اللهم اجعل كلامى وكتابتى خالصة لوجهك الكريم، اللهم لا تجعل لأحد سواك فيها نصيبا، اللهم طهرها من الرياء والعجب، والغرور والكبر، والعناد والانتصار للنفس، وحب الشهرة وحب المدح.. اللهم إن كان فيها الخير فيسرنى لها ويسر نشرها وقراءتها، وإن كان فيها الشر فأبعدنى عنها وعسرها لى واكتب لها الموت والفناء.. إنك نعم المولى ونعم النصير.
الأحد، ديسمبر 27، 2020
كلمة عن كتاب "حياتي في رحاب الأزهر"
الاثنين، ديسمبر 21، 2020
كلمة عن كتاب "الدولة المستحيلة"
منذ أن أنهيتُ كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاق، وأنا أهيئ نفسي لتدبيج مقال مطوّل عنه، ومع الأسف يمرُّ الوقت وتجتمع المشاغل مع ضعف الهمة فلا يلبث المرء إلا أن يكون بين خياريْن: إما أن يُدرك بعضَ ما نوى أو أن يتخلى عنه كله.
الثلاثاء، ديسمبر 01، 2020
كيف تتشكل صورة المسلمين في فرنسا؟ خبرة مستشرق فرنسي
في عام 2016
أصدر المستشرق الفرنسي فرانسوا بورغا كتابه "فهم الإسلام السياسي"، وفيه
حاول أن يوجز رحلاته في الديار الإسلامية، حيث اكتشف هناك زيف الصورة التي يعتنقها
الفرنسيون. واكتشف أيضا أن هذه الصورة ليست لمجرد ضعف الثقافة أو لأن الفرنسيين لا
يعرفون إلا الغرب، بل لأن ثمة شبكة من المؤسسات السياسية والإعلامية والأكاديمية
تعمل على ترويجها وفرضها وتثبيتها كصورة وحيدة. ونفس هذه الشبكة هي التي تُرَوِّج
تحليلاتها وتفسيراتها وتقدم "الفهم الوحيد الصحيح" لما يحدث في بلاد
المسلمين، ليس هذا فحسب، بل إنها تسعى سعيها المحموم لمطاردة أي صوت آخر يحاول أن
يقدم صورة أخرى أو تحليلا آخر لما يجري هناك.
ومن ثَمَّ كان
على المتحدث في شأن الشرق أن يلتزم بهذه الرواية الرائجة، فإذا تجرأ وقدَّم رواية
أخرى تنصف المسلمين أو تحاول فهمهم، كان عليه أن يدفع الثمن، ومن الجدير بالذكر أن تهمة
التعاطف مع الإسلام تساوي "باختصار: الخيانة"[1].
خرج الكتاب
مزيجا بين السيرة الذاتية وبين أدب الرحلات وبين الفكر والتحليل السياسي! ومع أن
فهمه لعموم المشاعر الإسلامية كان جيدا إلا أن فهمه للحركات الإسلامية يعاني قدرا
غير قليل من التشوش والضبابية.
يبدأ بورغا
كتابه باقتباس من رسالة الروائي الفرنسي الشهير إميل زولا، يقول: "إنهم
يُهَيِّجون فرنسا، يختبؤون وراء عاطفتها المباحة، يكممون الأفواه بتكدير القلوب
وإفساد العقول. لا أعرف جريمة مدنية أعظم من ذلك". ثم يشرع في بيان أن التوتر
مع العالم الإسلامي يعود إلى المشكلات السياسية، لا الدينية، فالمسلمون يريدون
الانعتاق من الاستعمار وقيوده التي لا تزال مستمرة، وهذا ما لا يريد الغربي أن
يفهمه لأنه منكفئ على نفسه ولا يرى في العالم غير فرنسا أو الغرب فحسب، وبدلا من
أن ينشط الغربي لفهم هذه الظاهرة الإسلامية فإنه يستعمل سوء الظن ليفسر به حركة
هؤلاء "الأشرار" الآخرين.
يحاول بورغا
التمييز بين المسلمين وبين الإسلاميين، فالمسلمون كأي أمة يريدون أن يعيشوا كما
تمليه عليهم ثقافتهم وشريعتهم، فميلهم إلى الهوية الإسلامية هو فعل طبيعي، ليس فيه
بالضرورة رفض مطلق للغرب ولا رغبة في إفناء الشعوب الغربية، ولكنها حركة استقلال
وتحرر وانخلاع من الثقافة الاستعمارية التي لا تزال مفروضة عليهم بفعل الهيمنة
الغربية، وهذه الحركة موجهة إلى العلمانيين والقوميين أيضا باعتبارهم ممثلي
الثقافة الغربية ونتاجا لحقبة الاستعمار. هذه الرغبة في الاستقلال والتحرر لا بد
لها من الانتماء إلى الإسلام وحضارته وتقاليده وقيمه، لأن أصحابها مسلمون، وهذه
الرغبة هي التي تسود العالم الإسلامي، ولا يمكن إدانتها.
وأما
الإسلاميون فهم أولئك الذين ترجموا هذه الرغبة إلى عمل وحركة، ومن الطبيعي أنهم
سيعملون بقوة ضمن تحت الشعارات الإسلامية وسيتبنون خطابا إسلاميا، ولكن التنوع
الكبير بين هؤلاء الإسلاميين (بدءا من الغنوشي وحتى البغدادي) في طرق العمل وطبيعة
الأفكار، يجب أن يلفت النظر إلى أن الخطاب الإسلامي إنما هو مظلة واسعة للغاية،
فمن الخطأ حصر الإسلام في شكل نمطي واحد كما يحدث في الغرب، ولفهم هذا التنوع يجب
أن ننظر في الظروف والدوافع التي هيمنت على كل حركة حتى صار كلا من الغنوشي
والبغدادي ينتسبان إلى الإسلام ويستعملان الخطاب الإسلامي.
يستخلص بورغا
من خلال دراسته ورحلاته إلى قناعة مفادها أن ردة فعل حركة إسلامية ما "غالبا
ما تكون ذات طبيعة انفعالية، أي أن باعثها المؤسس يتمثل في عنف ابتدائي"[2]،
وبعبارة أخرى: أن ظهور التطرف والإرهاب لا يتحمل الإسلاميون وحدهم مسؤوليته، لا
سيما إن كانت البداية عملا عنيفا جاء من الطرف الغربي كالاحتلال العسكري أو من
ممثلي الغرب المحليين كالقمع والاضطهاد! ومن هنا يختلف بورغا مع معاصره الفرنسي
جيل كيبيل (وهو واحد من أشهر الباحثين في الحركات الإسلامية) إلى درجة التناقض، إذ
يرى كيبيل أن ما في الإسلام من قيم وأفكار إنما هي منتجة للتطرف بطبيعتها، وأنه
حيثما وُجِد الإسلام فسيوجد التطرف!
يختصر بورغا
أفكاره فيقول: "إذا ما اعتقدنا أنه ينبغي إصلاح الفكر الديني الراديكالي بغية
إحلال السلام، نكون قد سلكنا طريقا خطأ، فالسبيل إلى إحلال السلام في المنطقة لا
يمر عبر إصلاح الخطاب الديني، وإنما نبدأ بإحلال السلام في المنطقة لكي نصل إلى
إصلاح الخطاب الديني"، ويضيف: "لا يصدر العنف "الإسلامي" من
الإسلام. إنه نتاج التاريخ الحديث للمسلمين، تاريخ كتبته أياد عدة، منها أيادي
الجارة الغربية الكبيرة (أوروبا)"[3].
طفق بورغا عبر
هذا المدخل يسرد كيف انفتح على العالم الإسلامي، والبلاد التي زارها، وروى كثيرا
من المواقف التي تعرَّض لها مما له دخل بهذه الفكرة أو مما يُروى للطرافة والغرابة
أحيانا:
كانت رحلته
الأولى إلى إسرائيل، وذلك قبل أن يبدأ الاهتمام بأحوال الشرق، وكانت معرفته
المستقاة من المدرسة ومن الصحافة الفرنسية تقول بأن الإسرائيليين كانوا هم الذين
نجحوا في زرع الورود وسط الصحراء، التي كانت مجرد أرض لم يفعل العرب إلا التجول
فوق كثبانها على ظهور جِمالهم طوال هذه القرون. هناك استفاق على كلمة شاب فلسطيني
يقول له "لقد أخذ اليهود بلدي مني". لم يكن يعرف شيئا عما جرى ولا لديه
أدنى علم بالتاريخ الذي يحكي كيف صارت إسرائيل! وبهذا يمكن أن نتصور كيف يفهم
الفرنسي الجاهل صورة الوضع إذا سمع بخبر هجوم على الذين نجحوا ولأول مرة في زراعة
الورود في قلب الصحراء!!
وفي رحلته
وعمله بالجزائر اكتشف ولأول مرة أن الاستعمار الفرنسي وجرائمه حاضرة في الجزائر
حضورا طاغيا ومؤثرا في كل شيء، ويكاد يكون أثر هذا حاضرا في كل ردة فعل يقوم بها
الجزائريون، بينما هذا التاريخ لا يدرس في فرنسا ولا يعرف الفرنسيون شيئا عما فعله
أسلافهم في الجزائر، ومن ثَمَّ فإن كل ردة فعل غاضبة في الجزائر يفسرونها على أنه
ناتجة عن الطبيعة المتطرفة الأصيلة المغروسة في نفوس المسلمين، بل إن أولئك
المسلمين إنما هم ناكروا جميل، وذلك أنهم يتعاملون بعداء مع فرنسا مع أنها هي التي
أدخلتهم العصر الحديث وبنت لهم المدارس وشقت لهم الطرق وألحقتهم بالثقافة
العصرية!!
وحين وقع
الانقلاب العسكري في الجزائر على الجبهة الإسلامية للإنقاذ وبدأت حرب الجيش على
الإسلاميين، بكل ما شملته من جرائم ومذابح، فإن فرنسا قدَّمت الدعم الكامل –هي
وسائر الغرب- للجيش في معركته، ولم تأبه أن تسأل عن الديمقراطية المذبوحة! يرى
بورغا أن هذه واحدة من اللحظات النموذجية التي يمكن من خلالها تفسير وفهم الحركات
الجهادية. ولكن من سيسمح بذلك، إن بورغا نفسه كان يعاني غاية المعاناة لأنه يحاول
تقديم الصورة الحقيقية في مناخ تعمل فيه الشبكة السلطوية كلها وبكل طاقتها في
ترويج وترسيخ روايتها الوحيدة عن "الإرهاب الإسلامي".
هذه الشبكة
جذبت إليها حتى الأحزاب اليسارية في فرنسا، التي من المفترض أنها تدافع عن العدالة
وعن الطبقات الفقيرة وعن الظروف غير الطبيعية التي تدفع إلى العنف، لقد كانت حاجة
هذه الأحزاب إلى الأصوات التي تذهب إلى أحزاب اليمين أهم عندها من الإخلاص
لمبادئها!
يذكرنا حديث
بورغا عن الشبكة المهيمنة على إنتاج المعرفة في الغرب بما قاله إدوارد سعيد، وتذكرنا
معاناته ببعض ما لقيه مستشرقون حاولوا الإنصاف منذ رايسكه وحتى الآن. إننا لن نفهم
الاستشراق حقا إذا لم نفهم أنه الذراع الأكاديمي لسياسات الهيمنة، وليس مسموحا ولا
هو ممكن أن يتحول الاستشراق ليكون دراسة موضوعية تنتهي نتائجها إلى اتهام السياسة
الغربية، وتحسين صورة العدو "الإسلامي".
ليست المشكلة
في جهلٍ سببه ضعف التواصل أو ندرة المراجع أو قلة الباحثين، المشكلة في شبكة
الطغيان التي تصنع الصورة اللازمة لاستمرار الحرب والنهب والعداء، وعموم الناس في
الغرب هم ضحايا بوجه من الوجوه، إلا أن منهم من إذا عرف الحقيقة فضَّل ما هو فيه
من الترف والمكاسب –التي هي من دماء الشعوب المستضعفة- على أن ينقلب مدافعا عن
الحق ومتحملا ثمنه، وهو بهذا ينحاز إلى شبكة الطغيان طواعية ليكون جنديا في
صفوفها!
من المؤسف
أننا لا نملك الكثير لإنقاذهم من جهلهم، فهذا الجندي الجاهل الذي يهاجمنا بسلاحه
في ديارنا ليس له إلا الصدّ والردّ والدفع بكل ما يندفع به! ومثلُ هذا الجندي
الجاهل هذا الفرنسي الغافل في بلاده، لن يستيقظ إلا إذا مُسَّت بعض رفاهيته
بمقاطعة المسلمين لمنتجاتهم، وبما يستطيعون من وسائل المقاومة الأخرى.
وهنا نفهم، لماذا كانت الفتوحات الإسلامية هي أوسع عملية في التاريخ لإنقاذ البشر من هيمنة الطغاة!
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، ديسمبر 2020
الاثنين، نوفمبر 02، 2020
فرنسيون أنصفوا الإسلام
نستأنف في هذا المقال ما كنا قد ختمنا به المقال السابق، حيث كان حديثنا عن الاستشراق الفرنسي، وكيف أنه كان ذراعا علميا للهيمنة الفرنسية، ووسيلة السياسة الفرنسية لتسهيل احتلالها البلاد الإسلامية سواء من خلال قيامهم بالدور العلمي في فحص ودراسة هذه البلاد وأحوالها لإيجاد أفضل الطرق وأقلها تكلفة لعملية الاحتلال والسيطرة، أو من خلال قيامهم بالدور الإعلامي الذي يبرر ويشرعن عملية الاحتلال من خلال تشويه أهلها وثقافتهم وأخلاقهم.
ومن بين طابور
المستشرقين الفرنسيين الطويل خرج عدد قليل من أولئك الذين أنصفوا الإسلام ونبيه
وحضارته، فمنهم من اصطفاه الله وكتب له الخير فأسلم واعتنق الدين، ومنهم من بقي
على حاله.
وعموما فإن
الكتابات المنصفة تصدر عن الغربيين بعد أن تنطوي صفحة الصراع المشتعل، حين ينتصرون
في المعركة ويحسمونها لصالحهم، عندها لا يعود الشعور بالخطر قائما، وتصير الأمة
المغلوبة كالجثمان الممدد أو الفريسة العاجزة، لا يُخشى منها، وعندئذ يمكن أن تبدأ
دراستها بطريقة أكثر علمية وموضوعية، مثلما تجري دراسة الآثار في المتاحف، لا
يستنكف أحد أن يعترف بعظمة حضارة قد دثرت وماتت.
لذلك فإن
التأمل في تاريخ إنصاف الحضارة الإسلامية في الكتابات الاستشراقية سيفضي بنا إلى
إدراك أن هذا الإنصاف لم يحصل إلا بعد العلو الغربي، وأما ما قبل ذلك فقد كان
الجهر بإنصاف الإسلام أمرا خطيرا، فمن ذا الذي يجرؤ –ولو بدافع العلمية
والموضوعية- أن يمتدح عدوه الذي يستشعر منه الخطر؟!.. إنه أمر لا يقوم به إلا
أفذاذ الناس الذين يرفعون قدر الحق والحقيقة فوق كل اعتبار وكل مصلحة، ويكونون
مستعدين لدفع الثمن الباهظ بمخالفتهم تيار السياسة وتيار الإعلام وتيار التحريض
الشعبي. إن الذي ينطق بالحق في وقت الهزيمة والقهر وقلة النصير وشدة الخطر إنما هو
في مرتبة عليا، بل هو في الإسلام "سيد الشهداء".
ومع هذا كله،
ومع استيعابنا لهذه الظروف التي تسمح بالكلمة المنصفة، فإنه لا بد أن نُقَدِّر
أيضا أولئك الذين أنصفوا ديننا ونبينا وتاريخنا، فلم يزل هذا الإنصاف مغامرة غير
آمنة في كل الأحوال، لا سيما في فرنسا، ومن يتابع أعمال المستشرق المعاصر فرانسوا
بورجا يرى بنفسه بعضا من هذه المعاناة التي يلقاها، والتهم التي يُرمى بها، ليس
ذلك إلا لأنه جال كثيرا من بلدان العالم العربي ورأى الصورة التي تحجبها فرنسا،
وتلمس التاريخ الذي لا يُدَرَّس فيها.
وبعض أولئك
الذين حاولوا إنصاف الإسلام وحضارته ورسالته سلك مسالك متنوعة وحذرة في إزجاء
المدح الواضح، وامتلأ حديثه بالاستدراك والاستثناء وطرح الاحتمالات، كأنه يحاول أن
يجد طريقا لا يخون به العلم ولا يزعج به الحالة السائدة.
في هذه السطور
القادمة التقطنا بعض هذه الشهادات المنصفة التي صدرت عن مستشرقين منصفين، وغرضنا
منها أن نبين: أن الباحث إذا أخلص لوجه الحقيقة وتجرد لها فإنه سيصل بمشيئة الله
إليها، حتى لو كانت بيئته وثقافته تنطلق من المعاداة.
1. تحدث
المستشرق الفرنسي وعالم الاجتماع المعروف جوستاف لوبون عن الفتوحات الإسلامية
فقال: «وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما
يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، الذي
كانوا يرغبون في نشره في العالم ... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل
العرب، ولا دينا مثل دينهم... وما جهله
المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع
فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم، التي رسخت وقاومت
جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم»[1].
ويعد كتاب "حضارة العرب" لهذا المستشرق شهادة ضخمة على أن الأمة
الإسلامية كانت خير أمة أخرجت للناس، وإن لم يخلُ من أخطاء وهنَّات، إلا أنه كتاب
إذا قرأه الجاهل كان له بمثابة الصدمة التي يعرف بها قدر هذه الأمة.
2. وصف الشاعر
الفرنسي الشهير ألفونسي دي مارتين نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنه
فيلسوف، خطيب، نبي، مشرع، مقاتل، فاتق أفكار، باعث عثائد في شريعة لا صور فيها ولا
تماثيل، مؤسس عشرين مملكة على الأرض ومملكة روحية، ذاك هو محمد. ومهما تكن المعايير
التي نقيس بها العظمة الإنسانية، فإننا نتساءل: أي إنسان كان أعظم منه؟"[2].
3. قال
المستشرق والقانوني الفرنسي مارسيل بوازار عن تسامح الإسلام مع غير المسلمين وحفظه
لحقوقهم: "الإسلام يتراءى أكثر تسامحًا كلما قَوِيَ واشتدَّ على الصعيدين
الداخلي والخارجي، وتنص الآية القرآنية التي تمنع الإكراه على اعتناق الدين عن
تأكيد لا يتزعزع، وقوة الأُمَّة تُوَفِّر للمؤمن ألا (يُخِيفَ) اليهودي ولا
المسيحي، وأن يحترم -بالتالي- شخصهما ودينهما ومؤسساتهما ... وينبغي من جهة أخرى
الإشارة إلى أن الشعوب الإسلامية بمختلف نزعاتها، الدينية أو الفلسفية، قد قاست ما
قاساه المعاهدون حين بلغ جو التعصب ذروته [في السلطة]، إن لم تكن قاست أكثر مما
قاسوا. وتنقل الكتب مثلا أن أحد المسلمين لم ينج من القتل على أيدي زمرة تخالفه
الرأي إلا بعد أن ادعى أنه ذمي".
ويتحدث عن
قيمة الدين في صمود هذه الأمة وتماسكها رغم كل ما أريد لها من التمزيق فيقول: "كان
الدين حافزا فعالا على تأليف كيان متميز لم تصدعه صروف الدهر، والاحتكاك بمختلف
الحضارات على مر العصور .. ولقد تمكن المجتمع الإسلامي -الذي قام على الدين- من
الصمود في وجه التفكيك السياسي، ولم تتأثر الروابط الدينية على الحدود والتخوم بين
الدول كبير التأثير".
ويرى بوازار
أن هذا الأمر لا يتقصر على الماضي بل "إن القرآن لم يقدر قط لإصلاح أخلاق عرب
الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق
البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة"[3].
4. ويؤكد المستشرق الفرنسي كارا دي فو على أن "السبب الآخر لاهتمامنا
بعلم العرب هو تأثيره العظيم على الغرب؛ إن العرب ارتفعوا بالحياة العقلية
والدراسة العلمية إلى المقام الأسمى، في الوقت الذي كان العالم المسيحي يناضل نضال
المستميت للانعتاق من أحابيل البربرية وأغلالها"[4].
5. ويقول المستشرق والقانوني الفرنسي جاك ريسلر عن شمولية الإسلام: "إن
القرآن يجد الحلول لجميع القضايا، ويربط بين القانون الديني والقانون الأخلاقي،
ويسعى إلى خلق النظام والوحدة الاجتماعية، وإلى تخفيف البؤس والقسوة والخرافات،
إنه يسعى إلى الأخذ بيد المستضعفين، ويوصي بالبر، ويأمر بالرحمة وفي مادة التشريع
وضع قواعد لأدق التفاصيل للتعاون اليومي، ونظم العقود والمواريث، وفي ميدان الأسرة
حدد سلوك كل فرد تجاه معاملة الأطفال، والأرقاء، والحيوانات، والصحة، والملبس ...
إلخ"[5].
6. ويقول المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديل في استعراضه لأخلاق
المسلمين: "لا يمكن إنكار أن الإسلام مارس فضائل حقيقية وخاصة منها الفضائل
الاجتماعية، وهي استجابة لنداءات القرآن، نعثر فيها على أساليب تضيف إلى وصايا
الله، وتبدو كأنها استمرار للبر؛ وذلك كما تحدد الآية الرائعة التالية: {ليس البر
أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر
والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا
عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم
المتقون}. فالتعاون وحسن الضيافة والكرم والأمانة للالتزامات -التي تؤخذ تجاه
أعضاء المجتمع والاعتدال في الرغبات والقناعة- تلك هي الفضائل التي لا تزال تميز
المسلمين، وهي مثالية حقيقية، تريد أن ترتقي بقوى الطبيعة البشرية، والتي تكفي
لإعطائهم عزة نفس وكرامة كان يجهلها عرب الجاهلية"[6]
7. يقول هنري دي كاستري -الكاتب والعسكري الفرنسي الذي خدم في الجزائر-
والذي قال: "أنا قد قرأت التاريخ، وكان رأيي -بعد ذلك- أن معاملة المسلمين
للمسحيين تدل على ترفع عن الغلظة في المعاشرة، وعلى حسن مسايرة، ولطف مجاملة، وهو
إحساس لم يشاهد في غير المسلمين إذا ذاك، وخصوصا أن الشفقة والحنان كان عنوان
الضعف عند الأوربيين، وهذه الحقيقة لا أرى وجها للطعن فيها على وجه العموم"،
ويقرر أنه "لو كان دين محمد انتشر بالعنف والإجبار، للزم أن يقف سيره بانقضاء
فتوحات المسلمين، مع أننا لا نزال نرى القرآن يبسط جناحه في جميع أرجاء
المسكونة"[7]
8. ونختم بكلمة إنصاف للمستشرق الفرنسي المعروف أندريه ريمون والذي تخصص في
دراسة البلاد العربية تحت الحكم العثماني، أنصف فيها العثمانيين وكيف كان العالم
الإسلامي هو الملجأ الذي استقبل اليهود الفارين من التعصب المسيحي الكاثوليكي،
يقول: "إن إنشاء الإمبراطورية العثمانية كان له بصفة عامة أثر إيجابي على
مركز اليهود. وقد لجأ العديد من اليهود إلى البلاد الإسلامية للاحتماء بعد طردهم
من إسبانيا أو هروبهم منها وذلك خلال الفترة بين عامي 1492 م و 1496 م ثم في القرن
السادس عشر ... وقد مارس اليهود في المدن العربية الكبيرة حيث تمركزت جاليتهم
أنشطة متنوعة: من المعروف أن أشغال المعادن الثمينة وأعمال الصرافة هي مهنتهم
التقليدية. وفي القاهرة كانت حارة اليهود تقع في قلب المدينة بجوار الصاغة، كما
كان اليهود يعملون أيضا في دار سك النقود. وكانوا يقومون بدور نشيط في التجارة
الخارجية إذ كانوا يصدورن المنتجات المحلية ويستوردون المنتجات الأوروبية، وذلك
بفضل علاقاتهم مع اليهود الأوروبيين. وتمكنوا بفضل رؤوس الأموال التي جمعوها من
القيام بأنشطة بنكية في البلاد التي كانت البنوك فيها غير متطورة"[8].
[1] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة:
عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، ص605.
[2] ألفونسو دي لا مارتين،
مختارات من كتاب حياة محمد، ترجمة: د. محمد قوبعة، (الكويت: مؤسسة جائزة البابطين،
2006)، ص124.
[3] مارسيل بوازار، إنسانية
الإسلام، ترجمة: د. عفيف دمشقية، ط1 (بيروت: دار الآداب، 1980 م)، ص202، 73، 74،
109.
[4] كارا دي فو، "الفلك
والرياضيات"، ضمن: توماس أرنولد (إشراف)، تراث الإسلام، تعريب: جرجيس فتح
الله، ط2 (بيروت: دار الطليعة، 1972م)، ص564.
[5] جاك ريسلر، الحضارة العربية،
ترجمة: خليل أحمد خليل، (بيروت: عويدات للطباعة والنشر، د. ت)، ص51.
[6] دومينيك سورديل، الإسلام، ترجمة:
سليم قندلفت، ط2 (دمشق: دار حوران، 2003م). ص107.
[7] هنري دي كاستري: الإسلام
خواطر وسوانح، ترجمة: أحمد فتحي زغلول، ط1 (الجيزة: مكتبة النافذة، 2008م)، ص79، 131.
[8] أندريه ريمون، المدن العربية
الكبرى في العصر العثماني، ترجمة: لطيف فرج، ط1 (القاهرة: دار الفكر للدراسات،
1991 م)، ص 84، 85.