الأحد، سبتمبر 14، 2025

درس مهم في مستقبل أفغانستان

أبدأ هذا المقال باعتذار لإخواني في الإمارة الإسلامية بأفغانستان، فلقد شغلتنا المصائب القريبة في مصر وفلسطين ومنطقتنا العربية عن متابعة أحوالهم والعناية بها على النحو اللائق. على أن لهذا النسيان جانب طيب، وهو ما لدينا من الثقة في قيادة هذا البلد، تلك القيادة التي أنجزت التحرير، وأنجزت معه معركة التفاوض.. ومن طبيعة المرء أن ينشغل عن الأمر الذي يتولاه الكفء ثقة فيه، ثم يذهب للاعتناء بالأمر الذي لا يجد الأكفاء!!

وقد بدأت بهذا الاعتذار، لأنني سأذكر في هذا المقال أمورًا لستُ أدري ماذا تكون سياسة الإمارة الإسلامية فيها: هل هم يعرفونها ويقومون بها، أم ثمة قصور في المعرفة أو في التطبيق. فإن كان الأمر على ما يرام فالحمد لله رب العالمين، وإن كانت الحاجة إليه قائمة، فتلك السطور هي أهم ما يرى مثلي أنها أمور أحق بالعناية بها.

لقد احتفلنا –وحق لنا الاحتفال- بالتحرر الأفغاني من الاحتلال الأجنبي، وقد مضى من الوقت ما يكفي لأن ننتقل من مقالات الاحتفاء والاحتفال إلى مقامات النصح والبيان، فالدين النصيحة، وهو واجبٌ علينا في كل وقت.

وإن من أشد ما أخشاه للتجربة الأفغانية، بل ولكل تجربة إسلامية أخرى أدركت التحرر، أن تذهب في اتجاه: بناء دولة حديثة مركزية، كما هو النموذج الشائع في العالم كله، وإن نموذج "الدولة الحديثة" هو نموذج شديد الإغراء لكل منتصر وزعيم، وذلك أنه يوافق لذة نفسه في تمكين سلطته، وهو يوافق النظام العالمي القائم، وقد يرى المنتصر المُحَرِّر أن إقامة هذا النموذج هو الذي يحقق بالفعل مصلحة البلد ويقيها أخطار التمزق والتفرق! وقد يجد في علماء المسلمين من يتقبل نموذج الدولة الحديثة هذا ويرى له تخريجا إسلاميا يجعله غير مخالف للدين.. وهكذا.

أريد أن أقول هنا إن من أعظم مزايا الإسلام، ومن أعظم معجزاته في بنائه لنظامه السياسي أنه كان ضد فكرة الدولة الحديثة ومنطقها، حتى قبل أن توجد هذه الفكرة في واقع الناس!

لقد حرص الإسلام على بناء سلطة قوية نعم، لكنها سلطة محدودة الصلاحيات، تهتم بجوانب الأمن والدفاع وما يتعلق بهما، وأما بقية الجوانب والأنشطة من الاقتصاد والتعليم والثقافة وغيرها، فهي من شأن المجتمع الذي ينطلق لخدمتها وإشباعها، فالسلطة لا تهيمن عليها ولا تتحكم فيها، إنما تدعمها وتراقبها.

ومن هاهنا اهتم الإسلام كثيرا بتقوية المجتمع وتمتينه وتعميق روابطه: روابط الإسلام والأرحام والجوار، وكانت عبادات الإسلام وشعائره وأحكامه ميدانا خصبا لتنمية هذه العلاقات وتقويتها، بحيث ينشط المجتمع من تلقاء نفسه ولا يكون رهينا بالسلطة!

إن شرح هذا يطول، ولعل من أراد الاستزادة أن يرجع إلى كتابيّ "منهج الإسلام في بناء المجتمع" و"سبيل الرشاد".

ومن أهم ثمرات هذا الوضع أن الحضارة الإسلامية واصلت ازدهارها حتى في أوقات ضعف السلطة أو انهيارها، ومن أهم الثمرات أيضا أن السلطة إذا انهارت كان المجتمع قادرا على مقاومة المحتل الأجنبي واستئناف مقاومة شعبية، كما أنه كان قادرا على تدبير شؤون نفسه وإدارتها بمعزل عن سلطة الاحتلال أو سلطة العملاء.

وتلك كانت العقدة التي واجهت الأمريكان في احتلال أفغانستان، والتي عبَّر عنها صُنَّاع القرار عندهم، إن قوة المجتمع وضعف السلطة الأفغانية جعل الاحتلال الأجنبي لا يعرف كيف يقضي على المقاومة، ولا كيف يمسك بخناق هذا الشعب الباسل، إن المقاومة روح عامة سارية، والشعب يمكنه أن يدير نفسه دون احتياج إلى السلطة، وبذلك فشلت محاولاتهم في إنشاء سلطة مركزية على نمط الدولة الحديثة، تلك السلطة التي تستطيع أن تكبل المجتمع وتقيده.

سأذكر بعض تلك الأقوال التي سجلوها بأنفسهم في كتبهم، لكي يطِّلع إخواننا الأفغان على أهمية هذا الأمر، ومن خلاله يطَّلعون على خطورة أن يذهبوا باتجاه إقامة دولة حديثة ذات سلطة مركزية مهيمنة، وذلك كي تبقى مسيرة بناء الحكم الجديد متسقة مع الإسلام أولا، ونافعا للشعب الأفغاني ثانيا، ومخالفة لهوى الأعداء ثالثا..

أوردت كونداليزا رايس –وقد شغلت منصبي وزير الخارجية ومستشارة الأمن القومي الأمريكي- في مذكراتها أن بول وولفوتيز، معاون وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد، اقترح أن يكون البدء بضرب العراق لا أفغانستان، مع أن العراق لا علاقة له بأحداث سبتمبر، والسبب في ذلك أن مواجهة جيش نظامي في العراق سيكون أسهل كثيرا، مما يمكن معه تحقيق نصر سهل وسريع تحتاجه المعنويات الأمريكية! لم يؤخذ برأيه في نهاية الأمر لأسباب سياسية، لكن الرجل قد كشف عن السرِّ، وهو السر الذي تحقق بالفعل كما نراه جميعا[1].

لقد كان تركيز الأمريكان، كما يقول روبرت جيتس الذي تولى منصبي مدير المخابرات الأمريكية ثم وزير الدفاع بعد رامسفيلد، هو: "في إنشاء حكومة مركزية قوية في بلد لم يسبق له عمليا أن كانت فيه حكومة"[2].

والأمريكان يحبون تسمية الدولة غير المهيمنة على كل شيء باسم قبيح، "الدولة الفاشلة"، لا لكونها تفشل في خدمة شعبها، بل لكونها ثغرة في جدار النظام الأمني العالمي الذي يخدم أمريكا، تقول رايس: "تبين لنا أن الدول الضعيفة والفاشلة تشكل تهديدا أمنيا خطيرا على الولايات المتحدة. فهي لا تستطيع السيطرة على حدودها، وقد تصبح الملاذ الآمن للإرهابيين، لذلك فإن إعادة بنائها يشكل مهمة ضخمة وهامة في آن... ومع أن هذه الفرق (فرق الإعمار الإقليمي) كانت متنوعة التركيب والنشاط إلا أن لها جميعا هدفا واحدا، هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية"[3].

وهذه العبارة الأخيرة ذاتها يقولها أيضا روبرت جيتس، "كانت عشرات الدول والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية منخرطة في محاولة مساعدة الأفغان على تأسيس حكومة فاعلة"[4].

وقبيل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كان هنري كيسنجر متأسفا على الخطأ الذي قام به أوباما حين حدد مواعيد نهائية لانتهاء المهمة في أفغانستان، وذلك أن كيسنجر يرى أن هدفا مثل تأسيس حكومة مركزية في بيئة أفغانية هو شيء لا يمكن أن يُلتزَم فيه بالوقت، لكونه يحتاج أمدا طويلا.. والسبب في هذا أن أفغانستان لم تتعود على هذه الحكومة المركزية، يقول: "فقدنا التركيز الاستراتيجي. لقد أقنعنا أنفسنا أنه في نهاية المطاف، لا يمكن الحيلولة دون إعادة إنشاء القواعد الإرهابية إلا من خلال تحويل أفغانستان إلى دولة حديثة ذات مؤسسات ديمقراطية وحكومة تحكم البلاد بطريقة دستورية. ومثل هذا المشروع لا يمكن أن يكون له جدول زمني قابل للتوافق مع العمليات السياسية الأمريكية"، ويواصل قائلا: "إن بناء دولة ديمقراطية حديثة في أفغانستان، بحيث تسري أوامر الحكومة بشكل موحد في جميع أنحاء البلاد يعني ضمنا أن يكون هناك إطار زمني يمتد لسنوات عديدة، بل عقودا؛ وهذا ما يصطدم مع الطبيعة الجغرافية والعرقية الدينية لأفغانستان. لقد كان تناثر مناطق أفغانستان، وعدم إمكانية الوصول إليها وغياب السلطة المركزية هي على وجه التحديد التي جعلت منها قاعدة جذابة للشبكات الإرهابية في المقام الأول"[5].

وكان هنرى كيسنجر نفسه، حين بدا له الانسحاب الأمريكي وشيكا من أفغانستان، قد أراد تحريض سائر دول المنطقة ليكملوا هم ما فشل فيه الأمريكان، فنادى على باكستان وإيران وروسيا والصين، أن انهضوا للحفاظ على أمنكم بعد أن يرحل الأمريكان عن أفغانستان، فأنتم أشد حاجة من أمريكا إلى هذا الأمان[6].. وصدق الذي قال: برز الثعلب يوما في ثياب الواعظين!

تحتاج التجارب الإسلامية اليوم إلى اجتهاد ذكي ومنضبط، يراعي تنزيل الشرع الإسلامي على أرض الواقع غير الإسلامي، وفي بيئة المنظومة الدولية التي شكلتها الهيمنة الكُفرية على العالم، فإنه لن يمكننا الانخلاع من العالم ولا من تقاليد الحكم فيه مرة واحدة، كذلك لن يمكننا تطبيق الإسلام كما كان في عهد النبي والراشدين دفعة واحدة. يجب على الأقل أن نعرف ماذا نريد وأن نحث السير إليه، حتى لو كانت الظروف لا تسمح بتطبيق ما نريد على النحو الذي نريد.

وفق الله رجال الإمارة الإسلامية لما فيه خير البلاد والعباد.. وأسأل الله تعالى كما أيدهم بالنصر على أعدائه وأعدائهم أن يؤيدهم بالنصر على أنفسهم وأن يستعملهم في مرضاته وأن يُمَكِّن لهم خير ما يمكن به لعباده الصالحين.

نشر في مجلة الصمود - الناطقة بلسان الإمارة الإسلامية في أفغانستان - سبتمبر 2025



[1] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص114، وما بعدها.

[2] روبرت جيتس، الواجب، ص238.

[3] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص139.

[4] روبرت جيتس، الواجب، ص248.

[5] مقال هنري كيسنجر في الإيكونوميست بتاريخ 25 أغسطس 2021م.

[6] هنري كيسنجر، النظام العالمي، ص313، 314.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق