استغرب بعض القراء من مقال العدد
الماضي الذي تحدث عن شذرات من مجد المرأة المسلمة بعد سقوط الأندلس، وعاد البعض
إلى المقال القديم "سيوف الإسلام الخفية" الذي يروي دور المرأة المسلمة
في إسلام المغول وملوكهم، وذلك أن ثبات الرجال الأشداء في ميادين النكبة الرهيبة أمرٌ
عزيزٌ نادر، فكيف بالمرأة الضعيفة المقهورة!
على أن هذا لا ينبغي أن يُستغرب، ففي
كتابنا الكريم ضرب الله مثلا للذين كفروا بامرأتين: امرأة نوح وامرأة لوط، وكيف
أصرتا على الكفر وهما في بيت النبوة، وأحدهما –وهو نوح- من أولي العزم من الرسل
ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، والآخر بلغت امرأته أنها كانت تدُلُّ قومها
على أضياف زوجها كما جاء في بعض التفاسير، أي أنها كانت محنة فوق محنة قومها، وقد
كنتُ سألت بعض إخواننا المختصين في التفسير: ما السر في أن القرآن الكريم يحرص على
ذكر امرأة لوط ضمن المشمولين بالعذاب مع قومها مع أنه لا يذكر امرأة نوح إذا جاء
ذكر الطوفان الذي أغرق قومها، فأجابني بقوله: أظن أن ذلك لكون امرأة لوط كانت عونا
لقومها على زوجها.
وكذلك لما ضرب الله مثلا للذين آمنوا
ضربه بامرأتيْن: امرأة فرعون ومريم بنت عمران، والأولى منهما آمنت بالله وكفرت
بأطغى جبار في التاريخ على الإطلاق، كفرت بالرجل الذي خضعت له الممالك والرقاب
وتلقب بالرب الأعلى {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] والإله
الوحيد {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقد صمدت لعذابه
حتى لاقت ربها!
ويصلح هذا لموضوع السطور التالية، وهو
عن امرأة أيضا ضربت مثلا عجيبا في الصبر والثبات، وقد أكرمها الله بكرامة لها ظلت
خالدة تُروى إلى أن تقوم الساعة.. تلك هي ماشطة ابنة فرعون!
وقصتها، كما في الحديث، أنها كانت
تُمَشِّط شعر ابنة فرعون (كوافيره بالمصطلح المعاصرة) فسقط منها المشط، فتناولته
وهي تقول "باسم الله" فقالت ابنة فرعون: أبي؟ فقالت الماشطة: لا، بل ربي
وربك ورب أبيكِ. فأخبرت الفتاة أباها فرعون، فألقى القبض عليها وعلى أبنائها معها،
وشرع في التحقيق: ألكِ ربٌ غيري؟ فقالت: ربي وربك الله. فشرع في التعذيب، فأمر بوعاء
كبير من النحاس، فأحماه بالنار (وبعض الأخبار تذكر أنه ملأه زيتا، حتى صار الزيت
يغلي)، ثم أمر بأن يلقى ولدها فيه، فظلت على موقفها، ثم الثاني ثم الثالث حتى
انتهى إلى طفلها الرضيع فانخلع قلبها عليه فكأنها ترددت، فأنطق الله الصبي فقال
لها: يا أماه اصبري فإنك على الحق.
وبداية الحديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما كان في ليلة الإسراء والمعراج مرَّ برائحة طيبة، فسأل عنها جبريل، فأخبره
أنها ماشطة بنت فرعون، وذكر قصتها.
وفي هذه القصة درس ظاهرٌ يتذكره الناس
ويُذَكِّرون به، وفيها دروس منزوية نحاول أن نلفت النظر إليها.
فأما الدرس الظاهر فهو هذه القوة
الإيمانية النفسية الرهيبة التي سكنت قلب هذه المرأة، تلك التي كان لها العذر في
أن تسكت وتكتم وتنطق بالكفر وقلبها مطمئن بالإيمان، لكنها اختارت موقف العزيمة،
وأي عزيمة؟! إنها مواجهة الفرعون الرهيب الجبار الذي يرتعد له آخر من في المملكة
والذي لم تنتهي آثار طغيانه من نفوس بني إسرائيل بعد عشرات السنين من مهلكه أمام
أعينهم!
ولو أنها واجهته بنفسها وحسب لكانت
مثالا نادرا، فكيف وقد رأت احتراق أبنائها أمامها واحدا بعد الآخر، وشاهدت بعينها
تفحم أجسادهم وسمعت بأذنها صراخاتهم وشمت بأنفها رائحة شواء جلودهم واحتراق لحومهم
وعظامهم، هذا والله موقفٌ هائل لا يكاد يبلغ المرءُ القدرةَ على أن يتصوَّره في
نفسه وأن يتمثله في عقله وخياله، فكيف بالتي واجهته حقا وحقيقة! ثم لم تتراجع!!
الموقف في ذاته موقف عظيم ضخم، وهو حين
يُروى في أيامنا هذه موقف أعظم وأضخم، فإننا نشاهد هوان الدين على نفوس المسلمين،
ونرى الشكوك والتردد يغزو قلوب أبناء المسلمين بأدنى شبهة ولأدنى شهوة وبأقل
الضغوط. مع من فينا –والحمد لله- من الصابرين الصامدين الثابتين الباسلين الذين
فقدوا أبناءهم في حروب ومظالم كثيرة، ولكنهم القلة، ثم يبقى فارق الاختيار وفارق
المواجهة وفارق الصبر عظيما وضخما لصالح ماشطة بنت فرعون.
فما أجدر المسلم أن يتذكر كل حين هذه
المسلمة وأمثالها، فيستعين بأخبار ثباتهن على ما هو فيه من المحنة، ويأخذ من صبرهن
قبسا على أيامه وبلائه حتى يلقى الله.
وأما الدروس المنزوية التي تخفى على
أغلب الواعظين، فمنها:
1. نفسية الجبار الطاغية، إن الرجل
الذي دانت له الألوف وعشرات الألوف في عرض البلاد وطولها ارتاع وانزعج لأن امرأة
لا قيمة لها في مُلكه انطوت في قلبها على عقيدة تناقض إرادته، ولم يُعرف رفضها هذا
إلا بفلتة لسان عابرة، كان يمكنه أن يتجاهل ويتغافل، فلا قتل هذه المرأة يزيد في
أمجاده ولا بقاؤها يخصم من هيبته، فلا مماتها سيُروى في أخباره ولا حياتها
ستُنْقِص من دولته، ومع هذا لم تسمح نفسه أن يوجد في زاوية ما من مملكته من يعارض
إرادته ولو سرًّا! فأفرغ لهذا وقتا من وقته وقدَّمها على شؤون السياسة والحكم
كأنما إيمانها المكتوم هذا أمرٌ أخطر وأكبر.
ثم كان من قسوته أنه لم يذهب إلى قتلها
وعقوبتها، بل أراد لها أن تتوب وتندم وترجع وتعترف له بالربوبية والألوهية، وقد
كان يمكن له أن يقتلها بعد أن يعذبها فيشفي رغبة ثأره ويجعلها عبرة ومثلا، لكنه لم
يفعل، لعله لو فعل هذا لبقي شعوره بالهزيمة أمامها كما هو، وبقي إيمانها في صدرها
كما هو، إنما أراد أن تعلن هي إيمانها به وكفرها بالله، وأن ترجع هي بنفسها
ولسانها عما تعتنقه في قلبها، ولهذا جاء بأولادها ليحرقهم أمامها واحدا تلو الآخر!
لم يكن في قلبه شيئ من الرحمة بهؤلاء
الصبية الذين يحترقون انتقاما من إيمان أمهم، كان مشهدهم وهم يحترقون أقل من شهوته
أن يرى خضوع أمهم ورجوعها. وكفى بهذا قسوة وغلظة وطغيانا!
يجب على المرء فينا أن يراقب نفسه
وطباعه، فإن انطواء النفس على القسوة قد يصل بالمرء إلى هذه الطباع الوحشية، وإن تعلق
المرء بالمنصب والنفوذ والقوة وإرادته أن يخضع الناس له قد تورثه مثل هذه الطباع
التي تحمله على ارتكاب أمور بهذه البشاعة، وإن كل صاحب سلطة مهما صغرت مُعَرَّضٌ
لخصلة من خصال الفرعونية بقدر ما له من النفوذ، ونحن نرى هذا بأعيننا كما نشعر به
في نفوسنا، فحتى الموظف الصغير يجد لذة في تحكمه بورقة أو بختم أو بتوقيع، فكيف
بمن فوقه؟!
2. ومن الدروس كذلك نفسية الخاضع
للفرعون، إنه هذا المجهول الحاضر في القصة، الغائب باسمه وشخصه الماثل بفعله
وأثره، هذا الجندي الذي كان ينفذ أمر الفرعون فيلقي بالصبي في القدر المحميّ أو الزيت
المغلي، يسمع أمر الفرعون فيطيع دون تردد ولا نقاش.
هذا التابع المطيع، الذي رافق قصة
فرعون من أولها إلى آخرها، كان في أولها يهجم على البيوت فإذا رأى المولود ذكرا
ذبحه تنفيذا لأمر الفرعون، وكان في منتصفها يرى معجزة موسى وإيمان السحرة به فينفذ
أمر فرعون بتعذيبهم وقطعهم، ثم هو في آخرها يرى المعجزة الكونية الهائلة ويشهد
بعينيه انفلاق البحر لموسى لكنه مع ذلك لا يؤمن بل ولا يتوقف ولا يفكر، إنما يسمع
لفرعون ويطيعه ويخوض وراء البحر حتى يغرق معه!
هذا الجندي الفرعوني المحترف، الذي
ينفذ الأوامر كما تصدر إليه، يحذف عقله ومشاعره معا، لا يهتز قلبه لمرأى الطفل
المرعوب إذ ينزعه من يد أمه، ولا لصراخه إذ يرفعه إلى القدر، ولا لاحتراقه بعد أن
يقذفه فيها.
فهذا أسوأ المراتب وأحط المنازل، فقد خلا من عقل الفرعون، وخلا من فطرة الإنسان، وانهار ليكون أداة القتل والتعذيب.. فلا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله لنا ولكم النجاة من هذه المصائر.
نشر في مجلة الممجتمع، ديسمبر 2019
شكرا على هذا المقال العضيم الذي اثنيتا الحاضر على المستقبل واشدت الماضي على الحاضر لكي يتفكر المتصلطون واجنادهم من خلفهم على غياب الفطرب وانعدام الانسانية
ردحذفشكرا أخي محمد
ردحذفانها المراءه حينا يملها الايمان والعزيمه والقوه الهم ارحم شهداء المستبدين
ردحذفمقال جميل شكرا لك
ردحذفجزاك الله خيرا
ردحذفاسلوب جميل وافكار نافذه
السهل الممتنع
لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ردحذفجزاك الله كل خير استاذ محمد
ردحذفجزاك الله خيرا
ردحذفجزاك الله خيرا
ردحذفوهذا حال طغاة اليوم و جنودهم لعنة الله عليهم جميعا
نسأل الله العفو و العافية
حفظكم الله
ردحذفجزاكم الله خيرا على هذه الوقفات التى في القصة ما كنت اخذ بالى منها
ردحذفاخى الكريم شرح الله صدرك وثبتك على الحق دائما
ردحذفللأسف عندما تتحدث عن دور الشرطي أو الجندي في تنفيذ أوامر فراعنه هذا الزمان تجد من يبرر لهم هذا الفعل ويقولون انه عبد المأمور وأنه ينفذ الأوامر وليس باستطاعته فعل شئ
ردحذفوكفى بجهنّم سعيرا، أين هو الآن ؟ النّار يُعرضون عليها غُدوّاً وعشيّاً ويوم تقوم السّاعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب .
ردحذفيكونُ في آخرِ الزَّمانِ شُرَطٌ يغدونَ في غضبِ اللَّهِ ويَروحونَ في سَخطِ اللَّهِ , فإيَّاكَ أن تكونَ منهُم
ردحذفالراوي : أبو أمامة الباهلي | المحدث : ابن حجر العسقلاني | المصدر : القول المسدد | الصفحة أو الرقم : 1/40 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح
يقول الإمام ابن القيم حين يصف التفكُّر وعظيم شرفه: "تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة؛ فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة
ردحذفثبتك الله اعانك الله اكثر الله من امثالك فما احوج الامة الى مفكرين و مؤرخين يتأملون فى تاريخ امتنا ليخرجو لنا بواعث العزه وزمانها
جزاك الله خيرا
ردحذفوما اكثر الفراعنة في زماننا
ردحذف