ذكرنا في المقال الماضي أن من لوازم فهم الغرب محاولة استكناه الكليات
الجامعة للجزئيات، وسبر أغوار التفاصيل وصولا للقواعد الكلية التي تفسرها معا،
وضربنا لذلك أمثلة من كلام بعض كبار المفكرين.
ولو سمحت لنفسي أن أقول في هذا الموطن قولا، فإن
الملاحظة التي تشيع في الكتابات الغربية والمتغربة هي ذلك الغرام بالتفريق بين ما
يمكن الجمع بينهما، أو لنقل التطرف في التفريق وإثبات التناقض، وضيق الذهن عن قبول
فكرة تبدو جامعة، فأفلاطون -مثلا- أراد أن يكون الولاء للوطن فحمله ذلك على محاربة
الولاء للأسرة فنادى بشيوع النساء والأولاد كي لا ينشأ ولاء للأسرة الصغيرة يهدد
الولاء للوطن، رغم أنه يمكن الجمع بين الولاء للأسرة الصغيرة والولاء للوطن وليس
حتميا -بل ولا راجحا- أن يثور تناقض بين الولاء. ويتكرر هذا المظهر في الحرب بين
المسيحية والعلم حتى صار التناقض ظاهرا بين كل ما هو علم وكل ما هو دين، حتى ولو كان
العلم ما زال فرضية لم يبلغ الحقيقة العلمية وحتى لو كان الدين ليس مناقضا للعلم[1]. وقد حكى
الطهطاوي كيف أصر الفرنسيون في ثورة (1830م) على أن يصرح الملك فيليب الأول أنه
تولى العرش بإرادة الشعب وأن يمتنع تماما عن قول "بفضل الله"، لأنهم
اعتبروا أن فضل الله وإرادة الشعب نقيضان فالأولى منهم تعني الحق الإلهي واختصاصه
بالحكم، ومن هنا أصروا على أن يكون لقبه ملك الفرنسيين لا ملك فرنسا هروبا من معنى
امتلاكه للأرض والشعب، وفي هذا الموقف قال الطهطاوي كلمة تعبر عن الفارق بين
الحضارتين: "فلو كان عندنا لاستوت العباراتان! فإن كون الملك ملكا باختيار
رعيته له لا ينافي كون هذا صدر من الله تعالى على سبيل التفضل والإحسان، ولا فرق
عندنا مثلا بين ملك العجم وملك أرض العجم"[2].
ومثل ذلك ما يبدو في الكتابات –حتى العربية المتغربة- من شعور بالتناقض لدى تحليل
كتابات الرواد الأوائل مثل الطهطاوي وخير الدين التونسي وأمثالهما، إذ تبدو
محاولات هؤلاء للجمع بين الأصول الإسلامية والاستفادة من الحضارة الغربية مثيرة
للارتباك لدى هؤلاء المحللين، فيفسرون هذا برواسب أو "قيود الفكر التقليدي
الموروث" أو عدم فهم لحقيقة النهضة الغربية، فلا يقبلون إمكانية الجمع بين
الأمرين[3]،
والمتغربون أوضح الأمثلة على هذا المعنى.
ونحن حين نطالع الكتب الغربية التي تحلل الغرب،
ينبغي أن نميز بين ثلاث فئات منها:
الأولى: هي الكتب والدراسات العامة التي تناقش
طبيعة الغرب وروحه وحضارته وخصائصه، وقد ذهب المؤلفون مذاهب شتى في المدح والقدح،
والثناء والهجاء، ولكن محصلة هذه الكتب تفضي إلى مادة ثرية تفيدنا من وجهين؛
الأول: هو التعرف على الأصول والثوابت والكليات التي يعتنقها الغرب كما يراها
بنفسه، والثاني: هو التعرف على ما يناقشونه من هذه الأصول والثوابت (ويرون أن
مناقشته ونقده وتجاوزه أمر مطلوب ومرغوب) وما هو بمثابة المقدس الذي لا يُمسّ ولا
يُناقش (ويرون أن التمسك به والازدياد منه هو المطلوب والمرغوب).
والثانية: هي الكتب المتخصصة في بعض العلوم،
ولكنها لم تكتف بالوصف بل قامت بدور التحليل والتشريح واستخلاص الثوابت والأصول
والكليات من أجزاء هذه العلوم.
والثالثة: هي الكتب التي تناقش مشكلات الغرب على
وجه التحديد، وهذه الفئة تُعَدُّ عظيمة الفائدة من وجهين؛ الأول: هو التعرف على
هذه المشكلات وحجمها، والثاني: هو تحليل الطرق الغربية في معالجتها.
وإذا أردنا أن نضرب مثالا على هذه الفئات
الثلاث، نقول:
1. يُعَدُّ كتاب "انتحار الغرب" مثالا
على محاولة تحليل الروح الغربية وطبيعتها، ويرى المؤلفان –ريتشارد كوك وكريس سميث-
أن روح الغرب تقوم على ستة أعمدة: المسيحية، التفاؤل، العلم، النمو، الليبرالية،
الفردية. ويدور الكتاب حول كيف تتعرض هذه الأسس الأصيلة للتآكل والانهيار في الوقت
المعاصر، ولكنها تمتلك من المرونة ما قد تتمكن به من إعادة بناء نفسها، فهو يمزج
بين النظرة المتخوفة مع الأمل والتفاؤل والقدرة على استيعاب المتغيرات والاستجابة
الصحية لها.
2. كذلك يُعَدُّ كتاب "أفضل ديمقراطية
يستطيع المال شراءها" من أفضل الكتب التي اطلعت عليها في مجال استخلاص
الخلاصة من تفاصيل كثيرة ومتنوعة، وإن تكن الخلاصة نفسها مبذولة في كثير من
الدراسات التي كتبها نُقَّاد الرأسمالية مثل نورينا هيرتس في كتابها "السيطرة
الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية"، كذلك كافة ما كُتِب عن هيمنة
الشركات الكبرى عابرة القارات والتي تمثل الآن قوميات جديدة بما صار لها من ولاء
عابر للحدود. وهذه الدراسات تكشف كيف أن الديمقراطية في صيغتها الغربية تحت ظل
الرأسمالية ليست أكثر من "ملكية جديدة" تمارس استبدادا
"ناعما"، وهو ما يصعب أن يفهمه كثير من أهل بلادنا الذين يعانون الملكية
الصريحة والاستبداد الخشن.
3. ومن أبرز الكتب التي تناقش مشكلات الغرب كتاب
"موت الغرب: أثر شيخوخة السكان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب"،
ويأخذ هذا الكتاب قيمته من كونه واحدا من أوسع الكتب مبيعا، كما أن مؤلفه باتريك
بوكانان كان مستشارًا لثلاثة رؤساء أمريكيين، وكاد يكون مرشحا للحزب الجمهوري
مرتين في الأعوام (1992، 1996م) ثم ترشح للرئاسة عن حزب "الإصلاح" عام (2000م).
وفي هذا الكتاب لوعة وحسرة ونقاش متوتر للمشكلات التي تهدد الحضارة الغربية، والتي
تنحصر في شيخوخة السكان وقلة عددهم في مقابل تكاثر غير الغربيين وهجراتهم
المتزايدة إلى الغرب، وكيف أن شيخوخة السكان راجعة إلى الثقافة
"المسمومة" والأفكار "المسرطنة" التي تبيح -تحت عنوان الحرية-
الإجهاض واللواط والعزوف عن الزواج والإنجاب وتحارب المسيحية.
ومما يجعل الكتاب ذا أهمية خاصة كونه صادرا عن
غربي، ومسؤول، ومن قادة الحزب الجمهوري المعبر عن الجانب المتشدد في السياسة، وأنه
موجه بالأساس إلى الغرب، وأنه وجد صدى بينهم. فكل ذلك يفضي إلى قراءته باهتمام ثم
تحليل منطلقاته في علاج ما طرحه من مشكلات.
ومن المهم التنبيه عليه في هذا السياق أن مسألة البحث عن
الأصول والكليات والثوابت لا تتعلق بالمدح أو الذم للحضارة الغربية بقدر ما تتعلق
بالفهم، فإبصار ما تميزوا فيه وفهمه ضروري ومهم بذات قدر إبصار ما انحرفوا فيه
وفهمه أيضا.
نشر في الخليج أون لاين
[1] وهذا يفسر
كيف راجت في الغرب نظرية دارون أكثر بكثير من إثباتات مندل، فنظرية دارون تذهب إلى
نفي الإله ومنح المخلوقات القدرة الذاتية على التطور، بينما تجارب مندل -التي لا
تثبت أكثر من القدرة على تحسين النوع الواحد بتدخلات خارجية- لا تخدم هذا التناقض
بين العلم والدين.
[3] انظر مثلا: ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة ص108، د. نازك سابا
يارد: الرحالون العرب وحضارة الغرب ص32، 33.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق