لم يكن الاحتلال مجرد تفوق
عسكري، بل سعى المحتلون إلى زراعة ثقافتهم ونظمهم وقيمهم وأفكارهم وفلسفتهم في
الشعوب المُحْتَلَّة، واهتموا بصناعة النخب، التي تتشرب روحهم وتمكينهم من مواطن
الحكم والتأثير، ثم سلموا إليهم تلك البلاد قبل أن يرحلوا منها، فواصل هؤلاء مسيرة
أولئك!
وأهم ما يعنينا في هذا
الموضوع هو رصد الفوارق بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي والعلماني؛ لكي نرى
بعدها كيف أن الغرب والشرق كالزيت والماء لا يختلطان إلا قَسْرًا وبعمليات كيمائية
قاهرة، فهما يحملان من التاريخ والثقافة والنظم وطبائع البشر ما يجعلهما متناقضان،
فما كان بالإمكان فرض النموذج الغربي إلا بتحطيم النظام الإسلامي.
وبطبيعة الحال فليس
بالإمكان تتبع كل الفوارق المؤثرة في هذا المقام؛ لذا اقتصر حديثنا على أهم هذه
الفوارق؛ لا سيما ما كان منها مؤثر في سياق حديثنا هذا.
(1)
الحضارة
والدين
يمثل هذا أهم الفوارق
قاطبة؛ ذلك أن العرب كانوا قومًا بلا حضارة ولا فلسفة ولا دولة حتى نزل عليهم
الإسلام، فأنشأهم خلقًا آخر؛ فجعلهم ذوي تصور ورؤية ودولة وحضارة، وكل هذا مستمد
منه، بينما جذور الغرب الحضارية امتداد للفلسفة اليونانية، وما تعرضت له من تعديل
وتبديل على مر العصور، فلما اعتنق قسطنطين المسيحية لم يكن للدين كبير أثر في
تعديل شكل الحياة؛ بل تأثرت المسيحية بما هو موجود([1]).
هذا الفارق له آثاره
الهائلة على كل السياق التاريخي والحضاري للشرق والغرب، فالدين أساس رئيسي في نهضة
الشرق وانبعاثه وحضارته، بينما لم يكن الأمر كذلك في الغرب.
(2)
الصلات
الاجتماعية
تُحَدِّد طبيعة الصلات
الاجتماعية شكل المجتمع وفكره وميوله، ومن ثم شكل الدولة ونظامها وسياستها.
ففي صلات الأقارب والأرحام سنجد أن النظرة الأوروبية
تميل إلى العائلة الصغيرة على حساب العائلة الكبيرة أو العشيرة، وعلى خلاف القرآن
فإن الكتاب المقدس أميل إلى الفرد والأسرة الصغيرة والخلاص الفردي، وعبر التاريخ
كان الغربيون أميل إلى الزواج المتأخر وإنجاب أطفال أقل؛ إذ كان الطلاق مستحيلاً
عمليًّا، وكان زواج الأقارب المقربين ممنوعًا؛ فعمل كل ذلك على منع تكوُّن
العائلات الكبيرة أو العشائر، وبعضُ الغربيين([2]) يرى أن الكنيسة أرادت ذلك؛ لأن هذا يسهل لها الاستيلاء
على الملكيات، التي لن تظل بيد عائلات كبيرة، كما أن عزوبية الكهنة تحظى برسوخ
وقداسة في أوروبا أكثر منها في أي مكان آخر.. لهذا وغيره كانت أوروبا أميل إلى
الأسر الصغيرة، واختفت فيها القبائل والعشائر منذ القرن الحادي عشر([3]).
وفي العلاقات بين الطبقات
الاجتماعية سنجد أن العلاقة الأهم في أوروبا هي "الإقطاع" الذي أنتج
علاقة السيد – الخادم، وكان المجتمع الغربي عبارة عن سلسلة من أناس يخضعون لبعضهم
من أول الملك، الذي كان يخدمه طبقة من النبلاء، والذين هم أسياد لرجال أقل منهم في
الرتبة، وهكذا حتى الوصول إلى الفلاح البسيط الذي يزرع الأرض، وجدير بالذكر أن
الإقطاع كان وراثيًّا، فكانت علاقة السيد والخادم قابلة للتجديد عند موت أحدهما،
وهو ما انطبق على كل العلاقات: الحاكم والمواطن، الراعي والزبون، صاحب العمل
والأجير، الضابط والجندي.. وهكذا، وهذا خلاف رئيسي مع العلاقات الاجتماعية في
الإسلام؛ إذ لا يملك أحد أحدًا، ولا يملك أن يورثه ويُعاد توزيع الأرض إن مات
صاحبها أو نزعت منه، ولم يكن لأصحاب الأملاك تأثير في الحرب والسياسة مثلما كان في
أوروبا([4]).
ولهذا كان المجتمع الغربي
مُوَلِّدًا لـ "رابطة الدولة"، باعتبارها الرابطة الأهم وتقريبًا
الوحيدة، فالأفراد –وهم الوحدات الاجتماعية- يلتقون عند "المصلحة المشتركة"،
ويلتزمون بقانون وبعلاقات اجتماعية وُجِدت لتحقيق هذه المصلحة، وكل العلاقات قابلة
للتغير والتكيف تبعًا لتقدير المصلحة المشتركة، وذلك على العكس من المجتمع الذي
تشده الروابط العائلية والقبلية والعشائرية، وتكون صلاته مبنية على ما لا يمكن أن
يتغير –الدم والعرق والنسب- وعلى قيم موروثة متأصلة ذات نزعة أخلاقية هي أهم وآكد
وأرسخ من مجرد "المصلحة المشتركة" بين مواطنين في دولة.
(3)
التصور
السياسي
كان للجغرافيا حكمها في
تشكيل الحضارة الغربية، تلك الحضارة التي تمتد جذورها الأولى إلى اليونان؛ فلقد
مثلت فلسفة اليونان الأساس الراسخ للحضارة الغربية في سائر عصورها حتى الآن، فحتى
روما عندما صارت الأقوى عسكريًّا كانت الأضعف حضاريًّا فأسرتها فلسفة اليونان،
وحين تَنَصَّر قسطنطين فإن "النصارى ترومت ولم تتنصر الروم"([5])، وفلاسفة الغرب ومنظروه يبدءون تاريخهم من اليونان ويعتزون
به، ويعترفون بأنه الأساس الأول لحضارتهم([6]).
خريطة اليونان وتظهر فيها طبيعته الجبلية الخشنة
إن "اليونان الأصلية بلد خشن في مظهره وفي
مناخه؛ إذ توجد سلاسل من الجبال القاحلة تقسم الأرض مما يجعل الانتقال البري من
واد إلى واد أمرًا عسيرًا.. ومن ثم فقد نمت في السهول الخصبة مجتمعات محلية
منفصلة، وحين كانت الأرض تعجز عن إعاشة الجميع، كان البعض منهم يشد عصا الترحال
إلى عبر البحر لإنشاء مستوطنات، وهكذا تناثرت المدن اليونانية على سواحل صقلية
وجنوب إيطاليا والبحر الأسود منذ القرن الثامن ق. م"([7]).
وكان الأثر المباشر
لهذه الجغرافيا أن تأصلت فكرة "الوطنية" في النفسية اليونانية؛ حتى تحولت إلى "عنصرية" تنفر من
الأجانب وتحتقرهم، ولا ترى بأسًا في
قهرهم([8])، وكانت الشعوب المقهورة ملزمة بتموين
"المواطنين" اليونان([9]).
وإذا كانت الفلسفة اليونانية
هي جذور الحضارة الغربية، فإن عنصر "الوطنية" هذا صار من "لوازم
الطبيعة الأوروبية" التي لا تختلف كثيرًا عن جغرافيا اليونان؛ إذ
"التنازع على البقاء فيها شديد، والكفاح للحياة دائم مستمر لتزاحم العمران
وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة، وقد حصرت الجبال والأنهار والأجناس الأوروبية في
نطاقٍ طبعيٍ دائمٍ، وبالأخص الجزء الأوسط الغربي والجزء الجنوبي؛ ولذلك كان التصور
السياسي في أوروبا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال
مستقلة استقلالاً تامًّا"؛ بينما "المناطق الطبيعية في آسيا [وإفريقيا]
واسعة جدًّا، وتشتمل على مناخات وعلى أجيال وأنواع كثيرة للبشر؛ فالمملكة في آسيا
تجنح بحكم الطبيعة إلى السعة والعموم"([10]).
خريطة أوروبا الطبيعية ويظهر انتشار الجبال لا سيما في المناطق الوسطى والجنوبية
ولذلك فبينما "كان
مجتمع اللغة والدين، والشعور التاريخي المشترك والوعي العام لدى المواطنين
والغرباء في العالم الإسلامي متوجهًا كله إلى الأمة، كان هذا موجهًا في أوروبا نحو
القوميات، ولا يزال هذا إحدى السمات المميزة للثقافة السياسية الأوروبية"([11]).
***
وحيث لا اتفاق في أسس
الحضارة ومنبعها، ولا في صورة العلاقات الاجتماعية التي تحدد طبيعة النظم والثقافة
والسلوك، ولا في التصور السياسي –الداخلي أو الخارجي- النابع من طبيعة مجتمعاتهم
وجغرافية بلدانهم؛ حيث كان هذا فإننا إزاء اختلاف هائل، سنعرض له إن شاء الله
تعالى في المقالات القادمة.
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق