لم تكن نكبة المسلمين العسكرية أمام أوروبا هي النكبة الوحيدة، بل صحبتها نكبة ثقافية ناتجة عن تناقض كامل بين النموذجين الإسلامي والغربي،
فلم يكن ممكنا فرض النموذج الغربي على العالم الإسلامي إلا في ظل حراب الاستعمار.
لقد كان الخلاف الذي بين
الشرق والغرب مثيرًا للتأمل، ومن خلال الاحتكاك بين الطرفين في الأندلس وصقلية
والشام ومصر -أيام الحروب الصليبية- استوعب الطرفان كثيرًا من أوجه الخلاف بينهما،
لكن اليد الحضارية العليا كانت للمسلمين، بينما جاءت أيام الاحتلال والاستبداد
لينقلب الحال، وقديمًا بدأ المصلحون عندهم يقتبسون من أفكارنا وأنظمتنا وعقائدنا؛
لكنهم وُوجهوا بالكنيسة والاستبداد، حتى إذا تخلصوا من ذلك وبدأت نهضتهم كان نقلهم
لما لدينا أسهل وأيسر وأسرع.
ومما ينبغي أن يُلاحظ في
هذا الاقتباس أمران؛ الأول: أن ثمة اقتباسات اجتماعية حضارية طويلة بطيئة سارت عبر
الزمن سيرًا بطيئًا؛ لطبيعة ما بين الطرفين من خلافات، وهي أمور لا يمكن نسبتها
لأحد بعينه ولا لحادثة بعينها، والثاني: هي الاقتباسات الواعية التي قام بها
مفكرون وفلاسفة ومصلحون، وهؤلاء –كعادة كل معتز بدينه وهويته- كان حريصًا على
اقتباس العلم والفكرة دون جذورها العقدية الدينية، بل كان أكثرهم اقتباسًا لما لدى
المسلمين هم أكثرهم هجومًا على المسلمين ودينهم ونبيهم[1].
وأهم ما يسعنا الكلام عنه
في سياق الاقتباس الغربي من العالم الإسلامي ثلاثة أمور هي: التحرر من سلطتي
الكنيسة والإقطاع، تقوية المجتمع، تكوين "أمة واحدة"، فنجعل هذه السطور
القادمة لإلقاء الضوء على "التحرر من سلطتي الكنيسة والإقطاع"، ثم نترك
الآخريْن لمقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
على الرغم من أن المسيحية
لا تحتوي نُظمًا سياسية واجتماعية –اللهم إلا الزواج والأحكام الشخصية الضيقة
جدًّا- فإن تطور المسيحية في الغرب كان ناحيًا إلى السيطرة على المؤسسات الدنيوية،
وفيما كانت بداية المسيحيين انعزالية عن السلطة والدولة؛ نابعة من العبارة الشهيرة
"دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فإن الكنيسة سعت تدريجيًّا لتكون فوق
السلطة وفوق الإمبراطور، وبلغت ذروة هذا في الثورة البابوية التي قادها البابا
جريجوري السابع في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، وبلغ انتصاره فيها
حد أن اضطر الإمبراطور الألماني هنري الرابع إلى أن يتقدم إلى البابا (1077م)
حافيًا لابسًا الصوف في البرد الرهيب ليقف على باب قلعة كانوسا –حيث البابا- يطلب
الغفران، ويعلن التوبة لثلاث ليال حتى عفا عنه البابا[2].
وبالإضافة إلى هذه السلطة
الروحية القاهرة للكنيسة، فقد كانت لها أملاك وأراضٍ تمثل إقطاعيات كبيرة، وكان
على الأجراء والفلاحين أن يعملوا يومًا في الأسبوع في أملاك الكنيسة بلا أجر، وكان
لها –بعد هذا- فرق عسكرية تطورت أحيانًا إلى جيوش كبيرة لا تتبع إلا البابا؛ تدافع
عن أملاك الكنيسة أو تضم إليها أملاكًا جديدة؛ وبهذا كانت الكنيسة سلطة أخرى بجوار
سلطة الأباطرة، فهي تملك السلطة الروحية منفردة وتشارك في السلطة الدنيوية[3].
ولم تقصر الكنيسة في
استعمال سلطتها متى أرادت واستطاعت، فقد أعلنتها حربًا شعواء على أي اكتشاف علمي
أو نظرية قد تخالف الكتاب المقدس، وأباحت لنفسها التفتيش في ضمائر الناس ومعاقبة
من لم تره مخلصًا للمسيحية، فاندلع في أوروبا عصر النزاع بين العلم والكنيسة،
فكانت سنوات الدماء والمحارق.
وبينما كانت الكنيسة هي
السلطة الروحية، فقد كان الملوك والنبلاء هم السلطة الواقعية، حيث تنقسم الأرض في
أوروبا إلى إقطاعيات، يملك كل إقطاعية منها نبيل من النبلاء، وهو يمتلك من عليها
من العمال والفلاحين، الذين يعملون في الخدمة ثم يدفعون له الضريبة، التي تستنزف
معظم دخلهم؛ مقابل الحماية التي يوفرها السادة الإقطاعيون لهم، وكان هذا النظام
فلسفة ضاربة بجذورها إلى أرسطو، وتحظى برضا المسيحية كذلك، فقد "كان القديس
توماس أكويناس يفسر الاسترقاق بأنه نتيجة لخطيئة آدم، وأنه وسيلة اقتصادية في عالم
يجب أن يكدح فيه بعض الناس ليمكنوا بعضهم الآخر من الدفاع عنهم"[4]، وكان رقيق الأرض محكومين بقوانين وقواعد متوحشة، فالمُسْتَرَقّ
يؤدي ضرائب قاسية، ويعمل في أملاك المالك بلا أجر، وهو ملزم أن يطحن خبزه أو يعصر
عنبه في مطاحن ومصانع المالك مقابل أجر يدفعه، ويدفع أجرًا إذا أراد أن يصيد سمكًا
أو حيوانًا بريًّا أو رعى ماشية، ويرفع قضاياه أمام محاكم المالك، ويلبي طلبه إن
أراده جنديًّا، ويساهم في افتدائه إن أُسِر ويقدم هدية لابنه إن بلغ سن الفرسان،
ويدفع الضرائب عن بيع محاصيله، وهو لا يبيع المحاصيل إلا بعد نزول محاصيل المالك
في الأسواق بأسبوعين على الأقل، وعليه أن يؤدي غرامة عن ابنه إذا تعلم -لأن هذه
خسارة يد عاملة بالنسبة للمالك- وكذلك إذا تزوج ابنه أو ابنته من خارج ضيعة
المالك، وكان لبعض الملاك في بعض الأماكن "حق الليلة الأولى"؛ وهو حق
المبيت مع العروس أول ليلة، والمقام لا يتسع لاستقصاء المزيد، ولكن نختم بأنه إذا
بيعت الأرض وانتقلت الملكية إلى نبيل آخر فهي تُباع بما ومن عليها من الفلاحين،
وإذا مات رقيق الأرض فلا تنتقل أرضه إلى أبنائه إلا بموافقة السيد، ويجوز للسيد
بيعه أو تأجير خدماته، وكان في وسع هذا الرقيق في فرنسا أن يحل العقد الإقطاعي إذا
أسلم الأرض وكل ما يملك إلى سيده، أما في إنجلترا فقد حرم حتى من "حق مغادرة
الأرض" هذا، وكان إذا هرب قُبِض عليه وأعيد[5].
لقد كان العالم الإسلامي
يمثل النموذج المشرق لهذا السواد الحالك، فهناك لا وساطة بين العبد وربه، ولا
اعتراف لكهان أو علماء، ولا يملك أحد بيع صكوك الغفران أو إصدار قرارات الحرمان،
ونظام الإقطاع في أسوأ درجاته في العالم الإسلامي كان يمثل حلمًا وأملاً عظيمًا
بالنسبة للأوروبي، ولا وجود لطبقة نبلاء في عالم الإسلام، بل إن العبيد المماليك
صاروا أمراء وسلاطين، وكان منهم الأسود والأبيض والأحمر والأصفر، العربي والفارسي
والتركي والديلمي والكردي والنوبي والحبشي والشركسي والتتري والأمازيغي، وأبناء
المولدين من العرب وسائر الأجناس.
وما زال يتفاعل الظلم
الداخلي في أوروبا، ويتعرفون على عالم الإسلام عبر سنين الاحتكاك والاستعمار، حتى
ثارت الشعوب الأوروبية فحطمت سلطتي الكنيسة والإقطاع، وقالت بالشعار المشهور:
"اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، وبدأت رحلتها في التحرر وتأسيس
الجمهوريات.
كان لهذا التحرر آثار
كثيرة فارقة، لكن الذي يهمنا في موضوع البحث، هو أثر انطلاق المجتمع الغربي من
قيوده، ومساهمة أفراده ومجموعاته في صنع الحضارة بغير تقييد ولا تعطيل، يحدوهم
شعور أن البلاد صارت لهم، وأن خيرها عائد عليهم لا على طبقة من النبلاء أو
القساوسة، ولهذا كانت المسئولية الاجتماعية للناس في صعود وازدهار.
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق