قال تعالى (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم، خالدين فيها، هي حسبهم، ولعنهم الله، ولهم عذاب مقيم)
يلفت النظرَ في هذه الآية أن الله تبارك وتعالى يركز على "المنافقات"، فلم يقل جل وعلا (وعد الله المنافقين والكفار)، ولا قال جل وعلا (وعد الله المنافقين والمنافقات والكافرين والكافرات)
لقد قصدت الآية أن تركز على "المنافقات" بوجه خاص..
ذهبت أبحث عن المواضع التي ذكر القرآن فيها "المنافقات" وذكر فيها المشركات، فوجدتُ الآتي:
1. ذكر القرآن "المنافقات" 5 مرات، بينما ذكر "المشركات" 3 مرات فقط!
2. توعد الله المنافقات والمشركات بالعذاب في موضعين، هما:
(ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما) [الأحزاب]
(ويعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، الظانين بالله ظن السوء، عليهم دائرة السوء، وغضب الله عليهم، ولعنهم، وأعدَّ لهم جهنم وساءت مصيرا) [الفتح]
3. جاء ذكر المنافقات في العذاب دون المشركات، وذلك في قوله تعالى:
(يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم.. الآية) [الحديد]
4. نبه الله عباده المؤمنين وحذرهم من "المنافقات" ولم يرد تنبيه مخصوص يتعلق بالمشركات.. بما يعني أن التحذير العام من الكفار والمشركين يدخل فيه الكافرات والمشركات، بينما ثمة تحذير وتنبيه مخصوص من "المنافقات" يُذكر صراحةً مع المنافقين. فذلك قوله تعالى:
(المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم) [التوبة]
ومن بديع ما قاله المفسرون في هذه الآية، قول الإمام الماتريدي أن الله تعالى قال عن المؤمنين (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)، وقال عن الكافرين (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض)، بينما قال في المنافقين (بعضهم من بعض)، ورجَّح أن هذا التفريق إنما لأن لأهل الإيمان دينا يدينون به ويتناصرون، ويدعون الناس إليه، وكذلك لأهل الكفر دين يدينون ويتناصرون به. بينما المنافقون لا دين لهم، وإنما هم أتباع المنفعة إذ هم "عُبَّاد النعمة والسعة، مالوا حيثما مالت النعمة والسعة فلا موالاة بينهم".
ثم ذهبت ألتمس أقوال المفسرين والعلماء في الحكمة من النص الصريح على "المنافقات" في هذه الآية، فكان مما وجدتُ هذه المعاني:
1. رأى الإمام الماتريدي أن ذكر "المنافقات" للتأكيد على أن الذي ينافق تقليدا لأحد يكون مثله في العذاب، ولأن النساء عادة ما يتبعن أزواجهن ويمضين على طريقتهم، فأخبر الله أن الاتباع والتقليد في هذا الأمر غير مغفور ولا معذور، بل هم سواء في العذاب. أهـ
أقول: وهذا النظر يتفق مع أن الله ضرب المثل في قرآنه للذين آمنوا بامرأتين: امرأة فرعون ومريم عليها السلام، وضرب المثل للذين كفروا بامرأتين: امرأة نوح وامرأة لوط.. فعرفنا بذلك أن شأن الإيمان والكفر مما تستقل به نفوس الضعفاء، فهذه امرأة فرعون آمنت وهي تحت أكبر طغاة التاريخ، وهذه امرأة نوح كفرت وهي تحت نبي من أولي العزم من الرسل قضى في دعوته ألف سنة تقريبا!
2. ورأى الشيخ محمد أبو زهرة أن الحكمة من النص على المنافقات، "لأنهن يكوِّنَّ الأسرة التي يُعشش فيها، ويشتركن في إيجاد البيئة المنافقة التي يسودها الفساد ويحكمها الشر".
فأشار هنا إلى أن المنافقة إنما تعمل كمصنع لإنتاج طباع النفاق وتفريخ المنافقين.
3. والتقط د. محمد عزت دروزة معنى دقيقا يتوافق مع الشيخ أبي زهرة، مع العلم أن تفسير دروزة هو الذي صدر أولا (1964م)، وذلك المعنى هو: أن الآية نزلت في شأن المنافقين في غزوة تبوك، ونصَّت الآية على المنافقات مع أنه لم تخرج منافقة في هذه الغزوة، "وإنما أُشْرِكْنَ بالذكر لأنهن كن يشاركن المنافقين في الدور الخبيث الذي كانوا يقومون به في المدينة".
ولو تذكرنا أجواء نزول الآية فسنرى أن المسلمين كانوا عانوا من المنافقين معاناة شديدة في غزوة تبوك، بداية من التثبيط عنها، واختلاق المعاذير للقعود فيها، وقد خرج نفر من المنافقين في المعركة فحاولوا اغتيال النبي فيها، واستهزأ أحدهم بالنبي وما نزل عليه وزعم أنه "إنما كان يخوض ويلعب"، وقبيل الغزوة كانوا قد بنوا مسجدا ضرارا..
فنزلت الآية تنبههم أن الخطر كامن أيضا في تلك البيوت، في المنافقات، في أغوار المدينة، وليس فقط في مؤامرات المنافقين التي ظهرت طوال فترة الغزوة!
والخلاصة التي نستفيد بها: أن القرآن أشار صراحة إلى خطر "المنافقات" على وجه التحديد، بأكثر مما أشار إلى خطر "المشركات".. والأمر الذي يبدو مريعا في زماننا هذا أن هؤلاء المنافقات قد صِرْنَ على منابر الشاشات والإذاعات، وامتد شرهن إلى البيوت جميعا.. حتى ما تكاد تخلو قناة فضائية من برنامج يختص بالمرأة، ثم ما أندر أن تجد برنامج المرأة هذا تتولاه من هي أهل له.. وإنما هي برامج خراب البيوت وتفريخ الأفكار الفاسدة والتجرئة على محارم الله وحدوده!
ثم ما لبث أن جاءنا عصر التواصل
الاجتماعي، فزخرت "المجموعات" بمن لم يُتَح لهن ركوب الشاشات، وإذا
بالعديد من المجموعات على سائر وسائل التواصل تتسيدها النسويات اللاتي يجاهرن
صراحة وتلميحا بالاعتراض على أوامر الله وشرعه ويتكلفن محاولات التفلت منه أو
تأويله ليوافق أهواءهن!
والذي تصل إليه أسئلة الناس يعرف أن خراب البيوت، والتفلت من معاني الأدب والحياء قد صار عاما.. وكم في المسلمات المتدينات من تأثرن بهذا الخطاب وهذه التصرفات فمنهن من تغير فكرها ومنهن من تحول سلوكها ومنهن من تبدل لباسها..
ولئن صار الشاب المتمسك بدينه في زماننا كالقابض على الجمر، فإن الشابة المتمسكة بدينها تعاني أضعاف أضعاف ذلك! لقد صارت المسلمة الملتزمة شيئا نادرا حقا.. والله المستعان!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق