الجنسية فإن الإسلام (الذي هو الجنسية في الدولة الإسلامية) لا يملك أحد أن يسحبه من المسلم.

والحقوق والواجبات التي تطلبها الدولة الإسلامية من غير المسلمين الموجودين على أراضيها هي بكل المقاييس أفضل بكثير من الحقوق والواجبات التي تطلبها الدولة الحديثة من الأجنبي المقيم على أرضها. ويمكن لأي مقارنة بين حقوق أهل الذمة (في الدولة الإسلامية) وحقوق الأجانب (في الدولة الحديثة) أن تثبت هذا بوضوح. فغير المسلم يتمتع بكافة الحقوق التي يتمتع بها المسلم فيما عدا إظهار ما يتعارض مع الإسلام علانية من شعارات أو معاملات ويتمتع بالدفاع عنه والأمن على حياته مقابل جزية بسيطة يبذلها القادر على الحرب، وهو أمر يشبه التزام الأجنبي بقوانين الدولة الحديثة التي يقيم بها، وهو مع ذلك لا يتمتع بنفس حقوق المواطن في التعليم والعلاج والوصول إلى الوظائف الكبرى، وهو مع ذلك أيضا يبذل من الضرائب على الدخل والنشاط ما هو أعلى مما يدفعه المواطن.

وبالمقابل، فإن الردة عن الإسلام بعد الدخول فيه إنما هو كخيانة المواطن للدولة الأجنبية في أصل أصولها وصلب شرعيتها، كالمواطن الذي يعمل على إعادة الملكية في دولة نظامها جمهوري، أو محاربة الملكية في نظام ملكي مستقر، أو تكوين -والدعوة إلى تكوين- ميليشيات مسلحة في دولة نظامها قائم على احتكار السلاح بيد السلطة، أو إعادة دولة الكنيسة في دولة تقوم على العلمانية... إلخ!

الإسلام ليس مجرد دين، بل هو نظام، وهو أمر واضح حتى للمستشرقين، يقول هاملتون جِب: "الحق أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس"[4]. ولذلك فإن الخروج عن الإسلام هو خروج على نظام وليس مجرد تغير في الأفكار والقناعات، وإن عدم إدراك هذا الفارق هو ما يوقع في الحرج والاضطراب.

لذلك تعامل الفقهاء مع حالة الردة كتعامل القانونيين والقضاة مع المهددين لنظام الدولة الحديثة، حالة الخروج على المرجعية العليا للمجتمع، وإن كان الأمر لا يزال في حاجة إلى بحوث فقهية لما استجد في هذه المسألة من نوازل معاصرة.

يمكن أن نضرب العديد من الأمثلة، إذ الإسلام ينظم المجتمع على تكتيل أفراده وتقوية المجتمع وتمتين روابطه، فيما تنحو الدولة الحديثة إلى التعامل مع المواطنين أفرادا، ولا شيء يدفع إلى هذا سوى مجمل النصوص الغزيرة التي تعظم أخوة الدين وحقوق المسلم على المسلم، وتعظم صلة الرحم وحقوق ذوي القربى، وتعظم صلة الجوار وحقوق الجيران.

وحيث يخلو نظام الدولة الحديثة (العلمانية) من نصوص مقدسة تمثل بالنسبة لها مبادئ حاكمة لا يمكن خرقها، يمنع الإسلام انتهاج سياسة تعلو فيها النفعية على المبادئ والمصلحة على الأخلاق، بل مفهوم المصلحة في الإسلام هو مفهوم محكوم بالإسلام نفسه، ولذا فهي "مصلحة شرعية" وليست مصلحة مادية مطلقة. ويحتوي الفقه الإسلامي تراثا هائلا في ضبط المصلحة الشرعية والتفريق بينها وبين المصالح الفاسدة.

ومن ألطف ما قيل في مسألة المصلحة قول المستشرق والقانوني الإيطالي دافيد دي سانتلانا في بحثه الممتع "القانون والمجتمع"، فقد أشار إلى جانب التأثير الأخلاقي للشريعة، ومن أمثلة ذلك أنه إذ كانت المطالبة بالحق واجبة؛ لأنها حق أولا، وليس لأنها منفعة شخصية فقط، فإن الجانب الأخلاقي سيُرَشِّد المطالبة بها كذلك، يقول: "ولكنه إذا كان حق المرء هو منفعته الخاصة وواجبه الأدبي معا؛ فإن لذلك الحق حدودا معينة بموجب مبادئ الأخلاق والمصلحة العامة؛ فالصلح والتراضي هما سيدا الأحكام في كل وقت، وأخذ الثأر ممنوع منعا باتا، والتضييق البدني على المدين مخالف للقانون، ولا اعتساف في استعمال الحق تماما؛ إذ ليس لأحد أن يمارس حقا له، بالدرجة التي يسبب للآخر ضررا محققا، وللفقهاء المسلمين في هذا الصدد إحساس دقيق مرهف يفوق ما نتصوره؛ فمثلا: يمنع أن يخول حق الادعاء إلى وكيل هو عدو للطرف الذي أقيمت عليه الدعوى، وممنوع أن يؤجر حيوان لشخص عرف بقسوته على الحيوان..." ثم ختم بالقول: "تلك هي الميزات التي تسم الشريعة الإسلامية في كبد حقيقتها، قد نجرؤ على وضعها في أرفع مكان، وتقليدها أجل مديح علماء القانون وهو الخليق بها... وإننا لو ضربنا صفحا عن كل ما تقدم، فلا شك وأن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور"[5].




[1] محمد قطب، التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 1998م)، ص67.
[3] ذكر هذا المعنى الشيخ فوزي السعيد في شرحه لاسم الله "الكبير"، وأوقفني عليه أخي المهندس/ محمود فتحي.
[4]  هاملتون أ. ر. جب وآخرون، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، (بدون بيانات)، ص9.
[5] دافيد دي سانتيلانا، القانون والمجتمع، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: توماس أرنولد، ترجمة: جرجيس فتح الله، ط2 (بيروت: دار الطليعة، 1972م)، ص437 – 439.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق