كان من منافع إسقاط
الطائرة الروسية إثارة الانتباه إلى الوضع التركي ضمن معادلة القوى العالمية، ولعل
السؤال الأبرز في هذا الموقف كان: أي إلى أحد ينبغي أن تطمئن تركيا لكونها عضوا في
حلف الناتو؟ وأحسب أن الخلاف الحاصل في تقييم الموقف التركي هو في أصله خلاف حول
إجابة هذا السؤال.
إن موقع تركيا الجغرافي
يفرض عليها أن تكون جزءا من خريطة الصراع العالمي، حتى إنه ليُنسَب إلى نابليون
قولا "لو كان العالم دولة واحدة لكانت عاصمتها القسطنطينية"، فإن هي لم
تختر أن تكون قوة عالمية فَرَضَ عليها موقعها أن تكون ملعبا لصراع القوى العالمية،
وما كلمة "جسر بين الشرق والغرب" إلا لفظ مهذب لكونها موقع صراع الشرق
والغرب كما يقول الباحث التركي كِرِم أوكْتِم في كتابه "الأمة الغاضبة".
لقد سوَّق أتاتورك أنه
يريد تجنيب تركيا الصراعات العالمية، وفي الحقيقة فإنه ألقاها في حضن الغرب، ثم لم
يستطع خلفاؤه إلا أن يدخلوا صراحة وعلنا ضمن المعسكر الغربي فتكون تركيا جزءا من
حلف الناتو منذ تأسيسه لتكون خط المواجهة الأول بين الشيوعية والرأسمالية، وهكذا
فرضت الجغرافيا نفسها على السياسة وكانت تركيا من أكبر ساحات الصراعات المخابراتية
في العالم.
يختلف المحللون
حول ما إذا كانت روسيا تعيد تقديم نفسها من جديد كقوة عظمى تندفع للحفاظ على
مصالحها ولو بتسيير الجيوش أو ما إذا كانت مجرد ورقة غربية يلقيها المعسكر
الأمريكي ليزيد بها استنزاف القوى ويطيل بها أمد الصراع حتى يحصد هو الثمرة في
النهاية كما حدث ذلك كثيرا.. وسواء أكان هذا أو ذاك فإن الواقع أن تركيا –بموقعها
الجغرافي- ستكون طرفا في الصراع، وهي من ستدفع الثمن!
عَبْرَ الحقبة
العلمانية في تركيا نشب الصراع بين اتجاهيْن عمليا؛ اتجاه يرى عظمتها في اللحاق
بركب الغرب، واتجاه يرى عظمتها في إحياء هويتها وعمقها الإسلامي، كلا الاتجاهيْن
فشلا على المستوى القريب، فلقد ظلت أوروبا ترفض ضمَّ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي
خصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتعاملت مع هذا الملف بكل صلف عبر مفاوضات استمرت
نحو نصف قرن، وأما الاتجاه الإسلامي فلم يستطع انتزاع سلطة يحقق بها برنامجه فلم
يأت الغد على اجتماع مجلس الدول الصناعية الإسلامية الثمانية الذي أطلقه أربكان
إلا وكان العسكر ينقلبون عليه، وأحسب أن أربكان ولو أتيحت له الفرصة ما كان ليبلغ
شيئا عظيما فإن حكام العرب والمسلمين لا يعملون لمصلحة بلادهم بل لمصلحة الغرب
نفسه.
جاء أردوغان
بسياسة جديدة، نظَّر لها أحمد داود أوغلو، وهي تصفير المشاكل مع الجيران وتعميق
العلاقات الاقتصادية واستعادة العلاقات الثقافية والتاريخية مع الشعوب العربية
والتركية في آسيا والبلقانية في أوروبا، مع الإصرار على الانضمام للاتحاد الأوروبي
وتبني السياسة الغربية في معايير الإدارة. وعشية اشتعال الثورات العربية كانت هذه
السياسة تمضي قدما نحو النجاح، بل صرَّح أردوغان في حلقة لبرنامج بلا حدود (12
يناير 2011م) أن هذه السياسة نجحت، وليس هذا بالأمر السهل إذ أن كل جيران تركيا هم
أعداء تاريخيين لها، إما منذ الدولة العثمانية (كروسيا وجورجيا وأرمينيا وإيران
واليونان وبلغاريا) أو بفعل الحقبة العلمانية (كالعراق وسوريا وبقية الدول العربية
في البحر المتوسط).
لهذا كانت
الثورات العربية اختبارا أخلاقيا كبيرا أمام السياسة التركية، بل مأزقا تاريخيا
هائلا، ولو أن هدف السياسة التركية رعاية مصالحها وما حققته من إنجازات لكان
الأولى لها الانحياز للأنظمة، غير أنها لما انحازت إلى الشعوب انهارت علاقاتها
السياسية بدول المحيط هذه ودخلت في نفق جديد، وليس يخفى أن هذا الاختبار انقسم
بشأنه أعضاء حزب العدالة والتنمية أنفسهم، ففيمَ صار عبد الله جل يشعر بأن تركيا
بحاجة إلى إعادة تقييم لسياستها في الشرق الأوسط يظل أردوغان سائرا في تلك
السياسة.
والآن، بعد خمس
سنوات من الثورات العربية والانقلابات العسكرية والمؤامرات الدولية، صارت تركيا من
جديد وسط محيط معادٍ لها، فثورة سوريا أهاجت عليها إيران والعراق وسوريا وروسيا،
وثورة مصر أهاجت عليها إسرائيل ومصر وقبرص واليونان، وهذا كله بالإضافة إلى النغمة
العثمانية المتصاعدة أهاج الأرمن واليونان، ثم لا يُدرى حتى الآن كيف سينتهي الأمر
مع روسيا، ولا كيف سيتصرف الناتو عمليا وواقعيا فيما إذا وقع اشتباك بين روسيا
وتركيا.
هذا الموقف في
وجه من وجوهه يعبر عن القاعدة المضطردة: انتصار الهوية (الأيدلوجيا) على الاقتصاد.
كسبت تركيا
الشعوب التي صارت تتطلع إلى أردوغان كزعيم إسلامي حتى وإن لم يكن بيده الكثير
ليفعله لهم، لكنها دخلت معركة عظام طاحنة مع أنظمة الجوار ومن ورائهم أنظمة
الطغيان والاستبداد، وما بُنِي من السياسة في وضع السِّلْم –حيث تغيب الأيدلوجيا
ويبرز الاقتصاد- صار مهددا في زمن الثورات والانقلابات والحروب حيث تنتصر الهوية
على الاقتصاد، فما تبالي إيران كم تخسر من مال ورجال ولا يسقط الأسد، ولا تبالي
الإمارات ودول الخليج كم تدفع ولا ينجح الإخوان، ولا يبالي العالم كله كم يموت من
السوريين ولا كم يتدمر ولا يأتي "المتطرفون".. ولذلك تصاعد السؤال
الفاصل الكبير: هل تنظر أوروبا إلى تركيا حقا كجزء منها ينبغي الحفاظ عليه أم
تنتصر الهوية الأوروبية (التي تنفر من الأتراك) على المصالح لتلقي بها في أتون
معركة مع الروس؟!!
يقول المؤرخ
المشهور كريستوفر داوسون في كتابه "حركة تاريخ العالم" بأن الحضارات
الكبرى عبر التاريخ إنما تأسست على الديانات الكبرى. وهو بقوله هذا يؤكد قاعدة
انتصار الهوية على ما سواها من التصنيفات. وإن أضخم ما تعانيه الأمة –وتركيا في
هذه اللحظة- أنها لم تعد امبراطورية في عالم الامبراطوريات، بل صارت ممزقة
متناثرة، أقوى جزء منها مساحة صغيرة اكتفى بها أتاتورك، أو بالأحرى تُرِكت له،
وسماها "تركيا".
فلئن وقر هذا لدى
صانع القرار التركي، فأحسب أنه لا يملك بديلا سوى دعم الثورات العربية ما استطاع
إلى ذلك سبيلا، وأهمها قاطبة: الثورة المصرية، فإن تهدد نظام العسكر في مصر يفكُّ
طوقا حديديا ضخما يقيد كل الشمال الإفريقي بل ويعزز قيدا يلقي بثقله على الشام
ويفصم الحلف بين العسكر وإسرائيل وقبرص واليونان على مياه وغاز البحر المتوسط، وأقل
فوائده أنه يخفف الضغط عن تركيا ويعيد فتح مساحات حركة في منطقة قد زادت ارتباكا.
إن الشعوب هي
حاملة الهوية ووقودها وجيوشها، ولكن الشعوب وحدها أضعف من أن تغير معادلة القوى في
زماننا هذا، ويبقى القرار أمام نظام لا يملك أوراق قوة لبقائه حضاريا سوى هذه
الشعوب، لا سيما إن كان هذا النظام قد سار شوطا في الطريق، وصارت العودة عنه ذات
ثمن فادح؛ أهونه: الثمن الأخلاقي، وأفدحه: ثمن الانهيار الحضاري وسقوط التجربة
كلها.
المعارك الحضارية
تستلزم قرارات في غاية الخطورة وفي غاية الصعوبة، ولكن على قدر المغارم تكون
المغانم، ومثلما قال المتنبي:
على قدر أهل
العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين
الصغير صغارها .. وتصغير في عين العظيم العظائم
نشر في تركيا بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق