شاء الله تعالى وقدَّر، وهو الحكيم
اللطيف، أن نشهد زلزالا في الأرض في ذات الوقت الذي نعيش فيه ذكرى زلزال في النفوس
والقلوب، وكلاهما من الزلازل الإيمانية! فإن المرء لو سلم له دينه فذهب إلى الله
بقلب سليم فقد نجا، وأما إذا تزلزل إيمانه في قلبه، فدخلته الشبهة والشك فتلك هي
الكارثة العظمى، وهذا هو الخسران المبين.
(1)
بعث الله هذا الزلزال الذي أصاب تركيا
وسوريا، فكان آية عظيمة شاهدة على قوة الله وقدرته، وجبروته وسطوته، وشاهدة على
ضعف الإنسان وضآلته، وبساطته وقلة حيلته! وتأمل في المدن العامرة، وما حوته من
البنايات العريقة والعتيقة، والبنايات الحديثة والأنيقة، كيف تنهار وتصير خرابا في
خمسين ثانية فحسب!!
وأبلغ ما في هذا الزلزال أن الإنسان لا
يملك أن يفعل إزاءه شيئا، وذلك العجز هو عجزٌ شامل! يسأل معه الإنسان إذا دهمته
الكارثة: أين المفر؟!
لأول مرة أنتبه إلى بعض المعاني في
آيات القرآن الكريم..
يقول تعالى: {أأمنتم من في السماء أن
يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور؟! * أم أمنتم في السماء أن يرسل عليكم حاصبا؟! فستعلمون
كيف نذير!}
كنت أرى في هذه الآية طلاقة القدرة
الإلهية، فإذا بي أقرأ فيها الآن، إضافة إلى ذلك، عجز هذا البشري، فإنه عاجز أمام
أنواع العذاب! فأيما عذاب جاءه أصابه، لا مفرّ ولا محيص ولا مهرب!
ويقول تعالى: {وإذا مسكم الضرّ في
البحر، ضلّ من تدعون إلا إياه، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم. وكان الإنسان كفورا * أفأمنتم
أن يخسف بكم جانب البر؟ أو يرسل عليكم حاصبا؟ ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن
يعيدكم فيه (البحر) تارة أخرى، فيرسل عليكم قاصفا من الريح، فيغرقكم بما كفرتم؟!}
كنت أرى في هذه الآية انقشاع وهم
الإنسان وعودة العقل والوعي له حين يحل الخطر، فإذا بي أقرأ فيها الآن، إضافة إلى
ذلك، فقدان هذا الإنسان السيطرة على نفسه، فهو يتضرع في البحر، ولكنه لا يأمن على
نفسه أن يُخسف به البر، بل هو قد يعود بنفسه إلى البحر مرة أخرى من بعد ما كاد
يهلك، لا يعود بمحض رغبته، بل يعيده الله إليه! فهو المجبور المقهور وإن كان يظن
نفسه مختارا ومريدا!
ويقول تعالى: {أفأمن أهل القرى أن
يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون؟ * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم
يلعبون؟ * أفأمنوا مكر الله؟! فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}
كنت أرى في هذه الآية غرور الإنسان
وغفلته وتوهمه أنه في أمان، فإذا بي بعد هذا الزلزال أرى فيها إضافة إلى ذلك معنى
آخر، هو معنى العجز التام.. فسواءٌ جاء بأس الله بالليل وهو نائم، أو جاء بأس الله
بالضحى وهو يلعب، فلا يملك له دفعا ولا صرفا!
ومثل ذلك قوله تعالى: {أفأمن الذين
مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض؟ أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون؟ * أو
يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين؟ * أو يأخذهم على تخوف، فإن ربكم لرؤوف رحيم}
فهو هالك سواءٌ أجاء الخسف أم جاء عذاب
آخر أم جاء يوم القيامة!
وهو هالك سواءٌ أجاءه العذاب وقت يقظته
وصحوته وتمكنه وأعماله، أو جاءه وقت حذره وترقبه واستعداده..
هو هالك في كل الأحوال، لأنه أضعف من
أن يصنع لنفسه شيئا، حتى لو كان يعلم متى يقع هذا البأس، وأين يقع؟!
يبعث الله الزلازل آيةً من آياته، يضل
بها كثيرا ويهدي بها كثيرا.. يزداد بها بعض الناس إيمانا، ويزداد بها بعض الناس
كفرا وفجورا وعصيانا.. تنزل ببعض الناس فتوقظهم وتهديهم إلى طريق الله، وتنزل
بآخرين فتشككهم بالله وتعبث بإيمانهم!
زلزالٌ في الأرض يناظره زلزال في
القلوب، وكما تصمد المباني الراسخة لزلزال الأرض يصمد الإيمان الراسخ لزلزال
القلب، وينهار الإيمان الهش كما تنهار المباني الهشة!
وهكذا.. لكل وجهة هو موليها!
(2)
نعم، لكل وجهة هو موليها..
نزلت هذه الآية، في زلزال آخر، زلزال
من زلازل الإيمان.. وذلك عند حادث تحويل القبلة!
سمع حذيفة ابن اليمان رجلا يقول: لو
أني أدركت رسول الله لجاهدت وفعلت، فقال له: انظر ما تقول يا ابن أخي، ثم تلا عليه
موقفا عصيبا عاشه مع النبي في الخندق، يقول النبي: من يأتنا بخبر القوم جعله الله
معي في الجنة؟ فلم يقم أحد، ثم كررها فلم يقم أحد، ثم كررها ثالثة فلم يقم أحد،
حتى قال النبي: قم يا حذيفة.
هذا مثال من المواقف العصيبة التي عبر
عنها القرآن بالزلزال الشديد! موقف غزوة الأحزاب، وفيها يقول تعالى {هنالك ابتلي
المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}.
إن الصحابة لم يبلغوا هذه المرتبة
العليا إلا بما اجتازوه من المحن الهائلة، ومن هذه المحن: محنة تحويل القبلة،
فإنها والله أمر كبير وشديد، ونحن نرى كثيرا من المسلمين بل من المنتسبين إلى
الدعوة والعلم يتساقطون أمام شبهات ضعيفة، وينهزمون نفسيا أمام حملات إعلامية،
فكيف بنا لو عشنا في زمن النبي فقيل لنا: لقد تحولت القبلة، كنا نصلي الظهر إلى
بيت المقدس، ومنذ الآن سنصلي إلى الكعبة؟!!
كيف يفعل الناس في ظل حملة إعلامية
ثلاثية:
1.
يقول المنافقون: ما يدري محمد أين يتجه
ولا إلى أي جهة يصلي! فإن كان الذي مضى حقا فهو الآن على باطل، وإن كان الذي مضى
باطلا فكيف كان نبيا؟!
2.
ويقول اليهود بالأمس: يتبع قبلتنا ولا
يتبع ملتنا. ثم يقولون اليوم: فارق قبلة الأنبياء قبله فكيف يكون نبيا؟!
3.
ويقول المشركون: عرف الحق فعاد إلى
قبلتنا، وغدا يعود إلى ملتنا!
محنة أي محنة، وقد ذكر الله في كتابه
هذا فقال {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب
على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}
نعم، هي كبيرة، ومن تأمل في الموقف
واستحضره وعاش أجواءه عرف أنه ابتلاء وزلزلة للصف المسلم، ولقد شاء الله أن يكون
هذا الابتلاء والمسلمون مقبلون على مرحلة الجهاد.. المرحلة التي قال الله فيها
{فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك
نظر المغشي عليه من الموت}.
قد عافانا الله أن لم نكن مع رسول
الله، فمن يدري ماذا كنا سنكون؟ هل كنا سنكون مع الذين هدى الله ممن تجذر الإيمان
فيهم؟ أم مع الذين تعمل الشبهات في زلزلة إيمانهم ويقينهم في الحق الذي جاء به
رسول الله؟!
لقد مهَّد لنا هؤلاء الصحابة طريق
الإيمان، وواجهوا بأنفسهم أعتى عثراته وصعوباته، لقد ضربوا المثال العظيم في
انخلاعهم التام من عاداتهم وتقاليدهم ونظام آبائهم وأجدادهم، بل ومحاربتهم إياهم
في سبيل هذا الدين! فكان الواحد منهم يقرأ في كتاب الله عذاب أبيه وأخيه، لا
يداخله اعتراضٌ ولا سخط! لقد عبر هؤلاء الصحابة ابتلاء الإيمان الكبير، وجاهدوا في
سبيل الله أنواع الجهاد كلها: جهاد النفس وعاداتها وأثقالها وشهواتها ونزقها،
وعبروا الشبهات، وجهاد المنافقين وما يثيرونه من شبهات وتخذيل وتثبيط وفتن، وجهاد
الكفار بالقتال والسلاح.
(3)
ومن سار على الدرب فلا بد أنه يلاقي
شيئا مثل هذا، فإن درب الأنبياء والصالحين يقيم به قطاع الطرق والشياطين {وكذلك
جعلنا لكل نبي عدوا، شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا،
ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون
بالآخرة، وليرضوه، وليقترفوا ما هم مقترفون}
إن الأعداء يقيمون في طريق الأنبياء،
وإن مهمتهم أن يقتنصوا السالكين أتباع الأنبياء، يتعاونون فيما بينهم على إثارة
الشبهات عند كل موقف وكل نازلة، يريدون بذلك زلزلة الإيمان في نفوس الناس، يوحي
بعضهم إلى بعض زخرف القول، أي الشبهة المزخرفة المتزينة التي تبدو جميلة ومنطقية
ومقنعة، بينما هي تنطوي على السم الزعاف القتّال.
وهذه الشبهة تعمل بقوة وتؤتي غرضها إذا
أصابت قلوبا منقطعة عن الآخرة، فهذه القلوب تتشرب هذه الشبهة، فترضاها وتطمئن
إليها، ثم تمضي بعد ذلك في طريق الضلال.
وذلك ما يفسر لنا، كيف تكون الحادثة
الواحدة نفسها فرقانا بين الناس، تزيد بعضهم إيمانا، وتزيد بعضهم كفرا.. إن تفسير
ذلك كامن في هذا القلب، وفي الإيمان الكامن فيه، وهو مصداق حديث نبينا صلى الله
عليه وسلم "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد
الجسد كله، ألا وهي القلب".
نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياكم من
زلازل الإيمان، وزلازل البلدان!
احسنتم
ردحذفنسال الله السلامة و العفو و العافية في الدنيا و الاخرة.
جزاك الله خيرا
ردحذف