الخميس، أبريل 01، 2021

في الطريق من استاد الكرة إلى قصر الحكم.. معركة صناعة المعنى

 

جرّب أن تشاهد لعبة لا تعرف عنها شيئا، لا قواعدها ولا طريقة إحراز النقاط فيها، ولا المهارات المطلوبة.. ما رأيك؟!

شيء سخيف، ولا يُحتَمَل.. أليس كذلك؟

جميل، جرِّب أن تشاهد لعبة تعرفها لكنها لا تثير اهتمامك، الهوكي مثلا، كرة اليد، كرة السلة..

تبدو شيئا لطيفا، يمكن متابعته والصبر عليه..

الخطوة قبل الأخيرة في التجربة: افتح مباراة كرة قدم لكن بدون تعليق عصام الشوالي أو غيره.. اكتم الصوت وشاهد الحركة فقط..

الخطوة الأخيرة: افتح الصوت!!

هل لاحظتَ حالتك النفسية في هذه المراحل الأربع؟

لو أنك نشأت في بيئة لا تهتم بكرة القدم ولا تحفل بها، مثلما هو في الحالة الأولى، لكان قضاؤك ساعة ونصف الساعة أمام المباراة نوعا من التعذيب والسخافة.. كل مهارات اللاعبين التي تطرب لها لن تكون شيئا بل ربما كانت شيئا سخيفا وطفوليا وساذجا!

بينما نفس نفس هذه اللعبة صارت نوعا من الحياة واللذة والمتعة والنشوة الكبرى.. بل صارت قضية حياة أحيانا، ربما صارت في لحظة ما معركة وطنية، وملحمة شرف وكرامة.. بعض الناس يمرضون أو يموتون أو حتى ينتحرون إذا كانت نتيجة المباراة سيئة!

والآن يا صديقي الإنسان..

هل ترى كيف تَحَكَّم بعضُ البشر فيك؟ وكيف صنعوا لك المعنى؟ بل كيف جنَّدوك في معركة تبذل فيها أموالك وأعصابك وربما روحك أيضا؟!

إن شيئا من الإلحاح والتكرار ينقلك من مرحلة السخافة إلى مرحلة القبول!

وبعده شيء آخر من المؤثرات الصوتية والبصرية، كصوت المُعَلِّق المتحمّس أو كمشهد الجماهير الهادرة ينقلك من مرحلة المتابعة العادية إلى مرحلة الشغف والتعلق!

ثم شيء آخر من الاهتمام الإعلامي والصحافي، وعليها بعض الشعارات الوطنية والألفاظ الحماسية والروح التنافسية تجعلك جنديا في المعركة!!

المعركة الوطنية الكبيرة التي تنبثق فيها كل المعاني الخالدة العظيمة.. وهي في الواقع ليست إلا معركة سفيهة تافهة، مجرد كرة تنتقل بين الأقدام لتوضع بين ثلاث خشبات!!

ولئن كان أحدٌ يستحق أن يفرح أو يبكي، فهم أولئك المليونيرات الذين يلعبونها، والذين يتنقلون بين الأندية بعد الحصول على الملايين.. أما أنت، فمالك ولهذا؟!

أنت مجرد رقم في عملية تجارية كُبرى، ولكي يحصل هؤلاء على الملايين، ولكي يحصل أسيادهم من فوقهم على المليارات، لا بد أن يشاهدهم ويهتف لهم عشرات الملايين، لا بد أن تكون جنديا مخلصا في هذه المعركة التافهة لتتمّ الصفقة لهم هم!!.. تدفع أنت من أموالك وأعصابك وحق زوجتك وأولادك لتتضخم أموالهم هم!

ومن وراء الجميع نظامٌ سياسي يريدك أن تشرب هذه المخدرات، ذلك أن بقاءَك بلا مُلْهِيات قد يمثل خطرا عليه، وقد يجعلك جنديا في معركة المطالبة بحقوقك المنهوبة المهدورة.. لذلك لا تتوقف المباريات في بلادنا مهما كانت منكوبة ومهما كانت تعاني من الحوادث والأوبئة!!

بل انظر إلى هذا المُعَلِّق.. من هذا؟ بل ما هذا؟.. ماذا يفعل هذا الصارخ إلا أن يشدّك إلى المعركة لينقلها من مجرد لعبة إلى معركة فاصلة؟!!

ثم انظر إلى هذا الذي يسمونه "الاستديو التحليلي" وكيف تكاثرت قنواته وجلساته وخبراؤه ونظرياته.. من هؤلاء؟ بل ما هؤلاء؟!.. هل يستحق اللعب بالكرة -لا سيما في البلاد المنكوبة- انعقاد هذه المجالس؟!

إذا كنتَ تحب الكرة، فاطمئن.. سأسكت الآن عن الكرة، وإنما ضربتُها مثلا لك لكي أتوصل إلى مقصودي في هذه السطور القادمة..

المهمّ عندي أن تنتبه لمعركة "صناعة المعنى"، المعركة التي تُساق فيها الشعوب إلى حتفها وهي تهتف من الفرحة وتغني من الطرب وتستمتع حتى بالألم!

انتبه من الذي صنع لك المعاني التي تعشش في رأسك، وتدير حياتك؟!

من الذي يُجَنِّدك في معاركه؟ وهل تعود عليك هذه المعارك بأي نفع، في الدنيا أو في الآخرة؟!

من الذي أفهمك أن وطنك هو هذه الحدود المربعة؟ وأن حماته هم أولئك العساكر؟ وأن وظيفتك في الحياة أن تعمل وتعمل وتعمل كي تنتج وتنتج وتنتج؟

من الذي جعلك تقبل أن يتمتع من يغني ومن يرقص ومن يلعب الكرة ومن ينصب لهم المسارح والملاعب بالملايين بينما أنت تطفح الدم لكي تجد قوت يومك وقوت عيالك؟!

إن الله تبارك وتعالى، جل جلاله وهو خالقك وخالق هذا الكون، قد عَرَّف لك نفسه في كتابه الكريم، وأشار لك إلى دلائل ألوهيته وربوبيته وقدرته، وضرب لك الأمثال، بل ضرب لك من كل مثل، وناداك: أفلا تعقلون؟ أفلا تسمعون؟ أفلا تنظرون؟ أفلا تذكرون؟

الله تبارك وتعالى في أقدس قضايا الحياة بذل لك الأدلة، وحذرك ممن يحتال عليك بالكذب والبهتان والمناورة.. لم يرض لك أن تُسَلِّم عقلك ومشاعرك بلا دليل ولا إيمان!

فما بالك يا صديقي تقبل وترضى وتُنْزِل نفسك منزلة العبد لأوثان عصرية، ليس فيها شيء من القداسة، لا هي ولا كهنتها القائمين عليها، أولئك الذين يُعَبّدون الناس لها، بل لأنفسهم على الحقيقة؟!

لماذا ترضى أن يكون المعنى السخيف التافه الذي لا أهمية له معركة كبرى وقضية حياة تبذل لها دمك ومالك ونفسك وأولادك؟!

كيف ترضى لنفسك أن تتلاعب بها المؤثرات الصوتية والبصرية، وأن تُحَرِّكها عصا الراعي أو سوط السائس؟!

اعقل يا صديقي.. اعقل! فلا شيء أعز عندك من هذا العقل الذي شرفك الله به على الحيوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق