واحدةٌ من أهم أسباب وظواهر ضعفنا الحضاري انقطاعُنا عن تراثنا
الحضاري الثري، ولذلك فكثيرا ما يندهشون الباحثون في التاريخ والحضارة الإسلامية
حين يصادفون أمورا كانوا يظنون أن الحضارة الإسلامية لم تعرفها أو تكتب عنها شيئا!
في هذه السطور القادمة إشارات واقتباسات في أمر الصحة والعلل
والأمراض من تراثنا الحضاري العريق، في مسألة تلوث الهواء وآثاره على الصحة
العامة:
1. عاش علي بن العباس المجوسي -الذي عاش في
النصف الثاني من القرن الرابع الهجري في بغداد عاصمة العلوم واتصل بعضد الدولة
البويهي أقوى أمراء الدولة البويهية، وألف بطلب منه "كامل الصناعة
الطبية" الذي يعد من أهم كتب الطب في التراث الإسلامي[1]، ونحن نقرأ
عنده تفصيلا لتأثير تلوث الهواء على صحة الإنسان، ومن ثَمَّ كيف تكون طرق الوقاية
وطرق العلاج مختلفة بحسب اختلاف الفصول في السنة، يقول: "اعلم أنه ينبغي لكل من
أراد حفظ صحته أن يكون تصرفه في المواضع التي يكون هواؤها صافيًا لطيفًا طيبًا لذيذًا
لمستنشق، سريع التغير من الرياح الهابة، ليس بالغليظ ولا مما يخالطه بخارات رديئة ما
أمكن؛ فإن الهواء أحد الأسباب القوية في تغير الأبدان لحاجة الحياة إليه اضطرارًا،
ولأن أوقات السنة أقوى الأسباب في تغيير الهواء. وينبغي أن تذكر تدبير الصحة الذي يكون
في كل واحد من أوقات السنة، فاعلم ذلك ترشد"[2].
ويقول في أسباب نشوء الوباء: "ولما كانت
الأمراض الوبائية قد تحدث أيضًا من قبل بخارات عفنة تخالط الهواء بمنزلة البخارات المتحللة
من جثث الموتى من الناس والبهائم، والتي تتحلل من الماء الذي تقع فيه البقول، والفاكهة
الكثيرة تتعفن، وَجَبَ -مع ما ذكرنا من تنقية الأبدان والتدبير المضاد لما يحدث في
البدن- أن يتنحى عن ذلك البلد وعن المواضع التي قد اتفق ذلك فيها إن أمكن ذلك، وإلاَّ
فليكن المأوى فوق الريح التي تمر بتلك العفونات، أو في السراديب القليلة الندى والبيوت
التي لا يدخلها هواء كثير وتُرش بالخل وتفرش بالآس والرياحين الباردة، وتبخر المواضع
التي تأويها بالبخورات الطيبة كالعود والصندل والكافور والمسك... ويكثروا من استخدام
الرياحين الباردة الطيبة، فعلى هذا المثال ينبغي أن يتدبر من أراد أن يتخلص من الأمراض
الوبائية"[3].
ومن هنا أوصى بالبعد مسافة رمح عن المصاب
بالأمراض المعدية "كالجذام والجرب والسل والبرسام والجدري والرمد، فإن هذه الأمراض
تُعدي من يجالس صاحبها؛ فينبغي أن لا يجالس الإنسان أمثال هؤلاء، ولا يأوي مع من هذه
حالته في بيت واحد، وأن يتباعد عنهم إلى مواضع تكون فوق الرمح"[4].
2. ومنذ أوائل القرن الخامس الهجري (الحادي
عشر الميلادي) كان ابن سينا –وهو أشهر من أن يُعرَّف- يقسم التلوث إلى نوعين: تلوث
طبيعي أو عادي أو بسيط، وتلوث خارج العادة وفوق الطبيعي، وهو التقسيم الذي لا يزال
معتمدا في علم البيئة المعاصر. يقول ابن سينا بأن "الأسباب المغيرة لأحوال الأبدان
والحافظة لها إمَّا ضرورية لا يتأتى للإنسان التفصي[5] عنها في حياته،
وإما غير ضرورية"، وجعل أول هذه الضروريات "جنس الهواء المحيط وجنس ما يؤكل
ويشرب"[6].
ويُعَرِّف الهواء النقي بأنه "الهواء
الجيد" الذي "ليس يخالطه من الأبخرة والأدخنة شيء غريب، وهو مكشوف للسماء
غير محقون... فهذا الهواء الفاضل نقي صافٍ لا يخالطه بخار بطائح وآجام وخنادق وأرضين
نزه ومباقل، وخصوصًا ما يكون فيه مثل الكرنب والجرجير وأشجار خبيثة الجوهر مثل الجوز
والشوحط والتين وأرياح عفنة، ومع ذلك يكون بحيث لا يحتبس عنه الرياح الفاضلة... ولا
أيضًا محقونًا في جدران حديثة العهد بالصهاريج ونحوها لم تجف بعد تمام جفافها، ولا
عاصيًا على النفس كأنما يقبض على الحلق"[7].
ويقسم تلوث الهواء إلى نوعين: "والهواء
يعرض له تغيرات طبيعية، وتغيرات غير طبيعية أو تغيّرات خارجة عن المجرى الطبيعي مضادة
له. والتغيرات الطبيعية هي التغيرات الفصلية، فإنه يستحيل عند كل فصل إلى مزاج آخر"[8]،
"وأمَّا التغيرات الخارجة عن الطبيعة فإمَّا لاستحالة في جوهر الهواء وإما لاستحالة
في كيفياته؛ أما الذي في جوهره فهو أن يستحيل جوهره إلى الرداءة؛ لأن كيفية منه أفرطت
في الاشتداد أو النقص، وهذا هو الوباء وهو بعض تعفن يعرض في الهواء يشبه تعفن الماء
المستنقع الآجن... ونعني بالهواء الجسم المبثوث في الجو وهو جسم ممتزج من الهواء الحقيقي
ومن الأجزاء المائية البخارية ومن الأجزاء الأرضية المتصعدة في الدخان والغبار ومن
أجزاء نارية"[9].
4. وفي ذات عصر ابن سينا، ولكن في مصر، كان
رئيس أطباء مصر في عصره علي بن رضوان المصري –وهو رياضي وفيلسوف كذلك[10]- يكتب عن
أسباب الأمراض الوافدة فيجعل السبب: التلوث في الهواء والماء والغذاء، ويضيف إليها
العوامل النفسية. يقول: "ومعنى المرض الوافد أن يعم كثيرًا في بلد واحد وزمان
واحد، ومنه نوع يقال له: الموتان[11]، وهو الذي يكثر
معه المرض. وحدوث الأمراض الوافدة تكون عن أسباب كثيرة تجمع في الجملة في أربعة: تغير
كيفية الهواء، وكيفية الماء، وكيفية الأغذية، وكيفية الأحداث النفسانية"[12].
وهو يقسم تلوث الهواء إلى نوعين، كما فعل
ابن سينا، يقول: "الهواء تتغير كيفيته على ضربين، أحدهما تغيره الذي جرت به العادة،
وهذا لا يُحدث مرضًا وافدًا ولست أسمِّيه تغيرًا ممرضًا، والثاني تغيره الخارج عن مجرى
العادة، وهذا هو الذي يحدث المرض الوافد، وكذلك الحال في الباقية[13] فإنها إمَّا أن
تتغير على العادة فلا يحدث مرضًا، وإمَّا أن يكون تغيرها تغيرًا خارجًا عن العادة فيحدث
المرض الوافد، وخروج تغير الهواء عن عادته يكون إمَّا أن يسخن أكثر أو يبرد أكثر أو
يرطب أو يجف أو يخالطه حال عفنية، والحال العفنية إما أن تكون قريبة وإما بعيدة...
وقد يتغير أيضًا مزاج الهواء عن العادة بأن يصل وفد كثير قد انهك أبدانهم طول السفر
وساءت أخلاطهم، فتخالط الهواء منها شيء كثير، ويقع الوباء في الناس ويظهر المرض الوافد"[14].
5. وقد وصف حجة الإسلام أبي حامد الغزالي –في
النصف الثاني من القرن الخامس الهجري- مسار دخول الفيروسات إلى جسم الإنسان
وإضرارها به وحدوث العدوى، فذكر كيف يبقى الميكروب في الجسم زمنا دون أن يظهر أثر
المرض على الإنسان، وهي ما يعرف بفترة الحضانة، يقول: "الهواء لا يضر من حيث
ملاقاته ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق، فيَصِل إلى القلب والرئة فيؤثر في
الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي يقع
به لا يخلص غالبًا مما استحكم به"[15].
6. ومن الإنجازات كذلك ما نراه في بيتي شعر
في غاية الطرافة يعودان للطبيب العباسي هبة الله بن التلميذ –الذي عاش في القرن
السادس الهجري وخدم لدى الخليفة العباسي المستضيئ بنور الله- يتحدث فيهما عن خطورة
وقوع الذبابة على الجرح المفتوح، فيقول:
لا تــحقرن عدوًّا لان جـانبـه ... ولـو يكون
قليل البطش والجلـد
7. وقد تعرض المؤرخ الكبير ومؤسس علم
الاجتماع ابن خلدون لموضوع تأثير الهواء على صحة الإنسان، وذلك حين تعرض للفوارق
بين بيئات الحضريين والبدويين، وكيف تكثر الأمراض في البيئة الحضرية بينما تقل في
البيئة البدوية، يقول: "إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من
كثرة الفضلات، والأهوية منشطة للأرواح، ومقوية بنشاطها الأثر الحار الغريزي في الهضم،
ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار[17] إذ هم في الغالب
وادعون ساكنون، لا تأخذ منهم الرياضة شيئًا، ولا تؤثر فيهم أثرًا، فكان وقوع الأمراض
كثيرًا في المدن والأمصار، وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة"[18].
وأما أهل البدو "أهويتهم فقليلة بالعفن
لقلة الرطوبات والعفونات إن كانوا ظواعن[19]، ثم إن الرياضة
موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم،
فيحسن بذلك كله الهضم ويجود، ويفقد إدخال الطعام على الطعام فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد
من الأمراض فتقل حاجتهم إلى الطب، ولهذا لا يوجد الطبيب في البادية"[20].
وقد كانت لهذه المعارف العلمية تطبيقاتها
المتنوعة في عالم الإسلام من خلال المستشفيات والمدن والبيوت والحدائق وغيرها مما
فصَّلناه في مقالات أخرى[21]، وهي من الأبواب
التي تحتاج بحوثا طويلة ومعمقة لتكشف عن هذه الأوجه المطموسة من حضارتنا الإسلامية
المشرقة.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية - ديسمبر 2018
[11] الموتان: الأمراض إذا عمَّت كثيرا من الناس وكانت مهلكة سميت "موتان" بمعنى: الوباء أو الجائحة بالتعبير الطبي الحديث.
[12] ابن رضوان المصري: رسالة في الحيلة في دفع مضار الأبدان بأرض مصر، تحقيق: د. رمزية الأطرقجي، مركز إحياء التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، 1988، ص46.
[21] انظر: محمد إلهامي، مراعاة البيئة في
بناء المدينة في الحضارة الإسلامية http://islamonline.net/18823؛
http://islamonline.net/18942 ؛ محمد إلهامي، مواقع المستشفيات في الحضارة الإسلامية، http://www.albayan.co.uk/mobile/MGZarticle2.aspx?ID=5195 ؛ محمد إلهامي، الحدائق الإسلامية، مجلة الوعي الإسلامي، شعبان 1435هـ = مايو2014م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق