ما إن يخرج أردوغان ليطرح موضوعا تاريخيا حتى تنهمر الأسئلة، وقد خرج فقال كلمتين عن التاريخ العثماني في ليبيا، فكلَّفنا هذا أن نجيب في سطور، فهذه السطور تقدم مختصرا سريعا لهذا الموضوع:
لكن قبل البدء في الموضوع، ألفت النظر إلى تكرر ما حدث في سوريا في ليبيا، ما إن يبدأ التدخل التركي حتى تتكهرب عواصم السياسة الدولية، وتأتي أفكار الاتفاقيات ووقف إطلاق النار، فيتراجع الموقف التركي، ثم لا يتم الاتفاق أو لا يُطبَّق، ويخسر الأتراك الوقت والموقف السياسي، ويُحرمون من بقاء قواتهم على الأرض كفاعل ضامن بين كل القوات الأجنبية الفاعلة في الساحة.
ويتوه الموقف في تقييم شبه التدخل هذا، فالأتراك ومحبوهم يفسرون هذا باعتباره نصرا وما هو بنصر بل هو إلى الهزيمة والإخفاق أقرب، بينما خصومهم ومبغضوهم يكسبون مادة جديدة -سياسية وإعلامية- ضد الأتراك!
في حين أن التدخل التركي في أقوى حالاته هو أضعف ألف مرة من تدخل الآخرين، ففي سوريا لا يمكن المقارنة بين النفوذ الإيراني والروسي والأمريكي وبين النفوذ التركي. وكذلك في ليبيا لا يمكن المقارنة بين التدخل المصري والإماراتي وحتى السوداني وبين النفوذ التركي.
إن السياسة الدولية لم تسمح لتركيا حتى الآن باكتساب اي وضع مؤثر في المشهد، وغاية ما سُمِح به لهم تدخل يجمِّد الوضع أو يؤجل الانهيار والسقوط لا أكثر. ومع هذا هو تدخل تُساوَم به تركيا في ملفات أخرى، فهي على الحقيقة تدفع دون أن تجني!
والآن، بعد هذين الكلمتين اللتين لا تثيران إعجاب الأتراك وحزبهم، ولا الخصوم وحزبهم، ندخل في موضوع التاريخ، وسنركز فيه على لحظتين فحسب، لحظة بداية الحكم العثماني لليبيا، ولحظة انتهائه، وما بين هذين اللحظتين هو عادة حديث يهتم له المتخصصون ولا يدخل في اهتمامات المثقفين وعموم القراء.
1. لئن كان ممكنا أن يُطلق على الحكم العثماني للبلاد العربية احتلالا، فهذا الاحتمال غير ممكن في الحالة الليبية، ذلك أن العثمانيين كانوا في الحالة الليبية محررين ومنقذين من الاحتلال الصليبي، وكانت عملية التحرير والإنقاذ هذه بمشاركة أهل البلاد لسنوات وليست فقط عبر رسالة دعوة للجيش العثماني كما هو الحال في الشام أو الجزائر أو غيرها.
2. طرابلس الغرب، عاصمة ليبيا، كانت لمدة قرنين تقريبا تقع في منطقة تعادل القوة أو تعادل الضعف بين الدول الإسلامية والأوروبية، وهي حالة فريدة، خلاصتها كالآتي:
- من جهة الغرب: الدول التي تسيطر على المغرب الأقصى كالحفصيين والمرينيين يتنازعان السيطرة على مناطق المغرب، وتُستهلك قوتهما في هذا قبل أن تصل إلى طرابلس، ومن ثم فإن طرابلس يحكمها على الحقيقة بعض من قبائلها التي تعلن الولاء لهذا أو ذاك بحسب ميزان الصعود والقوة. وهذه القبائل تتبادل الحكم والانقلاب فيما بينها أيضا دون أن يكون لأحدهما كبير دعم أو مساندة من قوة دولية.
- من جهة الشرق: المماليك في مصر مستنزفون في حروب المغول ثم الصليبيين ثم ما نشب في أواخر دولتهم من الصراع مع البرتغاليين في الجنوب ثم مع العثمانيين في الشمال، ولا يستشعرون خطرا من الأنحاء الغربية، فلا يصل نفوذهم إلى طرابلس الغرب.
- من جهة الشمال: القوى التجارية في إيطاليا -كجنوة والبندقية- داخلة في صراعات أكبر تجعلها غير مكترثة كثيرا لتغير الوضع في طرابلس، مع أن طرابلس مدينة تجارية قوية وتمثل مركزا لتجارة البحر المتوسط، ورحالة ذلك الزمان يتحدثون عن غناها وسعتها في نفس الوقت الذي يتحدثون فيه عن ضعفها العسكري وقلة حصونها، لكن القوة الإيطالية مستنزفة في معارك مع البابوية -وكان قد بدأ الصراع بين هيمنة الكنيسة وبين تشكل بذور القومية الحديثة مع النمو التجاري- ثم هي مستنزفة في الصراع مع العثمانيين في الشرق، ومع الإسبان الذين شهدوا نموا هائلا في قدراتهم باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح واكتشاف الأمريكتين حتى صاروا بهذا تهديدا خطيرا للمركز المالي والتجاري لهذه المدن الإيطالية التي احتكرت زمنا نشاط التجارة العالمية بين الشرق والغرب.
أسفر هذا الوضع عن غرائب وطرائف، من أبرزها أن مغامرا إيطاليا، قرصانا، قرر أن يحتل طرابلس (فيليب دوريا) بمجموعته من القراصنة البحريين، فاستطاع أن يفعل ذلك فعلا، رغم أنه غير مدعوم من أي قوة سياسية، ولما احتلها نأت إيطاليا بنفسها عنه، فلم يدر ماذا يفعل، فقرر أنه سينسحب مقابل خمسين ألف مثقال ذهبا، فجمعها له أمير قابس من أمواله ومن أموال المسلمين، واشترى المسلمون طرابلس من جديد، وعاد القرصان المغامر بما أخذه من الغنائم فوق الخمسين ألف مثقال ذهبا!!
2. في النهاية، استطاع الإسبان احتلال طرابلس، كان الإسبان قد طردوا المسلمين من الأندلس، وكانوا قد تمكنوا بأسطولهم العظيم الذي صار أقوى أساطيل البحر المتوسط أن يحتلوا عددا من مدن الشمال الإفريقي حتى وصلوا إلى طرابلس. لم يكن ممكنا صد هذا الاحتلال من قبل أهل طرابلس لأن عدد الجيش كان مساويا -وفي بعض التقديرات متفوقا- عن عدد أهل طرابلس جميعا!
ومع هذا فليس
إلا عشرين سنة وفقط، وتخلى الإسبان عن طرابلس، لنفس السبب السابق، فهم ما زالوا في
نزاعاتهم الكبرى في أوروبا، وفي إدارة مستعمراتهم في الأمريكتين وفي الساحل
الإفريقي والآسيوي.. فضلا عن نزاعهم الخطير في غرب البحر المتوسط مع العثمانيين،
ومع المجاهدين المسلمين الذين يشنون الغارات على السواحل الشمالية الإفريقية وعلى
السواحل الأندلسية (وهي الغارات المشهورة التي أبطالها عروج وخير الدين بربروسا
وبقية هذه الأسماء المشهورة).
وقد دخل العثمانيون على خط هذه النزاعات، حيث استطاع سليمان القانوني اجتذاب فرنسا إلى خط السياسة العثمانية مقابل امتيازات مالية وتجارية (وهذه هي بذرة الامتيازات الأجنبية التي ستتغول حتى تكون من أسباب انهيار الدولة العثمانية بعد ثلاثة قرون)، واستعمل سليمان هذه العلاقة مع فرنسا في إنقاذ مسلمي الأندلس (كانت فرنسا ملجأ مناسبا للفارين من الإسبان بهذه العلاقة)، وكان أهم ما كسبه سليمان القانوني بهذه العلاقة تفتيت الحلف الأوروبي الكبير الذي كاد يتجمع ضد العثمانيين، ولا تزال هذه الفترة تمثل سبة تاريخية وعارا تُعَيِّر به أوروبا الفرنسيين، وتتهمهم به أنهم كانوا السبب في تمدد وطول عمر الدولة العثمانية.
والخلاصة: في خضم هذا كله، كانت طرابلس أبعد ما قد يفكر الإسبان في الحفاظ عليه!
التقى هذا الوضع مع خط تاريخي آخر تطور في الشرق، وذلك كالآتي:
فرسان القديس يوحنا، الإسبتارية، الجماعة الصليبية المقاتلة التابعة للكنيسة وصاحبة السمعة الشهيرة في الحملت الصليبية، طردهم صلاح الدين من بيت المقدس، فانتهى بهم الأمر في عكا، ثم جاء المماليك فطهروا الساحل الشامي من الوجود الصليبي، فانتهى بهم الحال في جزيرة رودس بالبحر المتوسط، ثم طردهم سليم الأول من رودس فلم يجدوا مكانا يحتويهم ويناسب تجمعهم إلا أن يطلبوا من الملك الإسباني السماح لهم بجزيرة مالطة لينزلوا بها.. الملك الإسباني من جهته وافق على هذا بشرط واحد: أن يتولوا مع ذلك حماية طرابلس!!
فرسان يوحنا ترددوا في قبول العرض، لأن تكفلهم بحماية طرابس يعني تحملهم تكاليف أكبر من طاقتهم، ولكنهم في النهاية وافقوا.
ظلوا يسيطرون على طرابلس لعشرين سنة..
في هذه السنين العشرين، كانت حركة الجهاد الإسلامي في المتوسط والشمال الإفريقي قائمة على يد العثمانيين وبدعمهم، والإنجاز الذي مثله خير الدين بربروسا ورجاله في المتوسط كان قد ألقى بظلاله على الوضع في طرابلس، إذ جعل الطريق بين إسبانيا وطرابلس محفوفا بالخطر، وكان التحالف الفرنسي العثماني قد أوقع هزائم قاسية بالأسطول الإسباني، ومن هنا كان هذا الجهاد في غرب المتوسط بمثابة قطع الحبل السري عن النفوذ الإسباني في طرابلس.
هيأ هذا الفرصة لمجاهد عثماني آخر، مراد أغا، أن يهدد وجود فرسان مالطا من الشرق، حيث نزل إلى مدينة تاجوراء (الملاصقة لطرابلس)، وظل منها يشن الغارات البرية والبحرية مستعينا في هذا كله بالمسلمين والعرب في هذه المنطقة، حتى صار وجود فرسان يوحنا في طرابلس مهددا تماما، ومع بسالة فرسان مالطة وقدرتهم على إيقاع بعض الهزائم المؤثرة بمراد أغا، إلا أن الأخير كان أصبر، وكان له من مدد المسلمين ومن العثمانيين ما جعل الحصيلة النهائية في صالحه.
لم يكن أحد في أوروبا قادرا على دعم وإسناد فرسان مالطة، رغم رسائل الاستغاثة إلى البابوية وبيان مدى خسارة الصليب بفقد طرابلس، وكانت لحظة النهاية بقدوم الأسطول العثماني الذي كان متجها لتحرير تونس، فظل شهورا يحاصر طرابلس من البحر، ولكن النتيجة كانت محتومة..
وهكذا بدأ الحكم العثماني في ليبيا، بتحريرها من الاحتلال الصليبي..
كان في النية كتابة قسم ثانٍ عن أواخر العصر العثماني في ليبيا، لكن المنشور طال جدا.. فلعلي أنشط لكتابته في منشور آخر إن شاء الله!
لكن من المهم أن يكون معروفا أن ليبيا كانت آخر الولايات الإفريقية سقوطا من يد الدولة العثمانية، وأنها لم تسقط إلا بعد النهاية الفعلية للخلافة بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني، فساعتئذ وجد الإيطاليون الفرصة مناسبة لاحتلال ليبيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق