دردشة ليلية..
أتذكر ذلك اليوم الذي قرأت فيه لأول مرة حديث
"وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي"، وأتذكر أني لم أفهمه جيدا.. لكن أول مصدر
قرأت فيه شرحا لهذا الحديث كان لأحد الفقهاء الفضلاء الذي استفرغ جهده في الإبانة
عن أن هذا الحديث ضعيف، وأنه مخالف لروح الإسلام ومقاصده.
لم تكن ثمة مشكلة في أن يكون الحديث في نفسه ضعيفا،
فهذا بحث علمي، ولكن الذي وقر في نفسي ساعتها هو هذا الجهد الذي بذله الشيخ في
إثبات ضعف الحديث، لقد كان جهده في ذلك أوسع من كونه تحرير مسألة علمية، بل كان
أشبه بالفرار من معنى سيئ يُلصَق بالإسلام، ويريد الشيخ أن يدفعه عن الإسلام..
فالمسألة لم تكن علمية بحتة، بل كان لها آثارها الدعوية والفقهية والعملية!
وأجدني أعذر الشيخ وأعذر كل الأفاضل من أمثاله، فإننا
في عصر استضعاف، وإن كثيرا من الفقه الذي أنتجه فقهاء عصرنا فقه مهزوم، فقه مصبوغ
بطعم الهزيمة ولونها، ومع أن العزيمة والفضل والسبق هو لمن صمد وصبر وثابر وتمسك
بالحق مهما كان غير موافق للمزاج الضاغط والثقافة الغالبة، إلا أن المهزوم معذور،
تماما مثلما لا يُلام البطل الشهم إذا اعترف بشيء تحت التعذيب في أقبية الأمن!
ونعم، فإن ضغط الواقع المعاصر وشبكاته السياسية
والإعلامية والثقافية لا تقل خطرا ولا ضررا ولا قوة عن التعذيب الجسدي الذي تتقنه
أجهزة الأمن.
المهم في قصتنا الآن أنه بدأت معي رحلة البحث عن
الحديث ومعناه..
ودون أن أدخل في تفاصيل حديثية تخص الرواة والطرق،
فالخلاصة أني وجدت الحديث قد صححه أو حسنه من المتقدمين: ابن تيمية والعراقي
والذهبي، ومن المعاصرين: أحمد شاكر والألباني وشعيب الأرناؤوط. وهذه أسماءٌ يصعب
بعد تصحيحهم للحديث أن يكون ضعيفا!
ثم دخلنا في رحلة فهم معنى الحديث من خلال شُرَّاح
الحديث، وأيضا: بدون تطويل في سرد أقوالهم، فقد وجدت أن اتجاهات الشُرَّاح -فيما
وقفت عليه- تكاد تذهب في ثلاثة معان تتكامل معا
1. فبعضهم ذكر أن هذا من خصائص النبي ﷺ
وأمته، فأمتنا المسلمة قد أحلّت لها الغنائم، ولم تكن حلالا للأمم السابقة، وأن
الله قد جعل للنبي خُمس الغنائم ينفقها في مصالح المسلمين.. وهذا المعنى هو من
جملة الخصائص التي تثبت أن الإسلام دين ودولة، وأنه مصحف وسيف، وأنه نظام سياسي
واقتصادي وعسكري، ففيه إقامة الشرائع وقتال الأعداء!
2. وذهب بعضهم إلى أن الغنائم هي أشرف
الأرزاق وأطيبها، ولهذا جُعِل منها رزق رسول الله ﷺ إذ هو خير الأنبياء، وذلك أن
الغنائم هي ثمرة أفضل الأعمال، وهو الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام
الإسلام.. فالغنائم إذن هي المال المكتسب من عملية إنقاذ البشر وتحرير الشعوب وكسر
الطغاة والظالمين والجبابرة!
ألم تمجِّد سائر الأمم ذلك البطل الذي يأخذ من أموال
الطغاة المتجبرين لينفق منها على الضعفاء والمعوزين.. يكاد يكون في أدب كل أمة من
الأمم، قصة عن اللص الشهم أو الصعلوك النبيل أو اليساري المناضل الذي يأخذ من
الظالمين فيعطيها للمظلومين.
3. وذهب بعض العلماء إلى أن المعنى هو تحقيق
الأمن، فظل الرمح في الحديث معناه استباب السلام، إذ لا رزق ولا اقتصاد ولا جريان
للمال في ظل الخوف والفزع، وممن قال بذلك السرخسي في شرح السير.
وقريبٌ من هذا المعنى ما ذهب إليه عدد من المعاصرين
من أن المقصود بذلك أن الحق لا بد له من قوة، فظل الرمح هنا بمعنى القوة الحارسة
للمال، وإلا فالضعف يغري بالتعدي، وكما يقال في المثل "المال السايب يعلم
السرقة"
ولكني خرجت من هذه الرحلة في أقوال العلماء بما هو
أهم من المعلومة نفسها، خرجت منها بهذه البساطة التي تعامل بها العلماء مع الحديث،
وأنهم حاولوا فهمه بغير استحضار الضغط والهجوم الذي تفرضه علينا الثقافة الغالبة
وحركات تشويه الإسلام. فلم يشعروا أن في الحديث شيئا ينبغي الفرار منه!!
ثم انفتحت عليّ -بعد زمن آخر، وعن غير قصدٍ مني- رحلة
ثالثة، كانت أطرف من الرحلتين السابقتين..
ففي ذات ضحوة كنت أقرأ كتاب ألسكندر دوغين، ذلك
المفكر الروسي الذي اشتهر وانتشر، وإذ بي أمرُّ فيه على فقرة فيه، فكأنها شرحٌ
ممتاز لحديث "وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي"!
كان دوغين، وهو المهموم بمستقبل روسيا وصراعها
الإمبراطوري، يرسم مسارًا لتطوير القوات الروسية ومستقبلها، فأخذ يؤكد ويكرر على
أن الاتجاه الضروري للجيش الروسي هو أن يأخذ في التسلح الذي يؤهله لمستوى الحروب
العالمية، فعليه أن يهتم بالصواريخ العابرة للقارات، والرؤوس النووية، وحاملات
الطائرات، والغواصات الذرية..
وهذا التسلح هو الذي سيحل مشكلات روسيا، بما في ذلك
المشكلات الاقتصادية نفسها، وذلك أن روسيا حين تبلغ مستوى القوة فوق العظمى،
فسيجعل هذا مسألة التحالف مع روسيا بالنسبة إلى جيرانها مسألة حتمية لا فرار منها
(بمن فيهم أولئك الخاضعون لأمريكا مثل اليابان وأوروبا الوسطى).
ويؤكد على كلامه هذا بأن الأمريكان قد استخدموا هذه
الطريقة بعد الحرب العالمية الثانية، فتسلحهم الضخم هو الذي مَكَّنهم من إغراء
الدول التي دخلت تحت مظلتهم، بحثا عن الأمان من الاتحاد السوفيتي، وبالتالي فقد
دعمت هذه الدول وموَّلت عمليا آلة الاقتصاد الأمريكي الجبارة التي صارت بدورها تضخ
مزيدا من قوة التسلح الأمريكي.
وهكذا، يجب على روسيا أن تفعل نفس الشيء، قوتها
وتسلحها الكبير سيجعلها قادرة على إنشاء تحالفات مع اقتصاديات ناهضة، وهذا نفسه
سيحل المشكلة الاقتصادية الروسية -فضلا عن المشكلة السياسية والعسكرية- لأن
"السبيل الأسهل للحصور على كميات أوفر من السلع الجيدة" ليس هو تحويل
الصناعات الحربية إلى صناعات مدنية، بل على العكس: إن بضع غواصات نووية يمكن أن
تحمل إلى روسيا بلدانا بكاملها ذات اقتصاديات متطورة.
عزيزي القارئ المصري الذي يعيش في عصر السيسي: أعرف
ما يدور في ذهنك، خط الجمبري والصوبات الزراعية وقاعات الأفراح ومصانع المكرونة :)
.. حاول الآن أن تنسى هذه الحسرة، وتابع معي.
يقول دوغين بأنه حتى لو لم يكن أمام الجيش إلا أن
يسلك طريقا من اثنين: التسلح على هذا المستوى العالمي، أو التسلح على المستوى
التقليدي الذي يتمكن معه من حسم المعارك الأقل عالمية، فيجب عليه أن يبني نفسه وفق
منهج التسلح العالمي، حتى لو أدى هذا إلى خسارة معارك مع دول أصغر مثل أوكرانيا أو
أفغانستان.. بل حتى لو اضطرت روسيا للتنازل عن بعض المدن والمناطق والوصول إلى
تسويات مهينة.. لماذا؟
لأن أي خسارة صغيرة تحدث الآن ستستطيع روسيا أن
تستردها فيما بعد حين يكون تسليحها على مستوى القوة العالمية.. والدليل على ذلك أن
أمريكا خسرت معارك صغيرة في فيتنام والصومال وأفغانستان، ومع ذلك لم يهتز عرش
تفوقها العالمي، وبقيت سيدة النظام العالمي.
أليس هذا شرحا ممتازا يا جماعة الخير لحديث النبي ﷺ
"وجعل رزقي تحت ظل رمحي"؟.. أليس هذا وصفا صريحا ومباشرا لأهمية القوة
العسكرية في حل المشكلات الاقتصادية بتأمين الموارد الذاتية أولا، وجذب التحالفات
ثانيا، وردع الأعداء ثالثا؟!
ساعتها، تداعت إلى ذهني فقرات من هنا وهناك، حتى خرجت
من هذه القراءة وقد استقر عزمي على كتابة بحث، تصوَّرت أن يكون عنوانه "شرح
الكُفّار لحديث النبي المختار" :)
كانت نيتي أن أقول: إن المعنى السليم والواضح
والطبيعي لهذا الحديث أمرٌ لا يتحرج الناس من التصريح به، وحده المسلم المهزوم هو
من يشعر في المعنى الصحيح بالعبء والأزمة..
ومن ساعتها، كنتُ إذا وقعتُ على فقرة في كتاب أو في
تقرير، أخذتها جانبا، لتكوين هذا البحث المنشود!
ولما طال بي الزمن، وتراكمت علي الشواغل، وتراجعت
الهمة، قررتُ هذه الليلة أن أضع هنا بعض ما توصلتُ إليه.. تاركا الباب مفتوحا
لباحث آخر أن يأخذ هذه الفكرة فيبني عليها ويتوسع فيها بما فتح الله عليه.. فلا
أكون حبست علما عندي، ولا حرمت نفسي من نفعٍ قد يعود علي بنشره، وعلى غيري إن توسع
فيه.
من أبلغ ما في هذا المعنى، ما ذكره روبرت جيتس -وزير
الدفاع الأمريكي الأسبق في مذكراته- من أن وزارة الدفاع الأمريكية هي المؤسسة
الأضخم والأكثر تعقيدا على كوكب الأرض، وهي كذلك المؤسسة الأكثر إنفاقا والأعلى
ميزانية!!
وكانت كونداليزا رايس -وزيرة الخارجية ومستشارة الأمن
القومي الأمريكي، في مذكراتها- قد ذكرت أن ميزانية وزارة الدفاع تبلغ أربعين ضعفا
ميزانية وزارة الخارجية!!
وسيبدو لك كلام رايس واضحا أكثر، إذا علمت أن آن
باترسون -السفيرة الأمريكية السابقة في باكستان ثم في مصر إبان انقلاب السيسي-
قالت في مقال نشرته (فورين سيرفيس جورنال، سبتمبر 2019) بأن الخارجية الأمريكية هي
الأضخم من بين وزارات الخارجية عبر العالم، وأن البعثة الدبلوماسية الأمريكية في
أي بلد هي الأكثر عددا والأفضل تمويلا، وأنه ما من دولة بمقدورها أن ترسل إلى دولة
أخرى عددا ولا خبراء ولا مختصين كالذي تستطيع أمريكا إرساله!
إن هذا يشير بوضوح إلى أن المجال الأهم لضمان التفوق
الأمريكي ذهب إلى التفوق العسكري والجيوش والأسلحة والمقاتلين، ولم يذهب إلى
الصناعة ولا البحث العلمي ولا التطوير التقني ولا حتى إلى الدبلوماسية الذكية
والسياسيين البارعيين!
إن كنت متعجبا، فلا تتعجب، سنترك التحليل والاستنتاج
ونذهب إلى الأقوال الصريحة المباشرة:
فقبل أربعة وأربعين سنة أصدر هنري كيسنجر مذكراته الحافلة
"سنوات البيت الأبيض"، ومن بين صفحات كثيرة تستحق أن تنقل هنا، خذ هذه
الفقرة:
"على مدى التاريخ، يمكن القول أن النفوذ السياسي
لدى الشعوب كان مرادفا لقوتها العسكرية... المهارة الدبلوماسية لا تستطيع سوى
تنمية القدرة العسكرية لا أن تحل محلها. وفي آخر المطاف فإن الضعف يدعو دوما إلى
التعدي، والنقص في القوة يؤدي دوما إلى التنازل عن القدرة السياسية".
وبعده بعام (1980م)، كان جيمي كارتر يقف أمام
الكونغرس ليلقي خطاب حالة الاتحاد، (ونصه منشور على موقع كارتر)، ويقول: "ليكن
موقفنا واضحًا تمامًا: أي محاولة من قبل أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة
الخليج الفارسي ستُعتبر اعتداءً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية،
وسيتم صد مثل هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية. خلال
السنوات الثلاث الماضية، انضممت إلي لتحسين أمننا وآفاق السلام، ليس فقط في منطقة
إنتاج النفط الحيوية في منطقة الخليج الفارسي ولكن في جميع أنحاء العالم. لقد
عززنا سنويًا التزامنا الحقيقي بالدفاع، وسنواصل هذه الزيادة في الجهود طوال
برنامج الدفاع الخمسي. من الضروري أن يوافق الكونجرس على ميزانية الدفاع القوية
هذه لعام 1981، والتي تشمل نموًا حقيقيًا بنسبة 5 في المائة في التراخيص، دون أي
تخفيض".
وقبل ثلاثة أعوام، نشرت كاثلين هيكس، وهي نائبة وزير
الدفاع الأمريكي، وكانت نائبة لوكيل وزراة الدفاع في عهد أوباما، ورئيسة لمركز
هنري كيسنجر للشؤون العالمية، والحاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية، والماجستير
في إدارة الأعمال.. نشرت مقالا (فورين أفيرز، مارس إبريل 2020م)، تناقش فيه القائلين
بضرورة خفض الإنفاق على الجيش الأمريكي، وتتناول المقترحات التي تشير إلى جوانب
معينة ينبغي خفض الإنفاق عليها، ومن بين كلام كثير يستحق أن ينقل هنا بحروفه، قالت
بوضوح: "القوات المسلحة تضمن للولايات المتحدة ازدهارها الاقتصادي وتقوّي
تحالفاتها".
وذهبت تشرح بأن من مهمات الجيش الأمريكي "ضمان
التدفق الحر للتجارة في المحيط الهادي"، (وكلمة التدفق الحر هذه هي الاسم
الحركي اللطيف والمهذب لمعنى السيطرة والتحكم.. وسآتيك بعد قليل بكلام صريح غير
دبلوماسي لمفكر استراتيجي أمريكي آخر)، وأن بقاء القوة الأمريكية متفوقة هو ما
يضمن بقاء التحالفات والشركاء، ويعصمهم من الخطأ بالتفكير في إنشاء تحالفات أخرى،
كما أنه يردع الخصوم من التمدد في مساحات اقتصادية أخرى، إضافة إلى ذلك فإن
الشركات الأمريكية المنتشرة عبر العالم ستنكمش تلقائيا لأنها ستفقد مظلة الحماية
التي كان يوفرها الجيش الأمريكي، ولن تكون مطمئنة حين تعتمد على المظلة
الدبلوماسية والسياسية وحدها!
تضيف كاثلين هيكس، بأن الأمر ليس لعبة سهلة، فلو أننا
سحبنا قواتنا من الخارج، ثم وجدنا أنه كان قرارا خاطئا فلن يكون سهلا أن نعود مرة
أخرى بعد أن تكون خرائط التحالفات وأوضاع الخصوم قد تغيرت!
ثم تلفت نظر القائلين إلى حقيقة خطيرة، تقول: ولا
تقلقوا، فإن القوات الأمريكية المنتشرة في البلدان الأخرى إنما يجرى الإنفاق عليها
من هذه البلدان، وإذا جئنا بهذه القواعد الأمريكية إلى أرضنا فسنتحمل نحن عبء
الإنفاق عليها! فبقاؤهم في الخارج هو الأرخص والأقل كلفة!
حديث الشركاء والتحالفات هذا أشار إليه بوضوح، ملخص استراتيجية
الدفاع الأمريكي (لعام 2018)، والذي نشرته وزارة الدفاع الأمريكية على موقعها، فقد
جاء فيه أن حلفاء الولايات المتحدة وشركاءها، يوفرون لها مزايا استراتيجية في زمن
السلم والحرب، لا يمكن مقارنتها بأي منافس آخر، فهم يزدادون يوميا، ويشتركون معها
في الحروب، ويحملون معها عبء تحقيق الأمن، والوصول إلى مناطق حرجة، والحصول على
معلومات حساسة، وهذا كله يؤدي إلى استقرار طويل وإلى ازدهار اقتصادي، ومن هنا فإن
الوزراة تعمل على ثلاثة محاور لتمتين هذه التحالفات وزيادة هؤلاء الشركاء.
ونختم مع جورج فريدمان، المفكر الاستراتيجي المعروف،
مؤسس ومدير ستراتفور، والرجل الذي يمكن القول بأنه الأكثر صراحة من بين هؤلاء
الأمريكان، ولذلك فإن الكلام الذي يجتهد غيره لصياغته بأسلوب لطيف، يكون عنده هو
في غاية الوضوح والصراحة..
صاحبنا هذا أصدر كتابه "المائة عام
القادمة" عام 2009م، والكتاب صار مترجما ومتاحا على الانترنت، وهو من أهم
الكتب التي يجب أن يقرأها المهتمون بمصير هذا العالم.. ولأن الرجل صريح للغاية،
فسأتركك عزيزي القارئ مع عبارات قصيرة تخيرتها لك، أرجو أن تنجح في تحفيزك على قراءة
الكتاب نفسه:
§ "هناك العديد من الأجوبة على السؤال
المطروح حول السبب الذي يجعل الاقتصاد الأمريكي على هذه الدرجة من القوة؛ لكن أكثر
الأجوبة بساطة على هذا السؤال يكمن في القوة العسكرية التي تتمتع بها الولايات
المتحدة"
§
"يسيطر
الأسطول البحري الأمريكي على كافة محيطات العالم. كل ما يطفو على الماء هو تحت بصر
الأقمار الصناعية الأمريكية في الفضاء، كما أن حرية حركتها أو منعها عن الحركة
تخضع لإرادة البحرية الأمريكية. إن جميع قوى البحرية في العالم مجتمعة، لا تعادل
أو حتى تقترب من قوة البحرية الأمريكية... وهذا يعني في نهاية المطاف أن الولايات
المتحدة تسيطر على التجارة العالمية، وأن قوتها البحرية هي الأساس المُكوِّن لأمن
الولايات المتحدة وثروتها... وتُشَكِّل الآن الوجه الآخر للقوة الاقتصادية
الأمريكية التي تعتبر أساس ومنطلق قوتها العسكرية"
§
"إذا
أوقفت الولايات المتحدة الصادرات الصينية إليها أو فرضت عليها تعريفات جمركية...
فإن الصين سوف تواجه عند ذاك أزمة اقتصادية خانقة... من الصعب التنبؤ بما قد تقوم
به الدول عندما تواجه كوارث أو صعوبات اقتصادية. يمكن في مثل هذه الحال أن تصبح
عدائية... ولكن من الناحية العسكرية تستطيع الولايات المتحدة إغلاق كافة الممرات
البحرية إلى المحيط الهادي متى شاءت... لن يكون بإمكان دول شرق آسيا أن تواجه بشكل
مؤثر التحرك العسكري أو الاقتصادي الأمريكي"
§
"هناك
اختلال هائل في موازين القوى ... فالتهديد في فرص عقوبات من قبل الولايات المتحدة
على الصين مثلا، تسعى من خلاله الولايات المتحدة إلى تقليص حجم الواردات الصينية
من البترول، يصيب المصالح الوطنية الصينية في الصميم. وبالتالي، يتوجب على
الصينيين استخدام قوتهم الاقتصادية المتصاعدة لتطوير خياراتهم العسكرية ضد الولايات
المتحدة... قامت دول منطقة غرب المحيط الهادي طوال الأعوام الخمسين الماضية بزيادة
قوتها الاقتصادية بصورة دراماتيكية، لكنها لم تفعل الشيء ذاته فيما يتعلق بقدراتها
العسكرية؛ وهذا الخلل في التوازن أدى إلى جعل شرق آسيا منطقة غير محصنة. ولذا، فلن
يكون أمام كل من الصين واليابان سوى محاولة زيادة قدراتهما العسكرية في القرن
القادم، وهو ما سترى فيه الولايات المتحدة تهديدا محتملا لسيطرتها على غرب المحيط
الهادي. سوف تفسر أي تحرك دفاعي على أنه خطوة عدائية"
وبعد هذه الوجبة الصريحة للغاية، هل ما زال ثمة شك في
أن ظل الرمح هو الذي يستظل به الرزق؟! وأن ظل الرمح هذا يأتي بالرزق ولو لم يتحرك
أو يُستعمل؟! إن مجرد الظل الذي ينشره الرمح يأتي بالتحالفات والشركاء، ويردع
الخصوم والأعداء، ويحمي الموارد والإمكانيات!
ومهما بذل المرء جهده في تكوين الرزق، ومهما بذلت
الأمة جهدها في تنمية الاقتصاد، فإن هذا كله يتحول إلى هباء منثور إذا خلا من قوة
قادرة!