الاثنين، نوفمبر 28، 2011

ميدان هادر وبرلمان ثائر!

كالعادة، فاجأت الشعوب تخبتها وقيادتها ودعاتها وعلماءها، وأثبتت لهم أنها أفضل مما يتوقعون.. وكالعادة أيضا ثبت للنخبة الفاشلة المفروضة إعلاميا أنهم منفصلون عن الشعب وأن تأثيرهم مجهري ضئيل فالشعب واجه دعوتهم لمقاطعة الانتخابات بإهمال تام!

أما النخبة المفروضة إعلاميا فلن تفهم ولا أرى محاولة إصلاحها إلا تضييعا للوقت والجهد، فهي بالأساس إما تنطق بلسان صاحب التمويل أو ارتضت أن تبتعد عن نبض الناس ثم اكتسبت كبرا وعجرفة وصدَّقَتْ أنها نخبة فصارت ترى نفسها معصومة لا تخطئ.. وأما العلماء والدعاة وأشباههم فما زلنا نرجو أن تتغير نظرتهم للشعوب، للأمة التي وصفها ربها بأنها خير أمة أخرجت للناس، ما زلنا نرجو أن يعلموا أن سنوات الاستبداد قد صنعت لديهم صورة شائهة قاسية مظلمة، فالاستبداد بطبيعته يخرج أسوأ ما في الناس من أخلاق، ولله در الرائع الكبير الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الذي شرح هذا خير شرح في رائعته الخالدة "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"..

***

الثورة المصرية في أزمة، أو هما أكثر من أزمة في الحقيقة؛ الأولى: أنها ثورة بلا رأس ولا قائد، صحيح أن هذا حماها من الإجهاض، لكن في المقابل لم يستطع أحد تطويرها وتصعيدها والاستناد إلى القوة الشعبية في الوصول إلى أهدافها. والثانية: وهي مترتبة على الأولى، إذ سارعت الأطراف المختلفة تحاول سرقتها، فالمجلس العسكري –ومن ورائه الخارج- يحاول إجهاضها والتخلص منها بأقل الخسائر، والقوى المتضخمة إعلاميا تريد سرقتها ونسبتها إلى نفسها والمتاجرة بها (يسري فودة الذي وصف شفيق وعمر سليمان بأنهما من أفضل رجالات مصر يمارس دعارة إعلامية يومية لحساب الليبراليين المجهريين، ويمارسها في قناة ساويرس الذي كان من محاولات إطفاء الثورة ومن رجال المخلوع ومعارضي تنحيه.. هذا مجرد مثال)..

كل الناس يتكلمون الآن باسم الثورة، حتى أركان النظام المخلوع، حتى من عارضها وهاجمها وشوهها، كل التيارات تتحدث عن الثورة، المخلصون والطيبون والمتمولون والأشرار.. حتى أمريكا تعلن عن سعادتها بالثورة وجاءت وزيرة خارجيتها تمشي في ميدان التحرير!!

ولذا، وفي هذه الأجواء تحديدا، تصير الانتخابات أفضل شيء لهذه الثورة، ليس فقط على مستوى الشرعية الشعبية، بل على مستوى الحديث باسم الثورة، بعد الانتخابات "النزيهة" يستطيع ممثلوا البرلمان وحدهم أن يقولوا "الشعب يريد.."، وهم يستندون بالفعل إلى قاعدة شعبية لا يمكن تجاهلها!

لا بد من الانتخابات لنعرف لمن يعطي هذا الشعب قياده ويرضى باختياره، هذا الشعب الذي ثار والذي ظل تسعة أشهر يرى الكل يتحدث بالنيابة عنه هو أحوج ما يكون إلى اختيار ممثليه، فإن اختارهم على مستوى اللحظة فبها ونعمت، وإن لم يكونوا كذلك فقد دفع ضريبة اختياره الخاطئ.

إن صورة العجائز والمرضى والمقعدين الذين ذهبوا للتصويت، وصور من وقفوا في الأمطار وغطوا رؤوسهم للوقاية من المطر انتظارا للتصويت، ومن وقفوا ملتصقين بالحائط لأن الشارع تغرقه المياه انتظارا للتصويت.. هذه الصورة يجب أن تصحح نظرة البعض لمن أسموهم "حزب الكنبة"!.. فهاهو "حزب الكنبة" قد غادرها ليقول رأيه!

***

وعلى الجانب الآخر يجب أن نذكر الصورة المقابلة، هذا من الإنصاف الذي أُمِرْنا به..

لم يسقط حكم مستبد أبدا عن طريق الانتخابات! يجب أن نفهم ونعتبر بهذا، فالحقيقة هي أن: الانتخابات وحدها لا تكفي!

وهذه الانتخابات التي تعيشها مصر الآن هي الأوضح في إثبات هذا، فهي بالأساس لم تأت إلا بثورة، ثورة ضاعت فيها أرواح ودماء وأعضاء، وخرج منها شباب وقد فقدوا عيونهم وأيديهم وأرجلهم، هؤلاء هم من أوصلوا البلاد إلى هذه النقطة، ولن نستطيع أن نجازيهم فثوابهم محفوظ عند الله تبارك وتعالى.

كذلك فإن الانتخابات التي تتم في أجواء ثورة غير التي تتم في أجواء تغول السلطة.. فالأولى يُعْمَل لها حساب والأخرى تُزَوَّر رغما عن الأنوف، فالميدان صاحب الفضل على البرلمان دون شك، لا سيما في هذه الهبة الثورية التي انطلقت في 18 نوفمبر قُبَيْل الانتخابات.. فإن يقظة الشعب وعافيته هي الضمان الوحيد لحراسة الانتخابات.

***

الخلاصة أن الميدان يحتاج إلى البرلمان، والبرلمان يحتاج إلى الميدان، والمعادلة لا ينبغي أن تضعهما متعاكسين، بل الميدان لا يُغني عن البرلمان ولا البرلمان يُغني عن الميدان.. المعادلة المطلوبة ينبغي أن تكون لمصلحة "البرلمان الثائر".. لنقل إن الميدان صانع الألعاب والبرلمان هو من يحرز الأهداف.

***

من كثرة ما سُرقِت الثورات في تاريخنا أصبحنا نحفظ طرقا كثيرة لسرقة الثورات، لذلك لن نطمئن إلى نجاح الثورة إلا حين نرى بأنفسنا أن السيادة يملكها من اخترناه على الحقيقة.. إن ثمة نماذج كثيرة في عالمنا العربي والإسلامي لديها الديمقراطية الشكلية، بينما السيادة الحقيقية في غير يد الشعب؛ خذ لديك: الكويت والأردن والمغرب والجزائر وباكستان وغيرها، حيث تكمن السلطات والسيادة الحقيقية في يد الملك أو العسكر، ويمارس المجتمع ديمقراطية شكلية لتحسين ظروف المعيشة (التي لا تتحسن بالمناسبة) فيم يظل القرار الوطني مرهونا بإرادة الخارج.

لذا فأمامنا مسيرة طويلة للاطمئنان على ثورة مصر، وكافة ثورات الربيع العربي عموما، المسيرة تبدأ من تزوير الانتخابات (انتخابات المرحلة الأولى ليست معيارا، فلقد أجرى حسني مبارك انتخابات نزيهة في المرحلة الأولى ثم انقلب عليها في الثانية والثالثة) وتنتهي بالعلاقة بين السلطة المدنية المنتخبة وبين المؤسسة العسكرية التي تملك قوة السلاح والمتمتعة بامتيازات سيادية واقتصادية كبرى ( وكم من انتخابات وديمقراطيات انقلب عليها العسكر وعادت البلاد إلى الاستبداد مرة أخرى، وهل تاريخ العرب الحديث إلا تاريخ انقلابات عسكرية؟!)..

لا نتشاءم، ولكن يجب أن ننتبه ونتيقظ ونحذر، وفي النهاية، فحتى لو استقرت البلاد كما نريد فأمامنا معركة البناء والنهضة ومواجهة الخارج وعملاءه في الداخل.. إن خلاصة الدنيا كلها في قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وهو ما فقهه الإمام أحمد بن حنبل –الذي عاش في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وفي بغداد عاصمة الدنيا وسيدة البلاد ذلك الوقت- حين سُئِل: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة!

اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك..

الأحد، نوفمبر 27، 2011

درس من التاريخ لثوار الربيع العربي (2-2)

لابد للثورة من عقل وقدرة، فالعقل يستعمل القدرة في إنجاح الثورة، والقدرة تحمي العقل وتُبلِّغه أهدافه، بغير اجتماع القدرة والعقل تفشل الثورة، فإما أن تُخْمد وإما أن تُسْرق. ونحن أبناء العرب والمسلمين أكثر من ينبغي أن يفقه هذا، إذ نحن الذين اكتوينا بنيران التخلف الحضاري والعلمي والثقافي، ونحن الذين عشنا حياة الفقر والقهر، وسالت منا الدماء والأموال، وكل هذا لأننا لم نحافظ على ثوراتنا منذ مائتي عام.. وانظر إلى عالم العرب كله، وارجع إلى تاريخه لترى أنه نتاج أمرين: ثورة أُخمدت أو ثورة سُرِقت، فنحن بين استبداد أو احتلال، وما لم ندرك ونتعلم كيف نحافظ على ثوراتنا فنحن قوم نستحق أن يستمر ليلنا الأسود الطويل.

ولكي لا يكون كلامنا نظريا فلسفيا، اقتطعنا من مشاهد التاريخ مشهد ثورة لنرى فيها الصورة الواضحة، واخترنا مشهد الثورة العباسية لأنها واحدة من أشهر الثورات في تاريخنا الإسلامي، تصلح أن نذكرها للعرب من المحيط إلى الخليج، وسيرتها قد مُحِّصت في كتب التاريخ والتراث، وباستطاعة الجميع أن يطالع فصولها.. وقد تناولنا مشهد اشتعالها في خراسان، واستعرضنا أطرافا أربعة كانت تتجاذبها: الطرف الذكي القوي (أبو مسلم الخراساني قائد العباسيين)، والذكي غير القوي (نصر بن سيار الوالي الأموي)، والقوي غير الذكي (علي بن جديع الكرماني زعيم القبائل اليمانية)، وغير القوي غير الذكي (شيبان الحروري الخارجي).

ونحسب أنه لا يمكن فهم هذه السطور القادمة دون الرجوع إلى المقال السابق.

***

في سرخس كان قد استقر أمر شيبان الحروري –حليف نصر بن سيار القديم على أبي مسلم- بعد خروجه من مشهد الصراع في خراسان بعد ضعف موقفه وبإغراءات ابن الكرماني بالولاية على هذه المناطق وجمع الضرائب منها.

ولما انقضت مدة العهد والهدنة بين أبي مسلم وشيبان أرسل أبو مسلم إليه يدعوه إلى البيعة، وكان هذا بالنسبة للعباسيين في حكم الضرورة، فسرخس مدينة إلى الجنوب من مرو (العاصمة)، وكان طبيعيا لقوم يريدون الدولة، فضلا عن الخلافة، ألا تظل في جوارهم القريب مدينة ليست في سلطانهم فضلا عن أن يكون متوليها ليس على الولاء لهم.

وكان هذا بالنسبة لشيبان في حكم المستحيل، إذ أن الخوارج يرون أنهم الأحق بالخلافة لاعتقادهم بأنهم وحدهم على الحق، هذا فضلا عن أن يبايعوا لخليفة من بني هاشم وهم يعتقدون أن الخلافة لا تنحصر في بيت ولا في أهل بلد، فكيف إذا دُعيَ إلى بيعة خليفة مجهول لم يُعرف حتى الآن؟!

فردَّ شيبان: بل أنا أدعوك إلى بيعتي. فأرسل إليه أبو مسلم: إن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الذي أنت فيه. فأرسل شيبان إلى علي بن الكرماني يستنصره فأبى، فحشد شيبان أتباعه في سرخس وانحاز إليه كثير من قومه من قبيلة بكر بن وائل بدافع العصبية، فبعث إليه أبو مسلم وفدا من تسعة من الأزد –والأزد من العرب اليمانية، ولعله أراد بذلك إنهاء كل أمله في التحالف مع ابن الكرماني وأيضا ضمانة لئلا يعتدي عليهم باعتبارهم من قوم حليفه القديم- يدعونه إلى الدعوة والمسالمة والكف عن الحشد وإشعال الحرب، إلا أن شيبان أخذهم فسجنهم.

فعند ذلك أمر أبو مسلم قائد جيوش العباسيين أن يفصل كتيبة من جيشه لتتوجه إلى سرخس ويبدو –من مقارنة الروايات- أن هذه الكتيبة مارست قدرا من الخداع لشيبان فأعلمته أنها فقط تعبر سرخس في طريقها إلى هراة ولا تقصد قتال شيبان . وأمام هذا الجواب الخادع لا ندري على وجه التحديد هل انخدع به شيبان فوافق على مرورهم، أم أنه توجس خيفة وتشكك غير أنه اضطر للموافقة لأنه لا يملك أن يبدأ أبا مسلم بالعداوة.

على كل حال، انطلقت الكتيبة بقيادة بسام بن إبراهيم وكأنها في طريقها إلى هراة، إلا أنه حين اقترب من سرخس، هاجمها، فخرج إليه شيبان في نحو من ثلاثة آلاف رجل، فاقتتلوا قتالا شديدا، قُتل فيه عامة أصحاب شيبان وانسحب الباقون إلى المدينة، ولجأوا إلى المسجد، وقُتِل شيبان ومن بقي من أصحابه، وبعث بسام برأس شيبان إلى أبي مسلم.

كان فتح العباسيين لسرخس خبرا كبيرا، لأن أهل سرخس لم تتقسمهم العصبية القبلية ولم يكونوا أحزابا، بل كانوا متوحدين ضد جيش العباسيين، ولذا ازداد هم نصر بن سيار ما إن بلغه الخبر، وقال: "اليوم استحكم الشر على بني مروان"

***

وأما نصر بن سيار فقد خاض في أيامه الأخيرة هذه رحلة انسحابات من مدينة إلى مدينة، وذاق فيها مرارات الهزائم العباسية، ثم مرارات الخذلان من قادة الجيوش الأموية التي أقبلت تحاول السيطرة على الوضع في خراسان بعدما تبين أنه أخطر من المتوقع.

لقد بذل نصر بن سيار في حفظ أمر خراسان أفضل ما يمكن أن يبذله قائد في مكانه؛ لقد كانت رسائله تتوارد إلى العراق والشام فلا يجيبها أحد، ولم يخرج من خراسان إلا بعد أن كانت خراسان بالفعل في يد العباسيين وما كان يمكنه المقاومة، بل كانت انسحاباته كلها فيما بعد انسحاب من يخطط للعودة إذ لم يفر إلى أقصى الغرب بل تحول من مدينة إلى أخرى: من مرو إلى باب سرخس، ومنها إلى نيسابور، ثم إلى قومس ثم إلى الري، ولم يكن يترك أحدها إلا حين تصير على وشك السقوط، وأرسل بابنه تميم على رأس فرقة في إحدى المعارك فقُتِل، وكان على استعداد لمواصلة القتال لصالح الأمويين وطلب أن يكون الأمير على القوة الأموية القادمة التي يقودها نباتة بن حنظلة، إلا أن طلبه لم يُرفض فحسب بل لقد قَطَع عنه نباتة راتبه بالكلية، ثم إنه لم ينسحب أيضا انسحاب الفار بل ظل في مدينة "قومس" وبعث بقوة أوقعت بفرقة من جيش العباسيين أسرى.

لقد ظلت الهزائم تجبره على الانسحاب المتتالي، لقد كان يري تساقط الدولة وفوات الوقت، ولهذا قال لمن أرادوه على البقاء: "تركتموني حتى صرت جسرا، قلتم: أقم؟!! شأنكم بالقوم، أما أنا فقد أعذرت".

كان نصر بن سيار قد بلغ الخامسة والثمانين من العمر، وخرج من الري إلى همدان، وهو شديد المرض، فلما صار ببلدة "ساوة" جاءه الأجل.

ما أغنى عن نصر بن سيار موهبته السياسية الفائقة، ولا ثباته الطويل، ولا فروسيته وشجاعته، ولا مواهبه البلاغية فلقد كان شاعرا موهوبا، ما أغنى عنه كل هذا حين افتقد القوة التي يستعملها وتحميه، وعلى رغم أنه نجا بأعجوبة من يد أبي مسلم الخراساني، إلا أنه كم نجا ليرى مزيدا من الذل والمصائب بل ليشهد مقتل ابنه تميم في حياته لتجتمع عليه مرارات الهزائم ومرارات الخذلان.. ليقضي أيامه الأخيرة هاربا كلما دخل أرضا لفظته إلى غيرها.

***

وأما علي بن جديع الكرماني، فقد استمر أميرا على خراسان وكان أبو مسلم الخراساني يناديه بـ "الأمير"، ويصلى وراءه الصلوات، وتم بهذا كسب ابن الكرماني تماما إلى جانب الدعوة العباسية، ولا شك أن علي بن الكرماني كان يعيش في هذه اللحظات نصرا معنويا عاليا، وهو يظن أن الأيام قد أتت له أخيرا بما عجز عنه والده من الزعامة على خراسان، بل بما هو أكثر من ذلك: بدخول التاريخ، إذ هو الأمير على أهل دعوة هاشمية يلوح في الأفق أنها على وشك الانتصار بعد هذا الحال المتضعضع الذي تعيشه الدولة الأموية.

وظل علي بن الكرماني يشهد انتصارات الدعوة العباسية وتقدمها، وفجأة.. وبلا أي مقدمات توحي بها كتب التاريخ قَتَل أبو مسلم الخراساني علي بن الكرماني وأخاه عثمان في يوم واحد، وقتل معهما جماعة من أقوى أنصار علي.

كان أبو مسلم يُقَدِّم علي بن الكرماني تأليفا لقومه اليمانية لا سيما ممن لم يدخلوا الدعوة بعد، وكان يستظهر به كذلك على الربعية والمضرية، حتى إذا انتهت هذه المهمة قتله .

لا تورد المصادر سببا مباشرا لقتل أبي مسلم لابني الكرماني، إلا سبب الانفراد بالسلطة والتخلص من المنافسين الأقوياء، لكن بعضا من الغموض يحيط بهذا الحادث، فلئن كان لأبي مسلم حجة في قتله لاهز بن قريظ باعتباره ارتكب خيانة الدعوة، فما هي الحجة التي اتخذها أبو مسلم لقتل ابني الكرماني؟ وكيف استقبل قومه اليمانية مثل هذا الخبر إذ لا نجد رد فعل ظاهر على مقتل الزعيمين من أتباعهما!!

إلا أن نهاية حياة علي بن الكرماني بهذا الشكل تثير الكثير من التأملات، فهذا الرجل الذي نشأ في ظلال أبيه القوي جديع الكرماني وورث زعامته لليمانية بعد مقتل أبيه، وحادثة مقتل أبيه هذه هي التي أثرت على خريطة خراسان كلها، إذ منعته من التفكير في التحالف مع نصر بن سيار مهما قدم له من التنازلات مفضِّلاً التحالف مع أبي مسلم الذي أظهر طول الوقت أنه داعية بالحق يريد إقامة العدل وإزالة الجور، كان علي بن الكرماني أحد أهم الشخصيات التي سهلت للعباسيين انتصاراتهم في خراسان، من خلال زعامته لليمانية وعلاقته بشيبان بن سلمة الحروري وعداوته لنصر بن سيار. ربما يصح القول بأنه لم يكن يملك طريقا آخر غير الذي سلكه فما كان بالذي يستطيع أن يأمن لنصر بن سيار وكان في الوقت ذاته مضطرا لحلف أبي مسلم لكي ينتصر على نصر بن سيار ويحقق حلم أبيه القديم في ولاية خراسان. لكن يصح أيضا أن نقول: إنه لم يكن في نفس قوة أبيه، وأنه أعطى كل شيء لأبي مسلم دون أي ضمانات إلا الوعود والكلام، وهو الأمر الذي لم يفعله أبدا سياسي ماهر كنصر بن سيار الذي تعطلت تحالفات أبي مسلم معه على صخرة الضمانات هذه.

إن الدرس الكبير في حياة علي بن الكرماني أنه لابد من استمرار اليقظة مع امتلاك القوة، وعدم الارتماء في حلف أحد بلا ضمانات، أو كما يقال: لا تضع كل البيض في سلة واحدة، هذا الدرس الذي غفل عنه ابن الكرماني جعله أميرا على خراسان بالاسم فحسب لكنه فعليا كان في موضع التابع لأبي مسلم، ثم نقله في لحظة واحدة من القصر.. إلى القبر!!

***

قال المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أولٌ وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث

الخميس، نوفمبر 24، 2011

خلاصات البيان في معارك الميدان


لا أحب العناوين المسجوعة في عصرنا هذا فهي –في العموم- تعبر عن نوع استعراض بلاغي لا يليق بالظروف التي نحن فيها، ولكن العنوان قفز إلى ذهني وكان معبرا عما أريد قوله فكتبته كما هو دون التفكير في غيره.

وطالما بدأ المقال توضيحيا فلا بأس من مزيد توضيحات شخصية لكي لا يلتبس الموقف على أحد.


كاتب هذه السطور هو أحد المصابين في معارك محمد محمود، إصابات طفيفة والحمد لله، خمس طلقات خرطوش في الرأس والظهر والساقين، وضربتي حجارة في الرأس، وما سوى هؤلاء من جروح والتهابات واختناقات قد شُفي والحمد لله، وكاتب هذه السطور يصنف نفسه من الإسلاميين المستقلين الذين لا يتبعون حزبا ولا جماعة وينعي على التيار الإسلامي الموجود حاليا افتقاده للثورية وروح المبادرة، وهو ممن يرى أن الشيخ حازم أبو إسماعيل يكاد يكون رجل المرحلة الوحيد.

كان من فوائد الإصابات أنها أقعدتني في البيت أياما طالعت فيها وسائل الإعلام، ولهذا تبدت لي الصورة التي يحاولون رسمها، ولن أستغرق في التفاصيل فهي كثيرة وفادحة، بل نكتفي بالخلاصات.

1.    المجلس العسكري عدو الثورة
ويحسن أنك إذا لم تكن مقتنعا بهذا ألا تكمل باقي المقال، فالمجلس العسكري الذي بدأ أيامه في الحكم وهو محط أمل المصريين انتهى هذه الأيام وقد خسر أنصاره جميعا، اللهم إلا المنافقون والطيبون.. وقد قام المجلس العسكري بكل ما من شأنه تفجير الثورة وإنهاء الزخم الثوري طوال هذه الأشهر، ثم ختمها بوثيقة السلمي التي أعلن فيها بكل صراحة أنه يريد أن يكون كالجيش التركي سابقا والجزائري والباكستاني حاليا، وهو الأمر الذي ما كان ينبغي السكوت أمامه.

ومجلس كهذا لا يمكن أن يؤتمن على إدارة انتخابات نزيهة، وما فعله في مط المراحل الانتخابية وفي قانون الانتخابات المعيب (أصلا الانتخاب بالقائمة النسبية مع خفض الحد الأدنى هو أظلم نظام انتخابي يعطي القوى الصغيرة مقاعد القوى الكبيرة بالقانون ولا يعبر حقيقة عن التمثيل الشعبي) وفي الإصرار على كتابة الدستور تحت الحكم العسكري وغيره كثير، كل هذه أمور تكشف النية المبيتة في اغتيال الثورة وإعادة إنتاج الحكم القديم مع تحسينات شكلية!

              2. التصعيد المتعمد 
وعلى غير عادة المجلس مع المليونيات في أول أمره حيث كان يستجيب لها، أقام المجلس عنادا مع القوى الوطنية (وفي الصلب منها القوى الإسلامية) التي دعت إلى جمعة 18 نوفمبر، وكان واضحا أن المجلس العسكري مصر على الاستفزاز والتصعيد، ففي مساء هذه الجمعة أُعْلن أن وثيقة السلمي قائمة وأن "خريطة الطريق" كما هي.. أي أنه رد على الملايين بقوله "اخبطوا دماغكم في الحيط"..

كنت –وما زلت- من مؤيدي الاعتصام ليلة 18 نوفمبر، ولست ممن يتخذ منهج سحب الذرائع مع الخصوم، لسبب بسيط، هو أن الخصم –لا سيما إن كان حاكما مسلحا- قادر في كل اللحظات على إبداع فخاخ جديدة، لكنني نزلت على ما استقر عليه الرأي عند الشيخ حازم وانصرفت (من الطرائف أني انصرفت فوجدت بيتي مقتحما وقد سرقوا اللاب توب وفلاش ميموري فقط.. وما زالت الدلائل تزيد عندي على أنها أصابع أمن الدولة، عفوا: الأمن الوطني).

لكن المجلس الذي سُحبت منه الذرائع وتم فض الاعتصام أمر بهجوم على اعتصام بسيط لجرحى الثورة وأهلهم، هجوم وحشي أخلاهم به من ميدان التحرير، ليختبر به آخر درجات التصعيد الثوري، وتقديري أنه أراد أن يعرف درجة تيقظ هذا الشعب وحرارته الثورية فإن كان باردا انفتح الطريق لتزوير الانتخابات واسعا، وإن كان يقظا كان ذلك أول الطريق لصناعة عدم استقرار تبرر تأجيل الانتخابات أو تفجيرها أمنيا (هل تذكرون الإشارة البليغة التي قالها المجلس بأن سقوط 200 قتيل قد تعني إلغاء الانتخابات.. هذا معناه لمن يفهم في السياسة أن قنبلة واحدة في لجنة واحدة تنتظر إشارة التفجير من القيادة لينتهي الأمر).

لكن الشعب أثبت أنه حي يقظ، وأن حرارته الثورية لم تبرد ولم تخفت، وأنه –على عكس ما توقع كثيرون- لا يرضى بالفتات وأنه لم يكره الثورة ولم يلعن الثوار ولم يعد كل همه في لقمة العيش فحسب.. بل يريد أيضا كرامة غير منقوصة.

         3. معارك محمد محمود
كتب الكثيرون عن معارك الكر والفر في شارع محمد محمود، وهو الشارع الذي سيتذكره التاريخ حين تنجح الثورة باعتباره واحدا من نقاط المقاومة البديعة التي تجلت فيها بطولات المصريي البسطاء الذين لا يظهرون على الشاشات ولا يكتبون في الصحف، الشجعان ذوي البسالة والإقدام الذين كانوا يتسابقون على القنابل لإعادة إلقائها على الأمن المركزي الغشوم الغادر.. كتب الكثيرون تفاصيل كثيرة، لا يهمني منها إلا التأكيد على نقاط محددة هي:

1.    مقاتلوا محمد محمود ثوار حقيقيون مصريون وطنيون مخلصون دفعوا أرواحهم، وأي كلام عن كونهم بلطجية أو مستأجرون هو كلام لا قيمة لصاحبه الذي يتردد بين الجهل وبين السفالة.
2.    صحيح لم يكن يمكن كثيرا السيطرة على اندفاعهم، وفشلت كثير من المحاولات التي بذلناها لتهدئة القتال في محمد محمود، ولكن الذي غدر هو الأمن المركزي، وكان هذا سببا إضافيا لفشل محاولات التهدئة اللاحقة.. لا ثقة فيهم، كلما حاولنا تهدئة الناس وهدأوا غُدر بهم فما عدنا نملك إلا الصمت.
3.    كيف يمكن السيطرة على من قتل صاحبه أو أخوه أو عزيز عليه أمامه؟ لماذا يريد منظروا الفضائيات والصحف أن يكون الناس بلا مشاعر؟ إن ثمة غليانا رهيبا تفيض به الصدور من جراء ما فقدت من الأحباب والأصدقاء.. من يستطيع أن يلوم هؤلاء على حرقتهم وثأرهم؟
4.    كثر الكلام عن مندسين، ونعم، بينهم مندسون، لكنهم مندسون لا يفعلون أكثر من رمي الحجارة كلما هدأ الموقف، وهي الحجارة التي لا تصل كثيرا إلى الأمن المركزي، فلماذا نرى الرد بالقنابل والمطاط والرصاص الحي (كل ما نفاه المجلس العسكري عن رصاص حي ومطاطي ورش وغاز غير مرئي، كل هذا كذب صريح فاحش وقح يزيد في عدم ثقتنا في هذا المجلس العسكري.. إن إجسادنا تشهد على ما تم إطلاقه بالفعل)

          4. الإسلاميون هم المشكلة دائما
حاولت وسائل الإعلام الرسمية والعلمانية تلبيس المشاكل للإسلاميين، وذلك حين كانوا يصفون الموجودين بالبلطجية ومثيري الشغب، وألحوا على أن هذا من توابع جمعة 18 نوفمبر (حتى الوقاحة لها حدود!) وصالت النخبة وجالت وعلى رأسها البلطجي المجرم ممدوح حمزة (واحد من أهم عناصر تفجير المشهد المصري) ومعه البلطجية المجرمة تهاني الجبالي، وآخرون معهم وإن كانوا أقل منهم صوتا ولهجة.. كلهم يريدون تحميل ما حدث للإسلاميين، ويشيرون بتأجيل الانتخابات أو إلغائها (بالأمس أعلن اللواء العصار أن المجلس اتخذ لنفسه هيئة استشارية وذكر من أسمائها: مممدوح حمزة وعمرو موسى والبرادعي.. يا فرحتي!!).. فلما أعلن الإسلاميون أنهم لا ينزلون ولا يريدون من أحد النزول وثبت هذا بالواقع والحقيقة، وثبت أن الشعب نفسه شعب حي ويقظ وثائر انقلبت ذات النخبة لتسحب صفات البلطجية والفوضى والقلاقل وتصبغ على التحرير صفات الثورة والحرية والمقاومة ثم تسأل –ببراءة الوحوش السافلة- لماذا لا ينزل الإسلاميون؟ أين الإخوان؟ أين السلفيون؟... هكذا، كما قال الله تعالى (لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)..

وما زالت الدائرة تسير نحو تأجيل الانتخابات، يحاول المجلس التبرؤ من هذا بالتأكيد على أن الانتخابات في موعدها، ولكن وزير الداخلية (في الحكومة المستقيلة) يقترح تأجيلها، ويصرح أعضاء المجلس للتليفزيون المصري بأن الانتخابات في موعدها ولكن (انظر وتأمل) لأنهم يثقون أن هذه الأزمة ستنتهي (والمعنى المباشر أن الأزمة طالما استمرت فلا انتخابات)!

أختم بنقطتين مهمتين؛ عن مشاهد في الميدان وتعليق على موقف الإخوان والسلفيين من النزول.

في الميدان ترى المجتمع المصري الذي لا يخرج في الفضائيات، وإذا كنت من متابعي الصحف والفضائيات فستكتشف أن الشعب المصري على الأرض شيء آخر غير الذي تراه في الفضائيات.. لقد رأيت بعيني التحاما كاملا بين كافة مكونات الشعب، بل إني حين أصبت (وأنا الملتحي المحسوب إعلاميا على السلفيين) كان الذي أمسك بي أثناء الخياطة شاب مسيحي، وحين بدا علىّ الإرهاق ذات لحظة وجدت الفتاة المتبرجة تقدم لي الطعام، وبينهما عشرات يغسلون وجهك من آثار الغاز ويعطونك الخل والمياه وغيرها.. هذا المشهد رأيته عشرات المرات بلا مبالغة، ما يجعلني اسأل: أين الاحتقان الطائفي الذي أراد أن يشبهنا بالحرب الأهلية في لبنان؟!!

في ميدان التحرير ترى شعب مصر على حقيقته.. وكفى!

تعليق على موقف الإخوان والسلفيين:

لا أحب منهج الإخوان والسلفيين في سحب الذرائع، ولا أوافق على كونهم دائما وضعوا أنفسهم في موضع رد الفعل لا أخذ زمام المبادرة، وكنت أتمنى أن أراهم ينزلون من اليوم الأول طالما علموا أن المجلس العسكري عدو للثورة وأنه –بما ثبت عبر الشهور- لا يريد سلطة حقيقية مدنية منتخبة في مصر..

على أني أتفهم موقفهم في سياق تفكيرهم ومنهجهم، ويساهم في هذا أني أرى شبابهم موجودا في الميدان ومساهما بقوة في حمايته (في لحظة من اللحظات كان كل من رأيتهم في الصف الأول المواجه للأمن المركزي كله أصحاب لحى.. والله يشهد على كلامي)، إنما ما لا أقبله هو التحريض على المتظاهرين، وقد قام بهذا تحديدا أحمد أبو بركة في أكثر من مرة، وكان خطابه لا يختلف عن خطاب ممدوح حمزة على الإطلاق، ومن موقع النصيحة المحضة أتمنى أن يراجع الإخوان أداء أبو بركة الإعلامي بشكل مجمل في هذه القضية وفي غيرها..

خلاصة
نحن الإسلاميون لدينا خبرة طويلة وسنين طويلة من حكم العسكر المستبد، دفعنا الأرواح والدماء والشهداء، وذقنا الخوف والجوع، هذه الخبرة الطويلة خلاصتها أننا لا نملك ترف الاختيار، معركة وجود دولة تسودها الحرية ويحكمها نظام ديمقراطي هي بالنسبة لنا معركة حياة أو موت، فإن لم نمت وسط الناس في الميدا، فسنموت معهم أيضا في السجون والمعتقلات.

الخميس، نوفمبر 17، 2011

فقه التولي يوم الزحف

كم مرة سمعت الشيخ يقول:

"لماذا خلقنا الله؟ لقد خلقنا الله لعبادته، يقول تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، والعبادة ليست كما يتبادر إلى ذهنك أنها الصلاة والصيام فحسب، بل العبادة اسم جامع لكل أنواع الخير والصلاح وتعمير الأرض، ولهذا يقول الله تعالى على لسان نبيه صالح لقومه (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).. فالعبادة المطلوبة، التي هي دورنا في الحياة، هي الاستخلاف في الأرض، وإقامة دين الله وشرعه، وتعمير هذا العالم بالإسلام"..

لا أشك أنك سمعت هذا كثيرا، لا سيما إن كنت من الملتزمين الحريصين على طلب العلم وتتبع أقوال الشيوخ.. ولكن..

كم مرة أمرك هذا الشيخ نفسه بدور مؤثر في هذه المهمة الكبرى، مهمة "الاستخلاف في الأرض وإقامة دين الله وشرعه، وتعمير هذا العالم بالإسلام"؟؟

***

إن ما نراه الآن من حال الحركات الإسلامية في مصر لدليل جديد بين على أن الله لا يظلم أحدا، وأن ما نزل بالبلاد والعباد من بلاء إنما كان مستحقا لأن القائمين برسالة الله في الأرض قد قعدوا.. منهم من قعد لأنه لم يعرف من دين الله غير حفظ المتون ولم يفقه كيف يستفيد من هذه النصوص في التعامل مع زمانه ومشكلات عصره وهؤلاء لا يستحقون وصف العلماء بشهادة الإمام مالك الذي قال: "إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب"، ومنهم من قعد لأنه آثر السلامة..

ولأن الله خلق في الإنسان كائنا عجيبا اسمه "الضمير" يلهب صاحبه تعذيبا حين يحيد عن الحق، فإن الإنسان يستمر في التحايل على هذا الضمير ليقنع نفسه بأن ما يفعله من قعود ونكوص ليس إلا واجب الوقت وضرورة المرحلة، وكلما وقع على رأي أو تأويل يثبت موقفه في القعود كلما تمسك به، وأفضل منه أن يصنع لنفسه طريقا طويلا طويلا يقدر على أوله ولا يرى آخره، فيسير فيه موهما نفسه بأنه يبذر البذرة ليأخذها الجيل القادم أو الذي بعده أو الذي بعدهما.. المهم أن ما يفعله الآن أمر قليل الكلفة.

وهنا يبدأ التشوه الفكري، هنا يبدأ فقه ما نريد لا فقه ما ينبغي، الإخلاص –فعلا فعلا- أمر في غاية الصعوبة، هو الأمر الذي تمنى بعض السلف أن يموت إذا خلصت له سجدة واحدة.. ذلك أنه أمر يجردك من كل مصلحة ومن كل هوى ومن كل راحة، يجبرك على استفراغ الوسع حقا في دراسة الواقع، وعلى استفراغ الوسع حقا في دراسة الشرع، ثم على استفراغ الوسع مرة أخرى في تحديد واجب الوقت ثم استفراغا أخيرا في العمل لهذا الواجب مع التضحية بكل شيء..

***

لقد أمضت الحركات الإسلامية ستين سنة تحت الحكم العسكري، المهيمن على دولة مركزية باطشة، وذاقوا تحت هذا الحكم ويلات التعذيب والتنكيل والتقتيل حتي أبدعت بلادنا "أدب السجون"، لكن لا ينبغي أن نقول هذا ونسكت، بل يجب أن نذكر أن الحركات الإسلامية نفسها لم تدرك اللحظات الفارقة، وتركت الوقت يمضي فلما حاولت بعد ذلك استعادة زمام المبادرة كان الوقت قد فات!

وحين فات الوقت، وبدلا من أن توثق الحركات الإسلامية تجاربها وتنقدها نقدا بصيرا، فضَّلوا الحديث عن المدائح والفضائل وكتبوا تاريخا مناقبيا ورفعوا رموزهم مقاما عاليا حتى ذهب التقييم الموضوعي أدراج الرياح، وأصبح العقل الجمعي العام في تلك الحركات يرى في طريقه وجماعته الطريق الصحيح والجماعة الصائبة، وأنها كانت وما زالت في المسار الصحيح الذي ينتظر أن يكتمل ذات يوم!!

حديث التاريخ طويل، وقد كتبنا كثيرا منه سابقا، ولكن المأساة التي وصلنا إليها هي ما نعانيه الآن.. لقد وصلنا الآن إلى ذروة الكارثة، فلقد ابتدع لنا الشيوخ فقها جديدا، ذلك هو فقه "التولي يوم الزحف"..

وهو ذلك الفقه القائم على الهروب من المواجهة، الابتعاد عن الصدام، فقه يرفع شعار "حقن الدماء" و"دفع الضرر" و"تجنيب البلاد البلايا" و... و... إلخ

وبدلا من أن تكون مهمة الشيوخ والعلماء "الجهاد" لإقامة دين الله وشرعه، أصبحت مهمتهم "القعود" لدفع الضرر وحقنا للدماء، ويا ليته كان الضرر بالمقياس الشرعي، بل هو الضرر بالمقياس المادي الدنيوي، فلا أكبر في الشرع من ضرر استعباد البلاد والعباد وقهرهم بحكم يضرب بشرع الله عرض الحائط ويلعق أحذية اليهود والصليبيين، وهذا الضرر هو الذي شرع الله لأجله الجهاد، وحرض فيه على بذل الدماء لا حقنها، بل جعل الجهاد في سبيله ذروة سنام الإسلام!

جلس أحد الشيوخ مع أحد القيادات العسكرية، فقال له اللواء: يا شيخ فلان، برأيك: إذا تعارضت مصلحة التيار الإسلامي مع مصلحة مصر، في تصورك ما هي المصلحة التي سنقدمها؟ فقال الشيخ مُسَلِّمًا: مصلحة مصر طبعا!

هذا الشيخ الذي هو واحد من الرموز الإسلامية المعروفة، والذي يمكنه أن يسحرك بمحاضرته وتفصيله وشرحه للإسلام، لم يدرك للحظة أن مصلحة التيار الإسلامي هي هي مصلحة مصر، ومصلحة مصر هي هي مصلحة التيار الإسلامي، لقد ظن أن ثمة تعارضا يمكن أن يقوم بين "الدين" و"الوطن"، بربك: كيف وقع في هذا؟!!

ثم انظر الكارثة الأخرى: إن اللواء يقول له ببساطة: قد أضطر لذبحك إذا كان في هذا مصلحة مصر، والشيخ الغافل لم يدرك المعنى الواضح الصريح المباشر الذي لا يفوت على أحد.

وخذ لديك كارثة ثالثة: إن العسكر في مصر يتكلمون مع الشيوخ بهذه اللغة، لغة الأمر الواقع لا لغة الاستشارة ولا الخداع.. وقد فات كل هذا على الشيخ صاحب الرسائل والمسائل والفضائل!!

إن الفقه الذي ينظر للشهادة على أنها خسائر وللجهاد على أنه فتنة وللاعتراض على أنه خروج ليس فقها إسلاميا، ولن يكون أبدا.. فقه الإسلام هو الذي ينطلق من رؤية الإسلام بأن الإنسان مكلف بعمارة الأرض بمنهج الإسلام، ومنهج الإسلام هذا يعرض على الناس اختيارا لا إكراها، ولذا فتوفير الحرية واجب مقدس، ولم يحدث أبدا أبدا أبدا أن توفر مناخ الحرية، وعُرِض الإسلام على الناس إلا وقبله الناس فأسلموا ودخلوا في دين الله أفواجا.. بل نحن أصحاب الدين الوحيد الذي كان الداخلون فيه يتحولون في أيام إلى مجاهدين في سبيله فاتحين لبلاد أخرى!

إن فقه التولي يوم الزحف، هو ذلك الفقه الذي آثر السكوت حتى صارت المسلمة في بلد الأزهر الشريف تُرجع إلى الكفر قهرا وقسرا.. وكفى به عارا كبيرا!

هذا الفقه هو الذي يريد الآن أن نسكت ونصمت ونقعد في بيوتنا والعسكر يسرقون ثورتنا بعد ستين سنة، وبعد الدماء والأعراض والأهوال، وأعمار دفعناها في التخلف الحضاري.. هذا فقه لا يدرك أن اللحظة الفاصلة إن مضت فإنها لا تعود..

موعدنا 18 نوفمبر، ميدان التحرير..

نشر في شبكة رصد الإخبارية

الثلاثاء، نوفمبر 15، 2011

درس من التاريخ لثوار الربيع العربي (1-2)

تنوعت الهموم في عالمنا العربي الإسلامي، ما بين دول تحبل بثورة كما في الأردن والجزائر والمغرب، ودول تمور بها وتعيش مخاضها المؤلم كما في سوريا واليمن، ودول أنجبت ثورتها وأمامها مهمة حماية الوليد من السرقة أو القتل كما في تونس ومصر وليبيا..

على أن نجاح الثورات في إزالة الماضي وإقامة النظام الجديد لابد له من توفر أمرين معا: عقل ذكي يخطط ولا ينخدع، وقوة تحميه ويستعملها، وإذا ضاع أحد هذين فمصير الثورة إلى الفشل المحقق لا ريب في ذلك، فإما ذكي مهزوم وإما قوي مخدوع، وكلاهما تضيع منه الثورة.

هذا المشهد يكاد يتكرر في تاريخ كل ثورة، وينتهي المشهد دائما إلى طرف وحيد فقط هو الذي سيجني مكاسب الثورة جميعا، ففي النهاية ثمة نظام سستؤول إليه الثورة، فإن لم يكن الثوار على قدر اللحظة التاريخية فهم أول الضحايا.

في السطور القادمة سنستعرض أربعة نماذج في تاريخ الثورة العباسية على الدولة الأموية، تلك النماذج هي: للقوي الذكي (المنتصر)، للذكي غير القوي (المنهزم)، للقوي غير الذكي (المخدوع)، لغير القوي غير الذكي (المنهزم المخدوع).

***

كانت الدعوة العباسية تعمل سرا على التحضير للثورة ضد الأمويين، وعلى رغم أن رأس الدعوة كان في الشام، إلا أن مركز الحركة كان في خراسان في أقصى شرق الإمبراطورية، وخراسان في هذا الوقت تعاني من انقسام بين القبائل العربية الكبرى، فكان الخطأ الأول الذي ارتكبه هشام بن عبد الملك (آخر الخلفاء الأمويين الأقوياء) هو أن عيَّن عليهم واليا اجتمعت فيه كل صفات الكفاءة ما عدا واحدة، تلك هي أنه ليس ذو عشيرة تحميه، أي ليس مستندا إلى دعم شعبي في خراسان، ذلك هو نصر بن سيار، وظن الخليفة أن هيبة الخلافة تُغني عن مقام العشيرة.

لكن نصر بن سيار لم يرتفع عن الانقسام بين القبائل في خراسان بل مال إلى الأقربين له من قبائل المضرية والربعية ضد القبائل اليمانية، فترسخت حالة الانقسام وتعمقت واشتد أُوارها، ربما لم يكن يمكنه أن يظل محايدا وهو يحكم مجتمعا تسوده قوة العشائر والقبائل! لا سيما وأن العلاقة بينه وبين والي العراق (وهو الذي يعلوه في الهيكل الإداري للدولة) متوترة، مما يعني أن دعم الخلافة نفسه ليس قائما كما ينبغي.

والخلاصة أن مشكلات خراسان زادت مع نصر بن سيار ولم تُحلَّ، وكان الانقسام هو الطريق الذي مهد للثورة العباسية أن تتجهز وتتقدم وتستمر في غيبة من الوالي المشغول عنها بحروبه مع جديع الكرماني (زعيم القبائل اليمانية) حتى تفاجأ الجميع بوجود حركة تدعو لآل البيت يتزعمها فتى في الثلاثين من عمره ويُدعى أبو مسلم الخراساني.

أبو مسلم الخراساني هو من يمثل القوي الذكي، يستند إلى قوة ثلاثين سنة من العمل المنظم للدعوة العباسية في خراسان، ويمتلئ هو بقوة الشباب وله من المواهب والإمكانات ما جعله على صغر سنه زعيما من أبرز زعماء التاريخ، وهو يقود دعوة ضد الظلم والجور ونصرة للحق وللحكم بكتاب الله وسنة رسوله والأئمة الراشدين.

بينما ساهمت سياسة نصر بن سيار القبلية، ومنها غدره بخصمه جديع الكرماني (زعيم اليمانية) في انفضاض الناس من حوله، فصار يعاني من الضعف في القوة والجند والعدد، ثم زاد الأمر سوءا علاقته المتوترة بوالي العراق يزيد بن عمر بن هبيرة فلم يمده بجنود من عنده متظاهرا بانشغاله بحرب الخوارج، كذلك لم يستطع الخليفة مروان بن محمد الذي اشتعلت حوله الثورات في الشام أن يفعل شيئا لنصر بن سيار في خراسان، فصار نصر بن سيار رغم ذكائه قليل الحيلة إذ لا قوة لديه، وقد أثبت بالفعل في تلك الأيام أنه سياسي من الطراز الأول.

أما الطرف الثالث في مشهد خراسان فهو علي بن جديع الكرماني، الذي ورث زعامة أبيه على القبائل اليمانية وأنصار أبيه من الربعية وبعض المضرية أيضا، وورث فوق ذلك ثأر أبيه أيضا، ولم يعد من شك في أنه سينحاز إلى حلف أبي مسلم الخراساني! وهنا دارت حرب عقول، فمن المهم لأبي مسلم أن يجعل هذا الجمع الكثير من الأتباع أنصارا للدعوة العباسية وأن يسحب انحيازهم بالتدريج لصالحه على حساب زعامة علي بن جديع الكرماني، بينما يريد علي بن جديع أن يصعد على هذه الموجة الثورية العباسية ليصير والي خراسان كما كانت رغبة أبيه ورغبة اليمانية فأَمَّل أن يكون هو الذي يبلغ ذلك الأمل. وقد فهم أبو مسلم الخراساني هذه الرغبة بطبيعة الحال فأنزل علي بن جديع منزل التكريم والحفاوة بل والرئاسة والإمارة وجعله الأمير عليه وكان يصلي وراءه ويناديه بالأمير!

ثم ظهرت في خراسان شخصية أخرى ساهمت في تغيير موازين الصراع المتوتر، وهي شخصية شيبان بن سلمة الحروري؛ كان شيبان من أتباع الضحاك بن قيس من الخوارج والذي انتهت ثورته بالفشل في العراق، ثم انضم إلى ثورة عبد الله بن معاوية في فارس والتي فشلت أيضا وهرب إلى خراسان.. ظهر شيبان الحروري فكان أول من اجتذبه إلى فريقه عليُّ بن جديع الكرماني فَتَقَوَّى مركزه، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن شيبان الحروري –باعتباره من الخوارج- طامح إلى الخلافة ذاتها وكان أنصاره يُنادون عليه بأمير المؤمنين كما هو المعروف عن الخوارج، ولا نعرف بالتحديد كيف كان الاتفاق بين علي بن الكرماني وشيبان الحروري غير أن المؤكد أن شيبان كان يحظى بتوقير كبير وهو في حلف علي بن جديع وكان يُنادي و"يُسَلَّم عليه بالخلافة" ، فهل كان ثمة اتفاق بينهما على أن ينصره هذا في طلب الخلافة وينصره هذا في طلب خراسان؟ أم كان اتفاقا مرحليا لم يتعرض للغايات والأهداف النهائية؟ هذا ما لم نجد شيئا عنه فيما بين أيدينا من مصادر.. فالله أعلم!

بهذا صارت خراسان بين ثلاث جبهات قوية:

1. جبهة علي بن جديع الكرماني في مرو (عاصمة خراسان) ومعه شيبان الحروري وأتباعه.

2. جبهة نصر بن سيار الوالي الأموي في نيسابور (عاصمة خراسان الثانية التي انسحب إليها نصر بن سيار بعد فشله في الاحتفاظ بمرو.

3. جبهة أبي مسلم الخراساني وأهل الدعوة العباسية فيما حول مرو

حاول أبو مسلم ما استطاع أن يجتذب إليه والي خراسان نصر بن سيار، وبذل في هذا محاولات مضنية، لكن نصر بن سيار وهو السياسي الذكي لم يكن بالذي يُخدع، واشترط ضمانات كافية ليدخل في هذه الدعوة، وبطبيعة الحال لم يكن في يد أبي مسلم أي ضمانات يمكن أن يعطيها لنصر بن سيار، فالدعوة العباسية تقف من الأمويين وأتباعهم موقف التناقض الكامل، وكل ما في الأمر أن أبا مسلم يريد انتصار دعوته بأقل الخسائر بينما لا يفوت على نصر بن سيار أنه إن استجاب ودخل في دعوة أبي مسلم فإنه سيفقد الظهر الأموي نهائيا وتذهب كل آمال الإمدادات، وسيصير أسيرا –بحكم الواقع الفعلي- في يدالعباسيين وإن كان يُنادى بالأمير.

ساهم هذا التناقض الكامل في أن يتأكد التحالف بين جبهة العباسيين بقيادة أبي مسلم وبين علي بن جديع الكرماني، وبعد أن كان أبو مسلم حريصا على أن يبدو كالمحايد بين الأطراف المتقاتلة في خراسان تم إعلان هذا التحالف، وقد نزل هذا على رأس نصر بن سيار كالصاعقة، وحاول هو الآخر محاولات مضنية مع علي بن جديع الكرماني ليفض هذا التحالف إلا أنه فشل. فحاول كثيرا مع شيبان الحروري الذي استجاب لنصر بن سيار ولكنها استجابة قلقة على خوف من نصر بن سيار أن يغدر به كما غدر بجديع الكرماني من قبل، ومن ثم أدت هذه الاستجابة القلقة الخائفة إلى انهيار التحالف الهش، فانسحب شيبان الحروري من كل هذا الصراع الدائر في خراسان، وإذا نظرنا إلى الأمور من زاوية شيبان سنجد الآتي:

1. انفضاض كثير من أتباعه عنه ودخولهم في دعوة أبي مسلم وجبهة علي بن الكرماني؛ ذلك أن طرف أبي مسلم هو الطرف الوحيد الذي يتمتع حتى الآن بطهارة الثوب والسمعة الحسنة، وهو صاحب دعوة إلى الحق ولم يرتكب حتى الآن ما يسيء إليه، بل على العكس تماما، فهو الذي رغم امتلاكه الأنصار لم يحارب ولم يقاتل وبدا حريصا على حقن الدماء. كذلك فإن أمر الأمويين مضطرب ومتشتت في الشام يقتل بعضهم بعضا، هذا بالإضافة إلى توثق التحالف بين علي بن الكرماني وبين أبي مسلم.

2. شيبان نفسه –وهو الوافد الغريب عن خراسان- ما كان بإمكانه أن يثق في نصر بن سيار ثقة تامة، فنصرٌ هو الوالي الأموي المخلص لهم، وشيبان ذو تاريخ تمردي ومتواصل.

3. وفي ذات الوقت كان علي بن الكرماني حريصا على ود شيبان فاجتمع به، وبكل لهجة الود والنصح شرح له الوضع المتردي الذي هو فيه، وأعطاه سلطة في سرخس وسمح له بأخذ الضرائب فيما المنطقة ما بين نيسابور وهرات.

وأمام هذا الوضع وهذه الإغراءات لم يملك شيبان إلا أن يطلب السلامة والموادعة واستجاب لهذا العرض وانسحب مع أتباعه من خراسان إلى سرخس، وزاد هذا الانسحاب في قوة أبي مسلم وفي ضعف موقف نصر بن سيار.

فكيف سارت الأمور؟ وكيف تطور المشهد الخراساني؟

أين انتهى الذكي القوي (أبو مسلم الخراساني ودعوته العباسية)؟ وأين انتهى الذكي الضعيف (نصر بن سيار)؟ وأين انتهى القوي غير الذكي (علي بن جديع الكرماني)؟ وأين انتهى غير الذكي غير القوي (شيبان الحروري)؟.. هذا بإذن الله ما نتعرض له في المقال القادم.

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث