علم الطبقات هو علم انفرد به المسلمون،
ولم تعرفه الأمم الأخرى، وبه تميزت المدرسة التاريخية الإسلامية عن غيرها من
المدارس التاريخية، وعن الحضارة الإسلامية نقلته الحضارات الأخرى.
وما هذا بعجيب، والسبب فيه أن المسلمين
أصحاب أدق وأضبط مدرسة علمية تاريخية، وذلك أن علم التاريخ عند المسلمين هو فرع من
علم الحديث النبوي الشريف وقد نبت في تربته، فإن المسلمين بعض دينهم تاريخ وبعض
تاريخهم دين! فمن هنا نمت حركة علمية شديدة الصرامة لتدقيق هذا التاريخ بدافع
ديني، فأثمر ذلك علوما لم تكن الأمم الأخرى تعرف مثيلا لها، منها علوم الحديث،
ومنها علم التراجم والرجال والطبقات.
فأما علم الطبقات فهو علم يتتبع أجيال
العلماء، ويشبهه بعض المعاصرين بعلم اجتماع المعرفة، إذ هو تتبع للانتقال العلمي
بين الأساتذة والتلاميذ، ثم التلاميذ الذين يصيرون في الجيل التالي أساتذة لغيرهم،
وهكذا.. وفي حياة أولئك، وفي هذه النوعية من الكتب نبصر أمورًا من تاريخ العلم
والعلماء لا تكاد توجد في غيره، هذه الأمور هي أقرب إلى ما يسمى الآن "علم
اجتماع المعرفة"!
وقد كتب علماؤنا في كل علم كتبا في
الطبقات، فالمكتبة الإسلامية زاخرة بالكتب في طبقات القراء والمفسرين والحفاظ والمحدثين
والفقهاء والنحاة والقضاة والشعراء والأطباء والفلكيين والحاسبين والمنجمين، بل
نقل المقريزي في خططه عن كتاب في طبقات المزخرفين، كان عنوانه: "ضوء النبراس
وأنس الجُلَّاس في أخبار المُزَوِّقين من الناس".
فحُقَّ لك عزيزي القارئ المسلم أن تشعر
بالفخر لأنك ابن الحضارة الإسلامية.. وهذه مقدمة مُسَكَّرة أعطيها لك قبل أن أدخل
بك إلى دهاليز المرّ وحدائق الحنظل، فلقد بدا لي أن نكتب في فرع جديد من الطبقات، وهو
"طبقات المُطَبِّعين"!
والمُطَبِّع، كما لا يخفى على أبناء
هذا الجيل، هو ذلك الخائن الذي يؤيد نشوء علاقة طبيعية مع المحتل الذي سلب بلاد
المسلمين ولا يزال يقتلهم، ولكنه لفظ لطيف مهذب، ولك أن تتأمل ماذا يمكن أن يوصف
به مسلم طالب بالاعتراف بحق الإمارات الصليبية في الوجود، ودعا إلى قبول وجودها
وإنشاء علاقات طبيعية معها؟!.. لا وصف له إلا الخيانة! ولكن حيث أننا نعيش في عصر
الخيانة نفسها فلا بد أن تبتكر الخيانة ألفاظا جميلة لتسويق نفسها، فخرج لنا هذا
اللفظ المائع الغائم!
من الكتب الجيدة التي يمكن أن نستفيد
منها في إنتاج كتاب "طبقات المُطَبِّعين": كتاب السفير الإسرائيلي
الثاني في مصر، موشيه ساسون، حيث قد سجل الرجل ذكرياته في مصر، وأخرجها بعنوان
"7 سنوات في بلاد المصريين"، وهو مترجم ومنشور.
وهو من كتب المذكرات المهمة التي قد
نستعرضها في مقال يومًا ما، لكن الذي يهمنا منه الآن أن هذا الرجل، وعبر هذا
الكتاب، يعطينا صورة عن نشأة التطبيع وعن المطبعين الرواد الأوائل الذين كانوا
طليعة القافلة السائرة إلى مزبلة التاريخ!
وفي الحديث عن المطبعين الرواد
الأوائل، لا بد أن نذكر شيئيْن:
الأول: أنهم –وكما قال نبينا صلى الله
عليه وسلم- "من سنَّ في الإسلام سنّة سيئة فعليها وزرها ووزر من عمل بها إلى
يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا"، وذلك أنهم أول من اجترأ على
الخيانة وفتح لها الباب ومهد الطريق لمن بعده.
والثاني: أنهم كانوا أكثر حياء وترددا
وارتباكا ممن جاء بعدهم، فلقد كانوا يزاوجون ويراوحون بين ارتكابهم للخيانة وبين
تسويقها للشعوب العربية المسلمة التي ترفضها باعتبارها مصلحة للعباد والبلاد
وباعتبارها فكرة جديدة جديرة بالأخذ بها. وهو الأمر الذي اختفى تماما لدى المطبعين
في الجيل الثاني، إذ لم يعد هؤلاء يترددون ولم يعودوا يبحثون عن الذريعة لتبرير
خيانتهم، بل يرتكبونها جهارًا نهارًا، في فجاجة لا تعرف الخجل ووقاحة لا تعرف
الحياء!
يذكر السفير موسيه ساسون أنه منذ تولى
مهمته في مصر وهو يحمل ثلاثة تخوفات، أهمها: ماذا قد يكون مصير هذا السلام إذا
تحاربت إسرائيل مع دولة عربية أخرى؟!
كان السادات ونظامه يُسَوِّقون قرارهم
بالسلام المنفرد مع إسرائيل باعتباره قرارا جريئا وشجاعا وحكيما، وأن إسرائيل تفي
بالتزاماتها وأنها أيضا تريد العيش بسلام، وأن حرب أكتوبر من الممكن أن تكون آخر
الحروب، بل هي قطعا آخر الحروب بالنسبة إلى مصر. وكلما بدرت بادرة من إسرائيل
توافق هذا المسعى زاد افتخار النظام المصري بحكمة القرار!
لكن الأيام لن تبخل بالإجابة، فلقد
عملت إسرائيل على "خطف" السلام من مصر، ثم الانطلاق للتصرف في المنطقة
كأن مصر لم تعد موجودة أصلا، ولذا ظل السادات يفاجأ بالقرارات التي تحرجه مثل ضم
القدس وضم الجولان، ثم ضرب المفاعل النووي العراقي في صيف 1981م، وقد حصل ضرب
المفاعل بعد ثلاثة أيام فحسب من اجتماع مناحم بيجين مع السادات في شرم الشيخ!! ومن
الطريف هنا أن السفير سجَّل لقاءه الخاص بالسادات في الإسكندرية، حيث مارس السادات
مشاهده الدرامية والمسرحية، وأخذ يحدث الهواء وهو ينفث غليونه ويقول: "الله
يسامحك يا مناحم"، "ليه تعمل كده يا بيجين"، "شكلي إيه دلوقتي
قدام السوفيت والروس؟!".. إلخ!
ولما جاء مبارك بعد السادات وجد نفس
الموقف أيضا، إسرائيل تدخل إلى لبنان (1982م)، وتدفع بجيشها إلى أعماقه ثم تجتاح
بيروت، ثم تقع مذبحة صابرا وشاتيلا حيث يموت فيها آلاف الفلسطينيين! ثم تغتال أبو
إياد في تونس.. وهكذا!
والسلطة المصرية تشعر بأن كل تصرف من
هذا النوع هو بمثابة الصفعة التي تُوَجَّه إلى سياستها، وإلى سلامها المنفرد مع
إسرائيل. ومع ذلك فهي تصر إصرارا بالغا على أن كل هذا لن يؤثر على عملية السلام،
وأن السلام خيار استراتيجي لا تراجع عنه، وهو الأمر الذي كان يزيد من اندفاعة
إسرائيل، ويزيد من نجاح السفير في احتواء المشكلات!
لم يجد المطبعون الرواد الأوائل إلا أن
يمطروا السفير برسائل الاحتجاج الرسمية، أو يمارسوا استدعاء السفير المصري من تل
أبيب للتشاور، أو يمتنع رجالهم الرسميون عن حضور الحفلات التي يقيمها السفير
الإسرائيلي، أو التباطؤ في تلبية طلباته للقاء مع الرئيس.. وهكذا! وذلك مع ترك
المجال مفتوحا للصحافة والإعلام ليكتبوا ما شاءوا، وقد استغرب السفير أحيانا من
هذا الوضع، وسفَّه من تفكير النظام المصري لو كان يظن أن مجرد هذه الأمور سيمثل
ضغطا على إسرائيل!
لم يجد السفير الإسرائيلي مكانا في
الصحافة المصرية لينشر فيها بياناته، وكان غاية ما يستطيع أن يفعله هو أن يتصل
بإذاعة إسرائيل الناطقة بالعربية ليعرب عن مواقف إسرائيل ويبررها باللغة العربية!
ولما حضر حفلا مسرحيا وفوجئ بردة فعل الصحافة امتنع عن حضر مثله، وكانت وقفة
النقابات بالإضافة إلى هذا النوع الخجول من "الغضب" الذي يبديه النظام
المصري، قد جعل السفير منبوذا رغم شدة اجتهاده في فتح العلاقات بين المصريين
والإسرائيليين.
والآن، إذا حاولنا المقارنة بين طبقات
المطبعين بين هؤلاء الرواد الأوائل، وبين هؤلاء المعاصرين فإن المشهد يبدو مدهشا، فالمطبعون
المعاصرون قد صاروا نسخة صهيونية، إعلامهم وقنواتهم وصحافتهم تنطق بلسان صهيوني
عربي فصيح! والناس ممنوعون من نقد إسرائيل على مواقع التواصل! فضلا عن التظاهر!
وسائر المذابح التي تحدث لا تحرك في العلاقات مع الصهاينة شعرة! بل إن المطبعين
المعاصرين شركاء أصلاء في هذه المذابح!
ترى هل تصور الرواد المطبعون أن يكتب
أحد السائرين في قافلتهم عبارة تقول: "لك العتبى يا نتنياهو حتى ترضى"؟!
نصر الله قريب
ردحذفاللهم اخذهم هم ومن علي شاكلتهم
ردحذفاخزهم
حذف