سيرة ذاتية عذبة.. وهي
تزداد عذوبة كلما اقتربت من آخرها
وفيها تصوير متميز للقرية المصرية الصعيدية في العقد الثاني من القرن العشرين، أفراحها وأتراحها وأفكارها ومواسم سرورها وطبقاتها الاجتماعية .. وهي فرصة لأكرر قولا قلتُه كثيرا: أني لا أنصح بقراءة الروايات كي لا يتكون عقل القارئ من مادة خيالية صاغها قلم مؤلف، والبديل الأفضل لهذا هو قراءة المذكرات الشخصية لا سيما مذكرات الأدباء حيث يجتمع في هذا اللون من الكتابة المتعة القصصية مع الواقعية التاريخية..
ومن المهم لفت النظر أن سيد قطب كتب مذكراته وهو في الأربعين من عمره، وقبل أن يتحول إلى الفكر الإسلامي، إذ صدرت هذه المذكرات عام 1946.. كما أنها تناولت نشأته في القرية حتى مغادرتها فلم تتناول حياته في مصر وما فيها من الأفكار والمذاهب والاتجاهات.
ويبدو في هذه المذكرات التأثر الكبير بمذكرات طه حسين (الأيام) من خلال سرد القصة كأنها حديث عن غائب، ولم يخف سيد قطب هذا بل كتب إهداء هذه المذكرات لطه حسين منوها بكتابه "الأيام"، مع أنه كان قد سبق ورد على كتاب طه "مستقبل الثقافة في مصر".. لكن هناك فرقا يجب التركيز عليه:
إذا تحدثنا عن السلاسة والأسلوب فلا شك عندي أن أسلوب طه حسين ألذ وأمتع وأسلس، ففي أسلوب سيد قطب بعض التركيب والتفلسف والالتفاف حول المعنى..
وأما إذا تحدثنا عن المحتوى والمضمون فالفارق واسع، فطه حسين ساخط على مجتمعه متشوق لمفارقته يكثر من إدانته والسخرية منه وقد كانت حياته مثالا على هذا فقد تحول من الفتى الأزهري إلى الأديب المتفرنس، ومن ابن القرية إلى مثقف السلطة.
وأما سيد قطب فمعدن آخر، إنه الذي يحنو على مجتمعه مهما رفض أفكاره وعادات راسخة فيه، ليس في حديثه إدانة للناس ولا حطا من شأنهم بل تفهما لهم، بل ما هو فوق التفهم من الشفقة والرحمة .. وإن حديثه عن عمال محافظتي قنا وأسوان حين يعملون في أرضهم هو من أكثر ما يؤلم في هذه المذكرات، وقد كانت حياة سيد قطب مثالا على هذا الانتماء العميق لمجتمعه، فهو من قبل أن يتحول إلى الاتجاه الإسلامي ومن بعده ابن بار لهذا الشعب.. ينقد توفيق الحكيم لأنه يكتب بروح الغربي عن أساطير اليونان ولا يكتب بروح المصري الشرقي، ثم هو فيما بعد التحول إلى الإسلام يعد رأسا في الأصالة والتمسك بالدين والشريعة والمنافحة عنها.
وكان سيد قطب -من قبل التحول إلى الفكر الإسلامي وبعده- ابن المجتمع لا ابن السلطة، قاومها منذ مطلع حياته إلى آخرها، شارك صبيا في ثورة 1919 يخطب في أهله محرضا عليها، ثم ينهي حياته بوقفته أمام الجبار الطاغية عبد الناصر الذي خنع له كل الأدباء بمن فيهم العقاد صاحب الصولة والجولة أيام الملكية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق