ثمة منهج غريب متكرر لدى أعداء الهداية، يظهر بوضوح في حوار الأنبياء مع أقوامهم..
تجد الملأ الذي يحمل لواء مجادلة النبي
يبدأ الحوار بنوع من المنطق واحترام العقل والعلم، ثم ما يلبث أن ينهار كل شيء
ليتكلم عن القوة ويتشبث بالخرافة ويترك شأن البحث والتفكير كله..
في سورة هود، نجد هذا الخيط واضحا..
(1)
نوح عليه السلام يبدأ في دعوة قومه،
فإذا بالرد الأول هو قولهم: أنت مجرد مواطن، كائن بشري مثلنا، مجموعتك التي معك
ليست إلا شخصيات قليلة العقل وضعيفة المقام، لا تتميزون عنا بأي شيء، ونحن نعتقد
أن هذا كله مجرد كذب وخداع!
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ
إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ
عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)
ويستمر نوح عليه السلام، فيوضح أنه
فعلا بشر، وليس له تميز عنهم، ولا يريد منهم شيئا لا مالا ولا منفعة، وكل ما في
الأمر أن الله أوحى إليه! وأنه لا يملك أن يطرد الذين آمنوا لأن الله سيحاسب
الجميع، ولا يمكنه أن يتحمل عقاب الله إذا طردهم عنه!
فتنقلب موجة الخطاب إلى نغمة أخرى،
الخطاب الذي بدا عقلانيا أول الأمر، انقلب إلى بلطجة، وتحول من قوة المنطق إلى
منطق القوة
(قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا
فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ)
ثم يبدأ نوح في صناعة اختراع عجيب،
أخشاب يجمعها ويركبها ويستهلك وقته وطاقته فيها، وكان ينبغي لمن لديه عقل ونظر،
ولمن يتعلق بالمنطق ويحسب الاحتمالات، أن يتوقف أمام هذا الشيء الجديد، الذي يمكن
أن يكون سلاحا، أو مؤامرة، أو تهديدا خطيرا..
لكن القوم الذين بدأ خطابهم وكأنه
عقلاني منطقي يبدي أسبابه في الرفض والقبول تعاملوا مع هذا الأمر باستخفاف وسخرية
وتهكم واستهزاء
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)
(2)
ويتكرر المنهج مع نبي الله هود إذ يدعو
قومه عادًا.. فيكون أول ردهم عليه: نحن نحتاج إلى دليل يا أستاذ هود! والواقع أنك
لم تقدم لنا دليلا! ونحن كما تعلم لا يمكن أن نؤمن لك بدون دليل!
(قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا
بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ)
يقرأ المرء هذه الآية، ويكاد يُعجب
بهذا المنطق العقلاني المحكم السديد، يعني ليس من الطبيعي أن يتحول القوم عن دينهم
دون أن تكون الدعوة الآتية لهم لديها الأدلة الكافية على صدقها..
إن هذا التمسك بالدليل والتعلق
بالبرهان، يوحي إليك أن القوم مخلصون للمنهج العلمي في التحليل والتعليل
والاستنتاج.. فتتساءل: طيب يا جماعة البرهان والدليل والتحليل العلمي، لماذا عبدتم
الأصنام؟ وما هي البراهين والأدلة التي جاءتكم بها حتى آمنتم بها وعبدتموها؟!
ثم ما هو إلا أن تقرأ الآية التي تليها
فتأخذك الصدمة:
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ
بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)
فالقوم الذين يعبدون الأصنام، دون أن
يطالبوها بالأدلة والبراهين على أنها آلهة، لم يتوقفوا عند هذه الحالة من التناقض،
بل اندفعوا في الإيمان بالخرافة والشعوذة حتى أنهم فسَّروا حالة نبيهم بأنه تعرض
لعقوبة بعض الآلهة التي جعلته مخبولا!!
طيب يا جماعة الأدلة والبراهين: هل
لديكم أي دليل أو برهان على أن آلهتكم هذه قد فعلت هذا؟!.. أبدا.. إنما هو الظن
والتخمين والتخرص والتوقع، الذي لا يستند إلى دليل ولا برهان!
وهكذا تعرف حقيقة إخلاصهم للأدلة
والبراهين، وحقيقة تمسكهم بالمنهج العلمي في الأخذ والرد!
(وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)
(3)
ثم نصل إلى مرحلة جديدة مع نبي الله صالح إذ يدعو قومه ثمودا..
بدأ النبي دعوته، فكان أول ردهم: ما هذا يا صالح؟ كيف تفعل هذا؟ أنت إنسان محترم ومواطن صالح؟ تريد منا أن نترك آلهتنا؟ لا لا.. هذا أمر مثير للشكوك
(قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)
ومع أن العقل والمنطق والتفكير السليم يدعوهم إلى الاستماع الجاد لمن كان مرجوا فيهم، إلا أنهم تعلقوا بآلهتهم التي لم يكونوا منها على شك! وتركوا دعوة الرجل الذي كان فيهم صاحب حكمة ورأي سديد..
لكن، هنا يختلف المشهد اختلافا واسعا..
لقد جاءهم نبي الله صالح ببرهان قاطع حاسم لا مجال للتشكيك فيه.. أخرج لهم -بأمر
الله وإذنه- من الصخرة ناقة، وهذه الناقة تطوف على بيوتهم فتسقيهم اللبن بأمر
ربها، كأنها "ديليفري"، خدمة لم تصل إليها التكنولوجيا المعاصرة بعد
عشرات آلاف السنين: حيوان يقوم بتوصيل الطعام إلى كل بيوت المدينة، بلا أجر ولا
تكاليف مالية!!
فماذا فعل أهل العقل والمنطق، الذين تشككوا في دعوة رجل كان بالأمس معروفا بينهم بالحكمة وسداد الرأي؟!
لا، لم يتبعوه كما يقول العقل والمنطق والحس والمشاهدة والمعجزة الصارخة.. بل قتلوا الناقة!!
كان قتلهم إياها، وتخليهم عن مصدر عجيب للثروة، أروح لنفوسهم وقلوبهم من بقائها أمامهم تذكرهم كل يوم أنهم أتباع الخرافة والهوى والشهوة، وأنهم لو كانوا أتباع العقل حقا لاتبعوا نبيهم وآمنوا به..
(4)
هذا المنهج المضطرد نراه في حياتنا اليومية، وفي تاريخ الأفكار، وفي الحوارات المتكاثرة على الفضائيات ومواقع التواصل..
الكل يتذرع بالعقل والعلم والمنطق والتفكير السليم، ثم يروغ روغان الثعالب ويتشبث بالخرافة ويتعلق بالوهم والظن، ويتذرع حتى بالكذب ليحقق ما يهواه ويشتهيه!
يرصد المؤرخون لمسيرة الحضارة الغربية ثلاث لحظات فاصلة: جاليليو، نيوتن، داروين:
1. جاليليو يقول الأرض ليست مركز الكون، فتبدأ الحضارة الغربية في التخلص من الدين والكنيسة على الجملة وتكفر بما لا تراه ولا تلمسه.
مع أن غاية ما يمكن أن يفعله اكتشاف جاليليو أن يشير إلى وجود معلومات خاطئة لدى كاتبي الأنجيل ومفسريه، ولا يتجاوز أبدا إلى نفي الله ونبذ الدين كله واعتناق المادية!
2. نيوتن اكتشف قوانين الحركة، فتبدأ الحضارة الغربية في التخلص من مقولة إن الله هو الخالق وهو الفاعل، لتعتنق مبدأ أن الطبيعة تسير وفق قوانين ثابتة لا دخل فيها للإله ولا علاقة للإله بها، وكلما تقدم العلم كلما اكتشفنا المزيد، وكلما سيطرنا على الطبيعة أكثر، حتى نصل إلى ذروة العلم فنستطيع التحكم بالطبيعة تحكما تاما!
مع أن غاية ما يمكن أن يفعله اكتشاف نيوتن، أن يشير إلى إله خلق هذه القوانين وأودعها مخلوقاته، كما أن اكتشاف قانون ما لا يعني أننا بالضرورة سنكتشف كل القوانين يوما ما، كما أن اكتشاف كل القوانين لا يعني بالضرورة أننا سنستطيع التحكم في الطبيعة تحكما تاما..
سائر هذه التوقعات والتمنيات والطموح، إنما هي وليدة الشهوة والهوى والرغبة والطموح، وليست وليدة التفكير العقلي المنطقي، إنها الأفكار التي تريد التخلص من الإله والدين والأخلاق، فتُرتبَ على اكتشاف صغير حلما عظيما ووهما كبيرا.
3. داروين يتحدث عن أن المخلوقات تتطور، فتهتبل الحضارة الغربية هذه الفرصة الذهبية لكي تتحدث عن "وهم الإله" وأن المخلوقات إنما تطورت عن مخلوق صغير بدائي عبر آلاف أو ملايين السنين ليصنع كل هذا المتحف الطبيعي الذي نحن فيه.. وبهذا لا حاجة للحديث عن إله خلق الكون والمخلوقات.
مع أن داروين كان معاصرا لمندل الذي كانت نتائج أعماله لا تقول بالتطور وإنما تقول بإمكانية تحسين السلالات.. إلا أن المناخ الذي يريد التخلص من الإله ومن الدين كان أكثر ارتباطا وميلا إلى داروين، لماذا؟.. لأن نظرية داروين أقرب إلى هواه ورغبته وشهوته، إنها أقرب إلى أن تكون بذرة لبناء قصة كبيرة عن كون بلا خالق!
ومع أن كل هذه القصة الكبيرة ليست علمية ولا منطقية ولا عليها أدلة كافية، إلا أنها لا تزال النظرية الأكثر رسوخا في الغرب حتى الآن!
والذي يتتبع القرآن الكريم يجد آيات كثيرة تتحدث عن منهج اتباع الظن، ومنهج التعلق بالخرافة، ومنهج بناء القصص الوهمية (أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان).. وهي الآيات التي تجد صورتها حين تقرأ تاريخ الأفكار وتطورها بعين ناقدة بصيرة لا بعين مستسلمة مبهورة..
مئات السنين تفصلنا عن بداية وهم العلم الذي سيجعلنا متحكمين بالطبيعة، نكتشف فيها كل يوم أن الحقائق أوسع مما نتصور، وأن حجم ما نعلم أقل بكثير من حجم ما لا نعلم، بل مع كل علم جديد نكتشف أن مساحة جهلنا تتسع وتزيد!
مئات من السنين لم تجعل البشر أكثر سعادة ولا سلاما، بل كان العلم صاحب دور حاسم في تعاسة الكثيرين وفي تحويل حياتهم إلى جحيم، لأنه -ببساطة- كان خادما للقوة المادية المتجردة من الأخلاق والقيم، كان خادما للمنفعة واللذة، كان سلاحا أكثر كفاءة في يد الوحش المتجرد من الدين والتقوى!
ومع هذا، لا يزال الكثيرون يتصورون أن العلم يحقق انتصارات كل يوم، وأننا سنصل لليوم المنشود الموعود، ما زالوا يتبعون الظن ويتعلقون بالوهم ويصوغون الأحلام الكبيرة!