السبت، يوليو 11، 2020

لماذا حول المسلمون أيا صوفيا إلى جامع؟


لم تطل سعادتي كثيرا بنبأ تحويل آيا صوفيا مرة أخرى إلى جامع، سرعان ما نغَّصَ عليَّ هذه الفرحةَ انفجارٌ في مواقع التواصل يسأل عن: شرعية أن يُحَوِّل المسلمون كنيسةً إلى جامع!

مع أن الذي حصل الآن هو أن آيا صوفيا تحولت من متحف إلى جامع، فلم يفتح أردوغان اليوم بلدا مسيحيا وحوَّل كنيستها إلى جامع. بل ولم يأتي أردوغان إلى متحف كان طول الزمن متحفا فحوَّله إلى جامع.. وإنما غاية ما هنالك أنه أبطل قرار تحويل الجامع إلى متحف.. وهو القرار العلماني الأتاتوركي الذي كان من جملة خطوات حربه على الإسلام والمسلمين.

ولكن الشريحة التي تكونت في شبابنا المتثقف والمتنخوب صار لديها من الإخلاص للطرح الليبرالي العلماني الحرياتي، ما هو أعظم من تعظيمها وتوقيرها للشريعة وأحكامها ورؤاها في سائر المواضيع.

ومن ثَمَّ فقد نقلونا نقلة تناقش شرعية ما فعله العثمانيون من تحويل آيا صوفيا إلى كنيسة، وهو ما يفتح ملف الفتوحات الإسلامية وحقوق الأقليات الدينية ويثير الموضوعات التي هي مثار احتكاك وتناقض بين الإسلام وبين الحضارة الغربية المعاصرة.

لذلك وجدتُ أن بعض هذه الأمور بحاجة إلى بيان، فأنا هنا أضع بعض النقاط، وهي في غاية الاختصار:

1. يصدر المسلم في أحكامه ورؤاه وتصوراته من الإسلام، فما أقره الإسلام فهو الصحيح، وما أنكره الإسلام فهو المنكر القبيح.. والجدال بين المسلمين يجب أن يكون في دائرة: ما هو حكم الإسلام في هذه القضية؟ وليس في دائرة: هل حكم الإسلام في هذه القضية صحيح أم لا؟

هكذا جاءت جمهرة من الآيات والأحاديث، بحيث صار هذا الأمر من الأصول العظمى في الشريعة (فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحَكِّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيتَ ويُسَلِّموا تسليما).

2. قامت كل الإمبراطوريات عبر التاريخ على فكرة، عقيدة، رسالة.. وأعظم الإمبراطوريات هي التي قامت على أعظم الأفكار: على الدين.. هذا أمر تقرؤه عند ابن خلدون، كما تقرؤه عند كريستوفر داوسون، كما تقرؤه عند صمويل هنتنجتون.. الحضارات العظيمة هي التي قامت على الأديان الكبرى.

للمزيد في هذا انظر هنا

 ولأن كل إمبراطورية قامت على فكرة، ولأن أعظم إمبراطوريات التاريخ قامت على الدين، فكلها مارست الفتوحات وتوسعت على حساب ما يليها من الممالك، وكلها كانت حريصة على إدخال الناس في دينها ونظامها، وهي تعتقد في ذلك يقينا أنها تهديهم إلى الحق وتنقذهم من الضلالة!

 ويبقى التاريخ شاهدا على صدق الشعارات المرفوعة وحقيقتها من خلال تعامل الغالبين مع المغلوبين، فكل عملية توسع رُفِعت لها شعارات الهداية والإنقاذ والتحرير، ولكن لم تكن هذه الشعارات صادقة في كل الأحوال.

 ونحن المسلمين لدينا سجلنا العظيم المشرف، ولدينا أسراب من شهادات الكفار والمستشرقين والمغلوبين على أن فتحنا للبلاد الأخرى كان أرحم فتح في التاريخ.

 لقراءة بعض شهادات غير المسلمين للفتوح الإسلامية، انظر الفصل الأول من هذا الكتاب

3. من طبائع الأمور أن يزيل الفاتح المنتصر نظام المهزوم المغلوب، وإذا كانت الحروب والفتوح تقوم على صراع الأفكار أو حتى تتلبس بهذه الأفكار، ثم إذا كانت الإمبراطوريات العظيمة قامت على الأديان، فإن أهم ما يلزم من إزالة نظام المغلوب هو إزالة قلاعه الفكرية ورموزه الدينية..

هكذا فعل الجميع.. فعلوه لأنه أمر بدهي، من طبائع الأمور، لا تسمح الفكرة المنتصرة للفكرة المغلوبة التي تمثل عدوا لها بالبقاء والانتشار..

وهكذا انقلبت المساجد إلى كنائس، والكنائس إلى مساجد، والكنُس إلى كنائس، والكنائس إلى كُنُس، كما انقلبت دور العبادة إلى حظائر خنازير أو حانات خمور أو مراقص أو ما شاء لها المنتصر من أشكال الإهانة والإذلال، أو حتى هُدِمَت دور العبادة على الجملة، وتحطمت المشاهد العظيمة على يد المنتصر.

والمفاجأة التي قد لا ينتبه لها كثيرون أن هذا الأمر ليس خاصا بالحروب الدينية أو الحضارات القديمة.. بل هي نفس السياسة التي فعلها العلمانيون، وفعلتها الحضارة الغربية المنتصرة أيضا..

إلا أن الحضارة الغربية كانت حضارة علمانية، ليس لها دور عبادة دينية لكي تقلب المساجد والكنائس والمعابد إلى معبد علماني.. لذلك لم يكثر في تاريخ هؤلاء أن يقلبوا المساجد والكنائس إلى صورة أخرى تابعة للحضارة المنتصرة.

لكن الذي لا يُنْتَبَه له أن هذه الحضارة العلمانية المنتصرة كان لها معبد من نوع آخر، معبد علماني هو (البرلمان).. فهذا البرلمان هو دار العبادة بالنسبة للفكرة العلمانية، هو مصدر التشريع الذي يهيمن على كل التشريعات، هو الذي يصدر القوانين التي تخضع لها كل فئات المواطنين ولو عارضت هذه القوانين أديانهم وشرائعهم..

وهذه الحضارة العلمانية المنتصرة حرصت على قصقصة وتحجيم دور العبادة الأخرى: الكنائس والمساجد وغيرها، بحيث تبقى مهمتها محصورة في الطقوس والشعائر، دون أن تسمح لها بدور في الحياة العامة.. تركت لها مملكة السماء واستفرد المنتصر العلماني بمملكة الأرض.. فصار معبده (البرلمان) هو المهيمن على دور العبادة.. وانقلبت دور العبادة الأخرى وتغيرت صورتها ومهمتها ووظيفتها بما يناسب ويتوافق ويتلاءم مع سياسة العلماني المنتصر.

أي أن سياسة تحويل دور العبادة ظلت كما هي حتى في ظل الحضارة الغربية المعاصرة التي تتغنى بالحرية والحريات.

4. إذا فهمتَ هذا فهمتَ لماذا إذا مررت بكتب الفقهاء وجدتهم لا يجيزون بناء الكنائس والبيع والمعابد والأديرة وغيرها.. لأن طبيعة الإسلام أنه جاء ليطهر الأرض من الشرك ومن عبادة غير الله، وفهمتَ لماذا يبدو هذا وكأنه تشدد وتعصب، وما هو كذلك إلا في العقل المعاصر المتأثرة بالثقافة الغربية

(وبالمناسبة: فأنا لا ألوم أغلب المتأثرين بالثقافة الغربية المعاصرة بل منهم فضلاء كثيرون، وأكثر المتأثرين بالثقافة الغالبة هم في حكم الضحايا الذين يحتاجون إلى التوضيح والتبيين لا إلى اللوم والتقريع.. فليس من إنسان يستطيع الانفلات من تأثير زمانه إلا الندرة)

لأن دور العبادة هذه في ظل الإسلام مثلها مثل التنظيمات الخارجة عن القانون في ظل الدولة العلمانية الحديثة.

ولكن الإسلام كان أرحم بالناس من الدولة العلمانية..

فقد قرر الإسلام حقوقًا لغير المسلمين، وبالذات أهل الكتاب، في العبادة.. مع وضع اشتراطات تَحُول دون تَحَوِّل هذه الأمور إلى مظاهر عامة وبارزة ومهيمنة على المشهد العام.. وإذا طالعت كتب الفقه وأحكام أهل الذمة سينتظم لك كلامهم في ظل هذا المعنى.. ولكنهم كانوا يقولونه قديما دون أن يشعروا بحاجة إلى تبريره وتفسيره وفلسفته لأنه بديهي واضح في أذهانهم.. بينما نحتاج نحن أن نوضح كل هذه الخلفيات لأننا في العصر العلماني الذي يبدو في ظاهره متسامحا مع الأديان بينما هو في حقيقته عنيف بلا رحمة ضد أي مظاهر تنافس تفرده بالحكم والسيطرة وتشكيل الثقافة العامة وتشاركه إصدر القوانين والشرائع.

وبعض الدول الأوروبية حتى الآن لا تسمح بإنشاء المساجد إذا قدَّرت أنها تساهم في التغيير الثقافي لمشهد المدينة، هذا برغم علمانية الدولة، وبرغم قانونية إجراءات شراء الأرض وبناء المسجد.

على أن الذي يهمنا الآن هو مسألة تحويل الكنيسة إلى مسجد، وخصوصا في البلد المفتوحة حربا وعنوة، كما هو حال القسطنطينية.. فهنا نرى أن موقف الإسلام كما قرره الفقهاء -وكما يمكن الرجوع إليه بتوسع في مصادره- أنه يجوز تحويل الكنيسة في البلد المفتوح حربا وعنوة إلى مسجد.

وأما البلد التي فُتِحَتْ صلحا وسلما، واستسلم أهلها للمسلمين، فهي التي لا يجوز هدم كنائسها أو تحويلها، لا سيما إذا اشترط أهلها ذلك، وعاقدوا عليه.. وهو ما التزم به المسلمون في تاريخهم وأبرز مشاهده فتح عمر لبيت المقدس وعهدته العمرية.

لكن البلد الذي بذل المسلمون فيه أموالهم ودماءهم وانتصروا فيه بعد آلاف الضحايا هو الذي يجوز فيه هذا، وهو المتقرر عقلا وشرعا، إذ للمنتصر حق التصرف في أملاك المهزوم، وهذه المباني هي من جملة الغنائم التي كسبها المنتصر في حربه، وإلا فما معنى انتصاره وما غرضه، إذا هو أبقى وحافظ على ما هو رمز النظام القديم ورمز العدو الذي أسال الدماء قبل لحظات؟

ثم كيف إذا كان هذا البلد هو القسطنطينية، قلعة النصرانية الأرثوذكسية وحصن الإمبراطورية البيزنطية وأعتى عدو للإسلام والمسلمين لثمانية قرون.. وهي البلد التي كان العجز عن فتحها هو السبب في بقاء الغرب حتى الآن.. فلو قُدِّر أن فُتِحَت القسطنطينية في صدر الإسلام لكانت أوروبا كلها قد أسلمت، إذ لم تكن في الغرب قوة غيرها في ذلك الوقت.. لكن صمودها لثمانية قرون عطَّل هذا كله، بل وأتاح الفرصة لصعود أوروبا ثم أمريكا.. وقد فعلوا بنا الأفاعيل ولا زالوا، ومنعوا نور الوحي أن يصل إلى كل الدنيا.

إنه ليمكن اعتبار آيا صوفيا -ودون مبالغة- رابع المساجد الإسلامية الكبرى بعد الحرمين والأثصى، لبشرى النبي بفتح القسطنطينية، ولما مثلته من رمز للإمبراطورية البيزنطية التي هي أعتى عدو واجه الإسلام في تاريخه وحتى هذه اللحظة (أمريكا بكل ما فعلت في المسلمين لم يجاوز إيذاؤها للمسلمين مدة قرنين من الزمان على أقصى تقدير.. أوروبا بكل ما فعلت لم يجاوز عُمْر تسلطها على المسلمين خمسة قرون على أقصى تقدير)

5. يذكر البعض أن السلطان الفاتح قد اشترى كنيسة آيا صوفيا من أمواله الخاصة وجعلها وقفا.. أعرف هذا الكلام ولكني لم أتحقق من صحته بعد، وإذا كان الأمر هكذا فقد قُضِي الأمر، وصارت مسألة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد لا شبهة فيها ولا مطعن إطلاقا..

لكني أردتُ الحديث في المسألة نفسها، مسألة حق المسلمين في تحويل ما فتحوه حربا من البلاد كنائسها إلى مساجد، حتى ولو لم يكن الفاتح قد اشترى الكنيسة.

وإني أقول هذا كله ولا يخفى علي بطبيعة الحال ما المسلمون فيه، فنحن في أحقاب استضعافنا قد خسرنا من المساجد ما لا يعد ولا يحصى، بما فيها ذخائر وكنوز تاريخية من سمرقند إلى بخارى إلى الهند إلى إفريقيا إلى الأندلس إلى البلقان.. تحولت مساجدنا تحت حراب المحتلين إلى كنائس ومعابد وثنية وإلى حانات ومراقص وحظائر بهائم.. بما في ذلك المساجد التي تعاقد المسلمون المهزومون مع الغالبين على أن تظل كما هي في مدن سُلِّمت صلحا، أي أننا آخر من يُسْأل عن حقنا في إعادة آيا صوفيا إلى جامع كما كان.

طال المنشور رغما عني، ولا زال في الصدر كلام كثير.. وإني لأعلم أن أغلب القارئين لن يبلغ آخره.. ولكن، هذا غاية ما أحسن، والله يجبر النقص ويقيل العثرة.

في شأن فتح القسطنطينية وما أحاط بها انظر:

https://www.facebook.com/mohammad.elhamy/posts/10157258515751615

هناك 4 تعليقات:

  1. هاني غربه4:16 ص

    أحسن الله إليك..
    تعقيب بسيط على نقطة تحويل دور العبادة من الدين المنهزم للدين الجديد.. وكون العلمانية معابدها هي البرلمانات وأخواتها..
    جدير بالذكر أن العلمانية حولت المساجد بالفعل.. فقل لي بالله عليك.. هل ما ندخله اليوم في "بلاد المسلمين" هي المساجد التي عرفها المسلمون طوال قرون مضت.. أم أنها صارت أماكن تقام فيها بعض شعائر المسلمين تحت رقابة من الكفار.. وبإشراف منهم على من يتقدم فيها ومحتوى ما يتم تعليمه للناس.. وبالضوابط التي يقررونها هم.. وتم تحويلها من وظيفتها كمرتكز للمجتمع المسلم.. لتصير دار شعائر جزئية على النموذج العلماني..
    وهكذا صار حال معظم المساجد الجامعة في حواضر المسلمين..

    ردحذف
  2. غير معرف11:39 ص

    بارك الله فيك علي هذا التوضيح

    ردحذف
  3. غير معرف5:30 م

    وددت لو اطالت المنشور اكثر لتمتعنابما في جعبتكم من فكر

    ردحذف
  4. غير معرف9:21 م

    جزاك الله خيرا وفتح الله عليك

    ردحذف