الاثنين، يوليو 03، 2023

الحج.. الفريضة التي أنشأت دولا وأشعلت مقاومة ومزجت بين المسلمين

 

من بين عشرات المؤتمرات التي حضرتها، لم أنتفع بواحدة منها كما انتفعت بمؤتمر "طرق الحج في إفريقيا" الذي انعقد في جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم، قبل سبع سنوات، عام 2016م، فلقد قُدِّم في هذا المؤتمر نحوٌ من ستين ورقة علمية تبحث في هذا الموضوع، فوجدتني أمام بحر خضمٍّ من العلم الجديد النافع، وشعرتُ للمرة الأولى بالتأثير الفاصل الضخم لشعيرة الحج في حياة الأمة الإسلامية[1]، وكم تشوقت لحضور مؤتمر مماثل عن طرق الحج من آسيا ومن أوروبا، إذن لتمَّت الفائدة!

لقد كانت شعيرة الحج سببا في نشوء دول إسلامية عظيمة، وفي تطوير دول مسلمة متخلفة تعرَّف أمراؤها ووزراؤها في رحلتهم إلى الحج على طرائق وأساليب تُنَمِّي بلادهم، واصطحبوا معهم أحيانا رجالا يهتدون بعلمهم في الدين أو في الدنيا، وقد سلك المسلمون في طريقهم إلى الحج طُرُقًا، فإذ بهذه الطرق تنبت على ضفافها مراكز تجارية وسرعان ما تتحول إلى قرى ثم إلى مدن عامرة. وكم كان في بلاد المسلمين موارد لا تجد الأيدي العاملة، ومشروعات لا تجد من ينفذها، فجاء الحجاج المارون بها والذين قد احتاجوا إلى النفقة، فظلوا يعملون بها حتى يوفروا ويستكملوا أجرة الطريق إلى البيت الحرام، فتمَّت المشاريع بفضل هؤلاء الحجاج. وكم نشأت في طرق الحج من المبادلات التجارية، ثم من المصاهرات والأنساب ما تمازجت به الشعوب والقبائل وتضافرت وتعارفت، ما كان هذا كله ليحدث لولا الحج. وكم اصطحب المسلمون معهم من العلماء والدعاة ومن الشعراء والأدباء ومن التجار والخبراء ما تغيرت به أحوال بلدانهم في الدين والدنيا معًا.

إننا أمام مشهد حافل بالقصص الفارقة المؤثرة في تاريخ المسلمين، وكلما ازداد المرء علمًا بهذه القصص استشعر هذا الفضل العظيم لرحلة الحج على المسلمين.

في هذه السطور، سأذكر بعض شذرات منثورات من هذه القصص، أحاول بها فتح الباب للقارئ الكريم ليتأمل ويتدبر في فضل الحج على المسلمين، وخير القرّاء من سيُعْمِل ذهنَه وعقلَه في تطوير الاستفادة من رحلة الحج لخير المسلمين في دينهم ودنياهم في قابل الأيام.

 

(1)

كانت دولة المرابطين، تلك الدولة الإسلامية العظيمة، ثمرة من ثمرات الحج، ففي رحلته إلى الحج التقى يحيى بن إبراهيم الجدالي ببعض العلماء، فعرف أن قومَه في ضلالة، فاصطحب معه الفقيه المؤسس عبد الله بن ياسين، فكانت هذه بذرة دولة المرابطين.. هذه الدولة استطاعت توحيد المغرب الأقصى، ثم دافعت عن الأندلس وأجَّلت سقوطها لقرن على أقل تقدير، ونشرت الإسلام في غرب إفريقيا!.. ولو تصوَّرنا تاريخ المغرب بغير دولة المرابطين لوجدنا أنفسنا أمام صورة كئيبة للغاية لمسار التاريخ في ذلك الوقت!

وقريبا من هذا أيضا حالة دولة الموحدين المغربية، فقد أنشأها محمد بن تومرت بعد رحلته إلى المشرق، وكان منها رحلته إلى الحج، وهذه الدولة أيضا كان من مزاياها دفاعها عن الأندلس، وكانت أوسع مساحة من دولة المرابطين، ولها سهم في معاونة صلاح الدين يوم كان يحارب الصليبيين، إذ أمدَّته برجال وسلاح في البر والبحر!

 

(2)

قام الحجُّ بدور عظيم في إشعال حركات المقاومة ودعمها ضد الاحتلال الأجنبي، ومن أشهر ما يُذكر في ذلك ما تدفق على مصر إبان الحملة الفرنسية، إذ ما إن تسامع أبناء الحجاز بأن الفرنسيس احتلوا مصر حتى نزلت منهم جماعات لمحاربتهم إلى جوار إخوانهم المسلمين في مصر.

ومثلُ ذلك حصل أيضا في السودان أيام الحركة المهدية ضد الاحتلال الإنجليزي، إذ كان الحجاج هم من حملوا أخبار المهدي من السودان إلى الحجاز، فتدفق عليه الأنصار الذين قاتلوا الإنجليز ذلك القتال الباسل المشهور الذي هو من مفاخر هذه الأمة في ظل موازين قوى منهارة لصالح المحتل!

ولهذا ظلت السلطات الإنجليزية تراقب حجاج مستعمراتها، وتعمل جهدها على أن تحاصر ما يتسرب إليهم من أفكار المقاومة، سواءٌ بتعويق الحج نفسه، أو بوضع السياسات المختلفة لدى حكام مستعمراتها أو لدى صنائعها في نجد والحجاز لتحول دون ذلك.

ولأجل ذلك حضر الحجُّ في المنازعة بين السلطان عبد الحميد والاحتلال الأجنبي، وظهر ذلك بقوة في خط سكة حديد الحجاز، الذي أراد به عبد الحميد توثيق الصلات بين أنحاء السلطنة العثمانية في العراق والشام والحجاز وبين عاصمة الخلافة ومن ورائها ديار المسلمين في أوروبا كالبلقان ونحوها، بينما سعى الإنجليز جهدهم لتعويق هذا الخط، حتى تمكنوا من تعطيله على يد صنائعهم فيما بعد.

وظهر أيضا في رحلات الحج التي قام بها الولاة المسلمون، إذ كان عبد الحميد حريصا على الحفاوة بهم في الحجاز، ويرسل تعليماته إلى ولاة مكة والمدينة، فينشأ بينه وبين هذه الأنحاء صلاتٌ سياسية تُقَوِّي ما ضعف أو انقطع من الروابط الإسلامية، ومن أمثلة ذلك حجُّ سلاطين زنجبار، وما لقوه من الحفاوة بتوجيه من عبد الحميد، وهو الحج الذي كان بداية تواصل العلاقة بين زنجبار والدولة العثمانية، مما سخط له الإنجليز، وسبب لهم المشكلات في مستعمرتهم الإفريقية[2].

 

(3)

ذكر د. محمود مكي، من شيوخ المؤرخين السودانيين، خلاصة نفيسة لأبحاثه في تاريخ الإسلام في قارة إفريقيا، تلك هي أن المناطق التي مرَّت بها طرق الحج هي المناطق التي ازدهر فيها الإسلام وانتشر، والعكس صحيح، ولهذا فإن سكان غرب إفريقيا هم الأكثر حبا للعرب والإسلام، ومن هنا أيضا، فإن الاحتلال الأجنبي لما احتل القارة الإفريقية عمل على عرقلة الحج، فصار يضع العراقيل ويعطل الموانئ، مما تسبب في تراجع وتناقص انتشار الإسلام في بعض المناطق مثل جنوب السودان.

قلتُ (إلهامي): وهو الأمر الذي دفع المسلمون ثمنا فادحا له ببقاء جنوب السودان وقد غلبت عليه الوثنية، مما أدى مع المؤامرات وطول الزمان إلى انفصال جنوب السودان، ثم إلى المحاولات المعاصرة لتمزيق السودان نفسه كذلك.

ونحن نرى الحجَّ قد ربط بين المسلمين في المشرق والمغرب برباط وثيق، ففي أقصى المشرق في ماليزيا وإندونيسا، وكذلك في أقصى المغرب الإفريقي نرى أسماء البنات والشوارع وغيرها تحفل باسماء مثل: زمزم، صفا، مروة، كعبة، مكة.. هذا فضلا عن لقب "الحاجّ" الذي جعل لصاحبه رنينا محببا في الأسماع والقلوب، واختلط في بعض البيئات الإسلامية بمعنى العلم والسيادة والولاية.

وإذا استحضرنا أن الحج قديما لم يكن كما هو الآن، بالطائرات والباخرات والحجز المسبق الذي تنظمه السفارات ومكاتب السياحة ذات الترتيب المسبق والمواعيد الدقيقة، إذا استحضرنا هذا علمنا أن الحاج قد يستغرق الشهور والسنين، وقد يتعرض في الطريق للمعوقات كانقطاع الطريق ووقوع المرض ونفاد المال وآفات الصحاري والأدغال من السباع والحيوانات، لهذا كله قد يخرج الحاج من بيته ثم يتأخر في الطريق فلا يدرك الحج، فيبقى حيث وصل في مصر أو السودان أو العراق أو الشام سنة أخرى حتى يأتي موعد الحج، فيقضي هذا الوقت في العمل أو في طلب العلم أو في التجارة، وقد يتزوج ويطيب له المقام. لقد أثمر هذا كله تمازجا إسلاميا قويا بين الشعوب البعيدة، والتي ما كان لها أن تتعارف ولا أن تتصاهر لولا رحلة الحج.

وربما وصلت رحلة الحج إلى عشر سنين، وربما خرج الرجل وزوجته معه فاستكملا حياتهما معًا في رحلة الحج، ومن طريف ما يُذكر هنا ما رواه فيلبي من أنه رأى في الحج رجلا بدأ رحلته إلى الحج هو وزوجته ومعهما ولد واحد، فظل يمضي ويعمل –كغيره من أهل إفريقيا- في مزارع القطن بالسودان حتى يستكمل نفقة الرحلة، فلما انتهت رحلته إلى الحج كانت قد استغرقت 14 سنة، وصار له من الأولاد ستة!! بل ذكر فيلبي أنه رأى رجلا قضى في رحلة الحج سبعين عاما، وذلك أنه أخذ يقيم في كل حاضرة علمية فيتلقى العلم فيها زمنا حتى وصل إلى مكة[3]!! وهذا إن لم يكن من مبالغات فيلبي، فإنه ربما يكون خلطا من الرجل نفسه، إذ كان طاعنا في السن وقتها.

ومن اللطائف التي استفدتها من د. ربيع الحاج، في هذا المؤتمر، أن الموانئ التي أقامها الإسلام في السواحل الشرقية لإفريقيا كانت تنعم بالأمن والأمان، إذ تعايش فيها الحجاج من أهل البلاد بأخوة الإسلام، على عكس الموانئ التي أنشأها الاحتلال الأجنبي فيما بعد، والتي قامت أساسا للتجارة وامتصاص موارد البلاد، فقد كانت تعجّ بالمشكلات والاضطرابات!

 

(4)

بعض الطرق ما كانت لتنشأ ولا لتتمهد لولا الحج، من أصعبها وأشهرها ذلك الطريق الصخري الذي شقَّه الشيخ الملك عجيب المنجلك إلى سواكن، وحجَّ منه بالفعل، فزار مكة والمدينة وأوقف بها أوقافا كثيرة على الحرمين، في ذلك المؤتمر سمعتُ اسم الشيخ عجيب لأول مرة، ثم تبيَّن أنه كان من الملوك العلماء العادلين، ألَّف عنه د. صلاح محيي الدين كتابه "الشيخ عجيب والدولة الإسلامية في سنار".

وبعض الممالك ما كانت لتتطور لولا الحج، ومن أشهر ما يُذكر في ذلك أن سلطان مملكة كانم وبرنو الإفريقية (في وسط إفريقيا الآن بين تشاد والنيجر ونيجيريا) الذي أدى الحج عاد إلى مملكته بالأسلحة النارية، فكان للسلطنة في وقته مهابة ومكانة وسمعة كبيرة، واستقدم الأتراك واستعملهم في صناعة السلاح ومصانع البارود.

وبعض العلوم ما كانت لتنتقل لولا الحج، وهذا حديث طويل جدا جدا جدا، وإذا شئنا أن نضرب مثلا في انتشار العلم عبر طريق الحج، فسنجد مثالا ناصعا في رحلة الحج للشيخ العلامة الكبير محمد الأمين الشنقيطي، صاحب تفسير "أضواء البيان"، فقد سَجَّل الشيخ رحلته إلى الحج، فقَيَّد فيها ما طُرح عليه من الأسئلة في البلاد التي مرَّ بها، وكان السائلون من قضاة البلاد وأعيانها، والقارئ لهذه الرحلة يجدها قد احتشدت وتكدست بما فيها من العلوم في العقيدة والكلام والفقه والأصول والتفسير والحديث والأدب والشعر، فوق ما فيها بالتبعية من المعرفة بالبلدان والأعيان والأحوال الاقتصادية والاجتماعية لهذه النواحي.. وسائر هذه البلدان هي التي مرَّ بها الشيخ في طريقه إلى الحج.

وكنتُ قد قدمتُ في هذا المؤتمر ورقة عن تاريخ مصر والتطور الذي حصل فيها بين رحلتيْ اثنين من المستشرقين: جوزيف بيتس وريتشارد بيرتون، فلقد كان من بركات هذه الفريضة أنها احتفظت لنا بمشاهد من تواريخ بلادنا ضمن رحلات الحج التي سجلها الرحالة الزائرون، ونرى فيما بين الرحلتيْن كيف انحطت أحوال مصر وصارت مطمعا للأجانب في عهد أسرة محمد علي، على غير ما هو شائع في التاريخ المصري المعاصر[4].

وهكذا تظل رحلة الحج تواصل عطاءها في التقريب بين المسلمين، وتمتين ما بينهم، وتغذية المعارف والعلوم، وتوثيق الصلات والعلاقات، والتعاون على البر والتقوى، ومن يدري: لعل فرج أمتنا وخروجها من نكبتها المعاصرة تكون بذرته التقاء رجليْن أو ثلاثة في رحلة الحج هذا العام، أو العام الماضي أو العام المقبل.. يدبر الله الأمر ويصرف المقادير، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

نشر في مجلة أنصار النبي، يوليو 2023



[1] وقد نُشِرتْ أوراق هذا المؤتمر في كتاب من أربعة أجزاء، وكان الكتاب منشورا على موقع الجامعة حتى وقت قريب، قبل أن تبتلى السودان ببلواها الأخيرة التي أفسدت كل شيء، ومن ضمن ما فسد: موقع الجامعة، وما عليه من المواد!

[2] صالح محروس محمد، "رحلات حجاج شرق إفريقيا وأثرها في القرنين التاسع عشر والعشرين"، ضمن: مؤتمر طرق الحج في إفريقيا، 2/18، 19.

[3] فيلبي، حاج في الجزيرة العربية، ط1 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2001م)، ص38، 39.

[4] لمطالعة الورقة، ينظر: محمد إلهامي، في أروقة التاريخ، الجزء الأول.

هناك 3 تعليقات:

  1. بارك الله فيك ، ونفع بك ، معلومات قيمة ونافعة ....جزاك الله كل الخير

    ردحذف
  2. غير معرف3:27 م

    لذلك ابن سلمان اليوم يضع شروط تعجيزية للناس لكي لايستطيعوا الوصول لمكة وخصوصا موضوع القرعة انا والدي ظل عشرة سنوات وهو يقدم على العمرة ولا يفوز بالاظافة الان الى المبالغ الضخمة والتي اغلب الناس لا يستطيعون تحملها .بوركت جهودكم ووفقكم الله لمًا يحبه ويرضاه

    ردحذف
  3. غير معرف7:04 م

    جزاكم الله خيرا ونفع بعلمكم المسلمين حتى ننهض من غفلتنا

    ردحذف