لكم وددت أن
تكون كتابتي عن مذكرات الشيخ صالح الشامي في حالٍ أحسن من هذا!
إنني أكتب الآن
في ظل خبر اعتقاله -المنشور بالأمس- على يد السلطات السعودية، مما يجعل الكلام
مصبوغا بحالته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ما أشد الشبه
بين حياة الشيخ وبين هذا الكتاب!!
تأمل هذا:
جاءه سؤال من
ابن أخيه يطلب منه كتابة عمله في مشروع "تقريب السنة النبوية".. فتدفق
منه هذا الكتاب، الذي أجاب فيه على السؤال، ثم استطرد ليذكر بقية مؤلفاته خارج
مشروع "تقريب السنة" وظروف كتابتها ونبذة عنها، ثم ختم الكتاب بموجز
مختصر للغاية من سيرته الذاتية.
يتشابه حاله في
الكتاب إذن مع حاله في مشروع حياته، ذلك المشروع الذي انهمر وانبثق من سؤال طُرح
عليه يوما عن حديثٍ ما، فقال: أظنه حديث ضعيف. ثم بحث عنه فتبين له أن الحديث في
الصحيحيْن، فعزم أن يرفع عن نفسه هذه الجهالة، فأنجز هذا المشروع الهائل في تقريب
السنة النبوية التي خدم فيها أربعة عشر كتابا عليها مدار السنة كلها.
وانظر.. هذه
مشابهة أخرى مثيرة للدهشة والأسى معا..
لما قدم الشيخ
إلى السعودية، فارًّا بدينه من نظام البعث السوري، كان يعاني من نظرات الطلاب وبعض
المشايخ له، يرونه مجرد مدرس متعاقد قادم ليتكسب، ثم هو قد جاء من الشام، فهو إن
لم يكن علمانيا كان أشعريا، وإن لم يكن بعثيا لم يكن متدينا.. ومن ثَمَّ فهو مشكوك
في عقيدته، وهو إنما يمارس التدين لأن الجو العام في السعودية جوٌّ متدين، فتظاهره
بالتدين هو بعض وسيلته لكسب رزقه!
هذه المرارة
التي استشعرها الشيخ من طلابه وبعض رؤسائه أول قدومه إلى السعودية، ما كان له ولا
لتلاميذه ولا لأحد في ذلك الزمن أن يتصور في أبعد آفاق خياله، أن الزمان سيدور
ليُعتقل الشيخ في السعودية نفسها بعد أن تحولت من "شدة التمسك" بالسنة
بل الغلو في تصنيف الناس على وفق فهمهم لها، إلى مطاردة الدين وأهله واستيراد أفسق
الناس ليفسدوا فيها!
إنك إن قرأتَ
الكتاب وما فيه من عمل جليل في التأليف والتهذيب والترتيب، توقعت أن تكون نهايته
بقائمة الجوائز والشهادات والتقديرات التي تُمْنَح لمثله، ما يكاد يخطر بالبال أن
تكون الخاتمة هي الاعتقال!!
الشيخ صالح
الشامي خريج كلية الشريعة في سوريا، ولكن الظروف التي صنعها الاستعمار ووكلاؤه من
بعده، دفعت كثيرين إلى التماس علم آخر يؤهلهم لحياة طبيعية، فكثيرا ما لجأ دارس
الشريعة إلى دراسة أخرى ليحسن وضعه في الحياة.. كان الشيخ من هؤلاء!
ثم إن للشيخ
هواية في الهندسة، وعمل بها زمنا قبل أن يخرج من بلده إلى السعودية، وهذه الهواية
في الهندسة كان لها تأثير عظيم على مشروع تقريب السنة! وما في ذلك من عجب، وقد قال
شيخ المؤرخين وحكيم الطائفة ابن خلدون: إن الهندسة تورث استقامة في العقل!
ستظهر استقامة
العقل في مشروع تقريب السنة!
إن الطريقة
المنظمة التي سلكها الشيخ في الجمع بين الصحيحيْن، مثَّلت أساسا واضحا ومتينا يضاف
عليه عمله في بقية الكتب الأربعة عشر!
لم يكن المشروع
في أوله مكتملا في ذهن الشيخ، ولكنه حين نَظَّم طريقة جمع الصحيحيْن، صار الأمر
أسهل في جمعه لزوائد السنن الأربعة، ثم في إضافة زوائد الكتب الثلاثة: الموطأ
والمسند والدارمي، ليتم له مشروع جمع الكتب التسعة.. ثم صار من السهل بعد ذلك
إتمام الكتب الخمسة الأخرى: ابن خزيمة وابن حبان والمستدرك وسنن البيهقي وأحاديث
الضياء.
وكلمة
"السهل" هنا لا تعني أن العمل كان سهلا في نفسه، بل العمل لا يخلو من
الدقة والإرهاق والمتابعة المضنية، لكن السهولة المقصودة فيه هو في الطريقة التي
يَسَّرت إنجاز العمل، لأن البناء الأول في طريقة الجمع بين الصحيحيْن كانت منظمة.
ولذلك أمكنه
دائما أن يخدم الكتاب تحقيقا وتهذيبا واختصارا وجمعا وانتقاءا وترتيبا دون أن يبذل
المجهود من أوله.. ومن هنا كانت ثمرات مشروعه متنوعة تخدم المسلم البسيط وحتى
المختص بعلم الحديث
فالمسلم البسيط
الذي يريد أن يكتفي بالحد الأدنى من معرفة السنة سيرى نفسه أمام كتابي
"الوافي من الصحيحين" و"الوجيز".. فإذا أراد الارتقاء منزلة
أخرى وجد نفسه محتاجا إلى "الجمع بين الصحيحين" ثم "معالم السنة
النبوية".. وهكذا حتى يصل المتخصص إلى كتاب "أصول الكتب التسعة"!
ولا ريب أن من
عاش مع السنة دهرا كثيرا جنى من ثمراتها، فمن الثمرات التي وقعت للشيخ صالح الشامي
مشاريعه الأخرى المتعلقة بالسيرة وكتبه فيها، وتحقيقاته لبعض الكتب كالجامع بين
الصحيحين للإشبيلي وخدمته لكتاب مشارق الأنوار للقاضي عياض، وكتاب المواهب اللدنية
للقسطلاني وشرحه للزرقاني.
ومن عاش مع
السنة عاش مع أهلها وخُدَّامها، وقد أمطرت هذه السحائب المباركة في سلسلة من تقريب
تراث ابن القيم، ومن خدمة كتب أخرى كحلية الأولياء للأصفهاني وإحياء علوم الدين
للغزالي، وسلسلة أخرى من مواعظ الصحابة والتابعين.
نعم، إن بعض هذه
المشاريع صدرت قبل بدء مشروع تقريب السنة، ولبعضها بواعث مختلفة، لكنها مشاريع
تتصل دائما بالسنة وأهلها، فمن لم يكن من ثمرات مشروع السنة، كان من بذوره وجذوره
وممهداته.
والناظر في تراث
الشيخ يرى رجلا متواضعا، عمليا، منبعثا إلى العمل، وإلى خدمة المعاني والمقاصد
والغايات، فهو مهموم بتكوين صورة السنة ومعانيها في عقول الجمهور على اختلاف
مراتبهم، وهكذا دأبه حتى في كتبه الأخرى، يؤلف الكتاب بقصد توضيح ملامح الموضوع،
أو تقريب أصول الدين وتيسيرها.
فك الله أسر
الشيخ، وأنعم على المسلمين بأمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويؤمر بالمعروف وينهى عن
المنكر، وينزل الناس منازلهم.
اللهم فك اسره وأسر جميع المسلمين
ردحذفجزاك الله خيرا
ردحذف