روى الشهيد
سيد قطب في مذكراته قصة بليغة معبِّرة، وهي تتماس مع ما كنا كتبناه في العدد الماضي عن "نكبة الشعوب
العزلاء"، وهذه القصة الحقيقية وقعت في قريته
موشا التابعة لمحافظة أسيوط، وكانت في العقد الثاني من القرن الماضي، والجدير
بالذكر هنا أن هذه المذكرات التي تحكي طفولة سيد قطب وأيامه في القرية إنما كُتِبَتْ
ونُشِرَت قبل أن يتحول إلى الفكر الإسلامي وقبل أن يتعرف على الإخوان المسلمين. وأهمية
هذه القصة في أنها تختزل كثيرا من الحقائق التي لا تزال حاضرة حتى الآن.
سأنقل القصة
أولا، ثم أعقب عليها بما يهمنا من الوقوف عنده.
قال سيد قطب:
"صحت القرية مروعة على صهيل الخيل وقعقعة السلاح، وخطوات الجند
الثقيلة، يأخذون مشارفها جميعا إلى الحقول، ويجوسون خلالها في جلبة وضوضاء على غير
عادة لها من زيارة الجند في مثل هذا العديد وذلك الضجيج.
وكان أول من كشف الخبر أولئك الذين تقتضيهم أعمالهم أن ينهضوا مع الفجر
مبكرين ليغادروا القرية جميعا، فأوثقوهم بالحبال والسلاسل، وجعلوهم عندهم رهينة
حتى لا يعودوا فيُنَبِئوا القرية النبأ، ويفسدوا التدبير الذي وضعته القوة الهاجمة
على الناس وهم نيام.
ونفذت الخطة نفسها مع خفراء المشارف، فأديرت أيديهم إلى ظهورهم، وكُمِّمت
أفواههم بحيث لا يستطيعون الكلام ولا الصياح، ثم اقتيد الجميع في عجلة إلى دوار
العمدة الذي أوقظ في البكور، وحُجِز في غرفة من غرف دواره، ريثما يجتمع إليه مشايخ
القرية الخمسة الذين جاء بهم العسكر من بيوتهم، فصُنِع بهم هناك ما صُنِع
بالخفراء.
وكانت القرية كلها قد استيقظت مروَّعة، لأن صهيل الخيل وقعقعة السلاح
والهمسات الوجلة التي أخذت تتدسس إلى كل بيت ودرب قد فزَّعت الناس وملأت قلوبهم
رعبا. ماذا؟ ماذا؟ إنها حملة لجمع السلاح!
حملة من مائتي جندي يقودها ضابط تعهد للسلطات بجمع السلاح من قرى المديرية
جميعا، واختار هذه الطريقة المروّعة ليبدأ بها عمله، فلم تعلم القرية ماذا يبغي،
ولا حتى العمدة والمشايخ، إلا بعد أن صار المقبوض عليهم بالعشرات، ومن بينهم مشايخ
البلد الخمسة، وكلهم مكتوفوا الأيدي بالحبال، تتلقاهم الأيدي بالصفع، والأرجل
بالركل، دون أن يعلموا شيئا عن حقيقة ما يُراد بهم.. سوى أن الحكومة هنا، والحكومة
تصنع هذا وسواه.. فالذين عاصروا الحكم التركي لا يزال بعضهم يعيش.
كانت السلطات قد أصدرت أمرا عسكريا بجمع السلاح، وعهدت في تنفيذه إلى رجال
الإدارة، وهؤلاء عهدوا بتنفيذه إلى عُمَد البلاد كالمعتاد، فاجتمع بذلك عدد من قطع
الأسلحة كالذي يجتمع كلما صدر أمر من هذا النوع، وهو عادة لا يساوي إلا نسبة صغيرة
من الموجود في أيدي القرويين.
ولكي ندرك حقيقة الحال، يجب أن نعلم أن السلاح في القرية يملكه فريقان؛
الفريق الأول: هم أصحاب الحقول والمواشي وخفراؤهم الخصوصيون الذين يسهرون على
أموالهم من اللصوص، والفريق الثاني: هم هؤلاء اللصوص الكثيرون الذين
يجدون هذه الحرفة –على ما فيها من مخاطر- أضمن للعيش من العمل المرهق في الحقول.
ونَقْصُ السلاح في أيدي أصحاب الحقول والمواشي معناه زيادة في ارتكاب
الجرائم، والاعتداء على بيوتهم وحقولهم ومواشيهم، أما نقص
السلاح في أيدي اللصوص فمعناه تجريدهم من بعض وسائل الرزق التي اختاروها لأنفسهم
في الحياة!
كلا الفريقين إذن حريص على اقتناء السلاح، ولما كان العمدة يخشى أفراد
الفريق الثاني تارة، وتتفق مصلحته الخاصة مع وجودهم تارة، فإن جمع السلاح في كل
مرة كان ينصبّ على الفريق الأول بكل تأكيد.
ولكن الأمور لا
تجري في القرية بالعنف، ولا حسب الأوامر الرسمية، إنما تجري حسب المواضعات
العرفية، فالعمدة يعلم بالضبط كم قطعة من السلاح في كل بيت، وما نوع كل قطعة، فإذا
طلبت الحكومة جمع السلاح اتفق مع بعض من يملكونه على تقديم القطع القديمة منه،
ولكي لا تكون المسألة مكشوفة، فإن بعض القطع الحديثة تُزَيِّن المقدار المجموع،
ويُوَرَّد للسلطات كآخر ما استطاع العمدة أن يحصل عليه.
وطبيعي أن هذا
كله لا يتم بالمجان، فلكل شيء ثمن، ولكل خدمة مقابل في الريف، فإذا خطر للسلطات أن
ترسل بقوة وعلى رأسها ضابط لتولي هذا العمل، فالمرجع هو العمدة وبإشارته يتم كل
شيء، وغداءٌ فخمٌ على أوزي وبعض أزواج الديكة والدجاج والحمام كفيلٌ مع الوسائل
الأخرى بتسوية كل شيء، وإتمام المحاضر على خير ما يرام!
أما هذه الطريقة
المبتكرة، فقد تفَتَّقَت عنها عبقرية ذلك الضابط، الذي تعهد للسلطات بجمع السلاح
جمعا حقيقيا من جميع قرى المديرية، فاتخذ هذا الأسلوب البارع المفاجئ الذي روعت له
القرية كلها في جنح الظلام.
ونعود إلى هؤلاء
المشايخ الخمسة الذين أديرت أيديهم إلى ظهورهم، أُلْصِقَتْ وجوههم بالحائط دون أن
يعلموا شيئا مما يُطلب إليهم من مهام الحكومة التي اعتادوا أن يتلقوها بين الحين
والحين، كجمع أنفار السخرة لإصلاح الجسور، ولتنقية الدودة من المزارع الكبيرة، أو
قتل الجراد فيها، دون أن ينالوا على ذلك أجرا، لأن أجورهم –إن حُسِبَت لهم أجور-
تذهب إلى جيوبٍ أخرى، وتؤخذ بصماتهم على أوراق لا يدرون ما هي، ثم ينصرفون وبحسبهم
أنهم قد انصرفوا ناجين، بعد أن يكونوا قد كُلِّفوا استحضار طعامهم من بيوتهم طوال
مدة السخرة التي تنقص أو تزيد!
لم يفصح لهم أحد
عن هذه المهمة المطلوبة منهم في هذه المرة، ولكن أفصحت لهم السياط التي أخذت تلهب
ظهورهم من أيدي الجنود، عن أن اليوم ليس كالأيام، وإنما هو العذاب الأليم الذي لا
يملكون له ردًّا وهم مسجونون!
ثم أخذ الرصاص
يدوي فوق رؤوسهم هم والخفراء المُوثقون، والأهالي الذين اصطيدوا من مشارف القرية
ومن طرقاتها حسبما اتفق حتى امتلأ بهم فناء الدوار!
هذا الرصاص
للإرهاب، وبلبلة الأفكار، وإتلاف الأعصاب، وبينما هذا الفزع الأكبر يُخيِّم عليهم،
ويكاد يُفقدهم صوابهم، أُمِر كلٌّ من المشايخ أن يُملي على الشاويشية أسماء مائتي
رأس أسرة ممن يملكون سلاحا في البلدة، وأن يُعَيِّن نوع قطع السلاح التي يملكونها!
وإذا كان قد بقي
فيهم إلى الآن عقلٌ أو ذاكرة، فقد أخذ كل منهم يُملي الأسماء، وكلما توقف برهة
ليتذكر، نزلت السياط على ظهره وجنبيه، فارتفعت حرارة العدّ، ومضى كالمجنون يُملي
الأسماء!
وانتهت العملية
فإذا في يد كل جاويش بيانٌ عن مائتي عائلة تحمل سلاحا، وأمام كل اسم نوع القطع
التي يملكها رأس هذه العائلة.
ولسنا في حاجة
إلى أن نقول: كيف كانت هذه البيانات، ولا مدى مطابقتها للواقع، فالشيخ المصلوب
المجلود المهدد بالموت من الرصاص المتطاير فوق رأسه، لا يُطلب إليه في هذه الحال
أن يتحرى شيئا، ولكننا نستطيع أن نؤكد أن أحدا من كبار الأشقياء المرهوبين لم
يرد اسمه في هذه القائمة، وإذا كانت بعض الأسماء قد وردت فإنما هي لصغار الأشقياء
الذين لا عصبية لهم في البلد ولا نفوذ!
وانتهت هذه
المرحلة ووقف المشايخ الخمسة يلهثون من التعب والفزع والألم، أما العمدة فقد اشترى
نفسه وكرامته من أول الأمر، لقد كان حصيفا، رأى العين الحمراء، فسارع إلى وسيل
مضمونة لإرضاء الحكام، هَدَتْه إليها تجربة طويلة وذكاء عملي ومقدرة على جميع
الوسائل والاتجاهات!
ثم بدأت المرحلة
الثانية، فانطلق الخفراء مع الجنود وهو مكتوفو الأيدي، يجوسون معهم خلال القرية
ليدلوهم على البيوت، وليدقوا الأبواب يطلبون رؤوس العائلات، ويصروا على استحضار
أكبرهم سنا، وكلما استحضروا منهم جماعة ذهبوا بهم إلى الدوار.. وهناك يُصنع بهؤلاء
ما صُنِع من قبلُ بالمشايخ والخفراء قبل أن يُسْأَلوا شيئا وقبل أن يجيبوا، حتى
إذا أُشْبِعوا ضربا وترويعا وإهانة صُرِّح لهم عما يُطلب منهم من قطع السلاح حسب البيانات.
فأما إذا صادف أن كانت القطع المطلوبة من أحدهم مطابقة لما عنده فقد أحسّ بالفرج
وبادر بالإقرار وطُلب أن يسمح له بإحضارها، ولكنه لم يُجَب إلى طلبه، إنما يُستدعى
أحد أبنائه أو أحد أفراد عائلته، فيشاهده هكذا، ثم يلقى هو الآخر بعض الصفعات
واللكمات، ثم يتلقى الأمر منه أن يستحضر قطع السلاح المطلوبة، فيخرج ركضا
لاستحضارها، حتى إذا تمَّت معاينتها وظهرت مطابقتها للبيانات المكتوبة أُفرج عن
الرجل وابنه أو قريبة، فخرجا لا يدريان النور من الظلام لشدة ما لَقِيا من اللكم
والصفع، ومن الفزع والروع، وانصرف أهله لعلاج جروحه وكدماته بالزيوت
والمُسَكِّنات!
وأما إذا صادف
أن اختلفت البيانات عما عنده من السلاح، أو لم يكن لديهم سلاح أصلا، فالويل له
والثبور، يُعاد جلده ولكمه وصفعه ما دام يُنكر، أو يقرّ بسلاح آخر غير السلاح
المطلوب، وفي الحالة الأخيرة كان يُحْضَر السلاح الذي يملكه، ثم يظل يُطالب بقطع
السلاح الأخرى التي أملاها الشيخ وهو في ذهول الروع والآلام!
عندئذ يضطر
المسكين أن يعترف بما ليس عنده، وأن يطلب مهلة لإحضاره من مكمنه البعيد، وفي هذه
المهلة ينطلق أبناؤه وأقاربه يبحثون عن قطعة سلاح مطابقة للبيانات، لشرائها حيث
تكون، فإن لم يجدوها في القرية ركبوا أسرع دوابهم للبحث عنها في القرى المجاورة،
فيسمح لهم الحراس بالخروج بحجة أنهم ذاهبون لاستحضار سلاحهم المودع عند أقاربهم في
هذه البلاد، اطمئنانا إلى أن رأس الأسرة رهين لدى القوة، وعذابه مرهون بالوقت الذي
يقضونه غائبين.
وعندما يُوفَّقون
إلى القطعة المطلوبة يؤدون الثمن الذي يطلبه صاحبها مهما ارتفع. وكثيرون انتهزوا
هذه الفرصة فبالغوا في أثمان القطع المطلوبة، كما أن الكثيرين أيضا ظهرت أريحيتهم
في إنقاذ المكروبين بأرخص الأسعار.
عندئذ يبتسم
الضابط العبقري وهو يشاهد قطع السلاح المطلوبة تُحضَر بعد الإنكار، ويردّ ذلك إلى
عبقريته الفذة التي أرشدته إلى اختيار أقوم طريق!
في نهاية اليوم
كانت الأسلحة المجموعة تُصَنَّف أكواما أكواما، فهذه بنادق، وهذه غدارات، وهذه
مسدسات، وهذه طبنجات، وهذه سيوف، وهذه سكاكين كبيرة، وهذه بلط، وهذه مزاريق، وكل
"ماركة" من هذه الأنواع مرتبة وحدها، والضابط العظيم ينظر مرتاحا منتفشا
كالديك إلى انتصاره الكاسح على أولئك القرويين الملاعين..
وكان في كل بيت
من بيوت القرية مناحة صامتة، فهذا مشجوج الرأس، وذلك مرضوض الأضلاع، وذلك ملتهب
الجلد، وهذا ممزق الأشداق، وكان نسوة وأطفال القرية يغدون ويروحون بالزيوت وكمادات
الماء الساخن والبارد يسعفون بها المصابين.
وكان كثيرون من
أهل القرية قد باعوا مواشيهم وطعام أطفالهم وحلي نسائهم ليشتروا بها قطع السلاح
التي قيل إنها عندهم، وهم لم يحملوا في حياتهم سلاحا. لقد كان هؤلاء هم جماعة
الفقراء الذين أكمل المشايخ بهم العدد، وهم في مأمن من ردّ الجميل، إذ لا قوة لهم
كالأشقياء، ولا جاه لهم كالأثرياء.
ويمرّ على هذه
الحادثة أكثر من ربع قرن! والطفل لا يزال يذكرها كأنها حادث الأمس القريب، لقد فزع
للهول كما فزع كل طفل وكل رجل وكل امرأة. وفي أثناء هذه السنوات يسمع أن هذا
الضابط الوحش قد رُقّي فصار في وقت من الأوقات وكيلا لمدير الأمن العام، اعترافا
بكفايته في صون الأمن وحفظ النظام، فيكمن في نفسه شعور بالأسى الدفين.
ثم يسمع إشاعات
بعد ذلك أنه لاقى حتفه وهو يزاول شناعة من هذه الشناعات، فيحس أن كابوسا ثقيلا قد
رُفِع عن صدره، وتنفس الصعداء".
انتهى الاقتباس
من مذكرات الشهيد سيد قطب.. وبقي أن نُعَلِّق عليه بما هو مقصود المقال، فنقول
وبالله التوفيق:
1. أما الطغيان
والجبروت والإجرام في السلطة المصرية فهو حديث طويل، وليس هو المقصود بالكلام هنا،
ولكنه إجرام متأصل قديم، وحتى إشارة سيد قطب إلى "الحكم التركي" الذي لا
زال يعيش بعض من أدركوه، فإنما المقصود به حكم أسرة محمد علي وليس الحكم العثماني،
فقد انخلعت مصر من الحكم العثماني منذ 1805 مع تولي محمد علي للسلطة، وهذا الهجوم
الذي تنفذه السلطة على الناس إنما هو أسلوب محمد علي في جمع المصريين للتجنيد
الإجباري، ويمكن العودة في تفاصيل هذه المآسي لكتاب "كل رجال الباشا"
(ص145 وما بعدها)، ومن وقتها صار الشعب المصري كالعبيد لدى السلطة، حتى إن الرحالة
الإنجليزي ريتشارد بيرتون –الذي زار مصر في منتصف القرن التاسع عشر- يتحدث عن
تقليد مستقر في ضرب المصري بالقفا إذا دخل قسم الشرطة. (رحلة بيرتون، 1/9، 105).
إن الشعب قد صار
مجموعة من العبيد بإمكان ضابط الشرطة أن يستبيحه كيفما شاء، أي أن العيش في مصر
مرهون بمزاج ضابط الشرطة غالبا، فإذا خطرت له فكرة في إطار صلاحياته فبإمكانه أن
ينفذها بما يحيل حياة الناس جحيما دون أن يبالي.
وبينما كانت
تحتفظ القرى بنوع من الأعراف وحفظ المقامات واحترام الكبير، فإن السلطة لا تفهم
هذا كله، إن حضور السلطة إلى القرية يعني انهيار كل القيم والأعراف والتقاليد،
لتبرز الحقيقة الوحيدة: السيد والعبيد، وللسيد أن يفعل ما شاء بمن شاء كيفما شاء!
لا معقب ولا رقيب.
ليس هذا فحسب،
بل إن كفاءة الضابط تقاس بما يُحدثه من الترويع، ومن تحقيق علاقة السيد بالعبيد،
فقد وصل إلى أن صار مديرا للأمن العام، ولم يلق جزاءه العادل إلا على يد مواطن
"خارج عن القانون"!!
2. وأما اللافت
للنظر والمثير للغيظ معا أن هذه السلطة المتوحشة لا تقيم الأمن، ولا تقضي على
اللصوص، بحيث يضطر الناس إلى التسلح لحماية أنفسهم وأموالهم ، ولكن الحكومة تمنع
حيازة السلاح تحت مبرر أنها الجهة التي تحتكر السلاح وتتكفل بحفظ الأمن وإقامة
العدل. فكأنها تمنع عنك حيازة الماء لأنها تتكفل لك بإروائك من العطش ومع ذلك
فإنها لا تفعل، فإذا حاولت أن تشرب فأنت مهدد بالعقاب!
لن نخوض الآن في
حق حمل السلاح الذي هو حق أصيل للبشر منذ وُجِدوا على هذه الأرض، ولم يكن معرضا
للنقاش إلا في عصر الحداثة هذا، مع أن بلاد الحداثة الآن تسمح بحمل السلاح وتتساهل
في الترخيص به، إلا بلادنا، التي يُراد لشعوبها أن تعيش كالفراخ والدجاج تنتظر
دورها على يد الجزّار. ولذلك كان التجريد من السلاح في مقدمة القرارات التي أصدرتها
سلطات الاحتلال والتغريب منذ نابليون وحتى الآن.
لكن الذي يجب
الخوض فيه والتركيز عليه، هو هذا الفارق بين الفريقيْن المسلحيْن في القرية، فثمة
فريق يحمي السلاح ليدافع عن نفسه، وثمة فريق يحمل السلاح ليُهاجِم به فيسرق وينهب.
أما الفريق الأول فهو خارج عن "القانون" في مسألة حمل السلاح وحدها،
وأما ما سوى ذلك فهو مواطن صالح ملتزم بشروط السلطة: يؤدي الضرائب، يعمل بالسخرة،
يتحاكم إلى المحاكم... إلخ! وأما الفريق الثاني فهو خارج عن "القانون"
دائما، حياته هي نفسها الخروج على "القانون"..
فماذا كان
المصير؟!
كان المصير أن
هؤلاء الخارجين عن القانون هم الذين كانوا بمنأى عن السلطة، هم الذين كانت لهم من
القوة والهيبة ما منع مشايخ البلد أن يُبْلِغوا عنهم حتى وهم في العذاب، لقد فضَّل
مشايخ البلد أن يكتبوا أسماء الفقراء والتعساء ومن لم يحمل سلاحا قط ليُكملوا به
العدد ولا أن يقتربوا من فئة اللصوص المسلحين..
وهكذا، لم يدفع
الثمن إلا المواطنون الصالحون الملتزمون بالقانون، بل ودفعه أولئك الضعفاء الذين
لم يحملوا سلاحا أصلا لأنه ليست لديهم أموال يحرسونها أو ليست لديهم أموال يشترون
بها سلاحا، بينما نجا من هذا المصير أولئك الذين مزَّقوا القانون وخرقوه ووضعوه
تحت أقدامهم وعاشوا حياتهم لا يعترفون به ولا يقيمون له وزنا.
وهذا الوضع
مستقر مستمر حتى يومنا هذا، فالسلطة في بلادنا تتحالف مع اللصوص والبلطجية ومنظمات
الإجرام وتجار السلاح والمخدرات والأعضاء البشرية والآثار، وبينهما تحالفات وصفقات
وخدمات متبادلة، بينما لا يُطبَّق القانون إلا على "المواطن الصالح"،
فهذا المواطن الصالح يعاني من البلطجي واللص والمجرم ثم لا يجد طريقا إلا أن يشتكي
للشرطة، وعند الشرطة يعاني مرة أخرى، بحسب ما يجده من الظروف وما يكون من مزاج
الضابط الذي سيتولى أمره.
في هذه الحال،
يجب أن يسأل المرء نفسه: هل من المفيد أن تكون هذا "المواطن الصالح"؟
3. وقعت هذه
القصة في قرية موشا المنزوية في بلاد الصعيد، ولكنها تعبير حقيقي ممتاز عن السياسة
الدولية، القوة الدولية التي تمثل السلطة العليا يمكنها أن تستبيح ما تشاء من
العبيد بفارق القوة التي تملكها، وحتى السلطة المحلية التي تخدمها وتوفر عليها
الوقت والجهد، يمكن أن يعنّ لها في بعض الأحيان أن تتجاوزها وتتدخل بنفسها لتنفذ
ما تراه في صالحها.
إن عمدة القرية
لم يكن متمردا، ولا مشايخ البلد، بل هم ممثلوا السلطة العليا، هم الذين يديرون لها
الأموال والثروة ويجمعون لها الضرائب والعاملين بالسخرة، ولكنهم يحتاجون في سبيل
هذا لبعض المهارة والحكمة التي تفرضها الأعراف التي جعلتهم في موضع السلطة
فيراعونها. السلطة القوية الغاشمة لا تعترف بهذا كله حين تريد. مثلما لا يتردد
الضابط وجنوده في حبس العمدة ومشايخ البلد وإهانتهم، لا يتردد ترمب في إهانة
وإذلال عملائه في السعودية ومصر رغم أنهم لم يفكروا في التمرد عليه، فهو ينهب
بالمليارات ويفرض العقوبات ويهدد ويسخر، والعبيد يواصلون الخدمة ولا يفكرون في
التمرد!
وحدهم الذين
تسلحوا بأنفسهم، وغامروا بها، وخاطروا، وصاروا لا يبكون على شيء.. وحدهم الذين
ينجون من الإهانة والإذلال.. فإما عاشوا كما أرادوا، وإما ماتوا موتا سريعا لا
إهانة فيه ولا إذلال. وحدهم أولئك الذين استطاعوا الانتقام من الضابط الوحش الذي
صار بوحشيته مدير الأمن العام!
استشهاد القسام
وعزام
مرت في شهر
نوفمبر ذكرى استشهاد رجلين من أعظم المجاهدين في التاريخ الإسلامي الحديث، وهما
الشيخ عز الدين القسام (20 نوفمبر 1935م) والشيخ عبد الله عزام (24 نوفمبر 1988م)،
وكلا الرجلين مثَّل رمزًا للمقاومة الإسلامية في عصره وفي الأجيال التالية له حتى
يوم الناس هذا!
كلا الرجلين من
رجال الأزهر الشريف، غير أنك لن تجد الأزهر المعاصر يحتفي بهما ولا يذكر لهما
مآثرهما ولا يدرس سيرتهما، وما ذلك إلا أن محاولات تحطيم الأزهر وتدجينه قد آتت
ثمرتها، وصار الأزهر يدفع عن نفسه وصمة التطرف والإرهاب!!
وكلا الرجلين
وجد طريقه للجهاد حين أغلق عليه الجهاد في بلده، فقد جاهد القسام في سوريا حتى
أغلق عليه السبيل وضاقت به المسالك، فوجد سبيلا له للجهاد في فلسطين حتى لقي
الشهادة. وحاول عزام أن يتصدى في قلة للاجتياح الإسرائيلي لقريته في نكبة 1967 ثم
ضاقت عليه سبيل الجهاد في بلده فوجد سبيله للجهاد في أفغانستان وكان شيخ المجاهدين
العرب. وبهذا حقق الرجلان بسيرتهما واستشهادهما واقع أن الجهاد ماض إلى يوم
القيامة، وأن الأمة أمة واحدة، وأن الحدود بينها ليست إلا ترابا وخيالا ولو تواطأ
على ترسيخها وتعزيزها طواغيت الغرب والشرق.
وكلا الرجلين لا
يزال حيا في ضمير الأمة وبين صفوة شبابها رغم أن السلطة ومنافذ تعليمها وثقافتها
وإعلامها يعمل على طمسه وطمره أو على وصف طريقه ومنهجه بالتطرف والإرهاب، فضمير
الأمة أبقى وأعمق، هذا مع أنه يجب أن نلوم كثيرا من الحركات الإسلامية كذلك أنها
لم تسع في إحياء سيرة هذين الرجلين ولا تدريس سيرتهما ولا العناية بإنتاجهما (لا
سيما الإنتاج العلمي الكبير لعزام)، فالذين حملوا على عاتقهم إحياء هذه الذاكرة
إنما كانوا من الشباب الذين خلت أيديهم من عوامل القوة والنشر والترويج.
حماس والجهاد
الإسلامي
من أخطر ما وقع
في الساحة الإسلامية الشهر الماضي هي الحرب التي عانت منها غزة، والتي بدأت
باغتيال القيادي في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا. إن ثمة انقساما حصل في ساحة
غزة التي هي من أهم معاقل المقاومة، ونموذج المقاومة الراشدة التي تمزج السياسي
بالعسكري وتوازن بين قوة العقل وقوة الساعد، وغزة عزيزة على كل مسلم، ثم هي أعز
على كل مهموم بشأن الإسلام وشأن المقاومة. إن غزة بقعة مضيئة في الصمود ونموذج لم
يكن يتوقعه أكثر الناس تفاؤلا، مع ما في كل تجربة من الهنات والأخطاء التي لا تخلو
منها تجربة بشرية.
لكن الذي حدث
هذه المرة هو الأخطر في سياق أن العدو استطاع أن ينفذ عمليته بعد تخطيط وتصعيد
إعلامي ثم عملية ميدانية تستهدف بوضوح إنشاء حالة الانقسام والشقاق بين حماس
والجهاد، وهو الأمر الذي لا نستطيع القول أنه قد فشل فيه، بل على العكس، ما نراه
من الحوارات بين شباب الفصيلين وما ندّ من بعض العناصر من الأفعال يشير إلى وضع
مثير للخوف والقلق على العلاقة بينهما، وهو أمر يجب أن تتداعى له العقول والقلوب
للإصلاح قبل أن يتسع الشقاق. ولعل هذا يكون أولى أولويات أهل الرشد في الساحة
الفلسطينية!
الحكم بإعدام
هشام عشماوي
أذاعت صفحة
المتحدث الإعلامي للعسكر المصري أنهم حكموا بالإعدام على هشام عشماوي، رائد
الصاعقة المنشق عن الجيش المصري، ومؤسس تنظيم المرابطين، ولكن اللافت للنظر أن
جملة التهم التي أذاعتها هذه الصفحة لا تتضمن فيما بينها اعتداءا واحدا على
مدنيين، بل كانت كل التهم هي مشاركته أو تنفيذه في قتال ضد العسكريين. وهذا الوضع
طبقا للعلوم الأمنية العلمانية وتشريعاتهم القانونية لا تندرج تحت مسمى
"الإرهاب"، بل يدرجونها تحت مسمى "التمرد"، فالإرهاب هو غالبا
عمل ضد المدنيين وبلا أهداف سياسية وليست له حاضنة شعبية ولا يعبر عن قضية مشروعة،
بينما التمرد هو عمل ضد نظام السلطة وله قضية مشروعة ويتمتع بحاضنة شعبية ويسعى
لتحقيق أهداف سياسية.
والشاهد أن
السلطة المصرية نفسها التي تهرف بوصف الإرهاب لم تحاول حتى أن تلفق تهمة
"إرهابية" لخصمها الذي أزعجها، والذي لم تستطع أن تصل إليه بنفسها،
وإنما سُلِّم لها تسليما.
وبالنسبة للسلطة
المصرية فيعتبر الحديث عن محاكمة عادلة نوعا من الهزر والسفاهة، فإذا كان الذي هتف
في وسط الجموع وأمام الشاشات "سلميتنا أقوى من الرصاص" قد حُكِم عليه
بالإعدام عدة مرات وبمئات السنين، فكيف بالذي خاض المعركة ضدهم، من بعد ما كان واحدا
منهم؟!
ولا يمكن في هذه
العجالة الحديث عن قضيته، وقد تناولناها سابقا في
هذا المقال،
ولكن الذي يمكن قوله: إنه وإن لم ينصفه التاريخ بعد سقوط هذا الحكم العسكري، فحسبه
أن الله هو الرقيب الحسيب الذي لا يُظلم عنده أحد.