الأحد، مايو 06، 2018

أوضاع مصر قبل وبعد الحداثة: أضواء من مصادر جديدة (1)


بالرغم مما تعانيه الحداثة من نقد شديد في البيئة الفكرية الغربية، إلا أن بيئتنا العربية والإسلامية تتعامل معها عموما كأنها من الثوابت الكونية ومن الغايات العظيمة التي انتهى إليها التطور الإنساني، وأعني بالحداثة نمط وجود الدولة ذات المؤسسات المتعددة المتدخلة في تفاصيل الناس من لحظة الميلاد وحتى لحظة الوفاة، فليس ثمة نشاط إنساني إلا وهو ممكن بقدر ما تصرح به الدولة.

لا يزال هذا النمط جذابا في عالمنا العربي كما كان جذابا قبل قرنين، وقليلون هم من يفكرون في تجاوزه، ورغم الولع بمتابعة نشاط الفكر الغربي في وجوه كثيرة فإن هذا الولع يتوقف ويخمد في المتابعة الجادة لنقد نمط الحداثة، ومحاولة التحرر من هيمنة الدولة التي صارت "إلها" يتحكم في الأمور الصغيرة والكبيرة، ويقدم لمواطنيه أفكارهم ونظامهم وحتى أنماط رفاهيتهم وسلوكهم الاستهلاكي والإنتاجي وغيره. وهي الصورة التي يبدو معها الفراعنة والقياصرة والأكاسرة القدماء كمستبدين بائسين، إذ لم يكن يستطيع أحدهم –مثلا- أن يلغي الوجود الحقيقي للإنسان من رعيته، وهو الأمر الذي تستطيعه السلطة المعاصرة بمجرد سحب الجنسية!

في هذه السلسلة نلقي الضوء على رحلة الحداثة في مصر، وكيف كان أثرها ووقعها على المجتمع، ولكن من خلال مصدر تاريخي جديد، وهو المدونات التي كتبها غربيون وصلوا إلى البيت الحرام وسجلوا مذكراتهم عن هذه الرحلة.

رحلات الحج كمصدر تاريخي

تركت الرحلة إلى الحج ثروة تاريخية لا تقدر بثمن، وذلك من بركات هذه الشعيرة المباركة وثمراتها الغزيرة.

لقد ألقى الله محبة بيته الحرام في القلوب، فاشتعلت إليه شوقا، فسارت الجموع منذ لحظة نداء إبراهيم عليه السلام إليه رجالا وعلى كل ضامر، وصنعت رحلة الحج أوضاعا تاريخية وجغرافية أوسع من الحصر، وكتب المسلمون مؤلفات واسعة في رحلتهم إلى بيت الله الحرام، فحفظوا لنا تاريخا عزيزا وثروة ما كان بالإمكان التحصل عليها بغير هذا السبيل.

لم تكن أنظار المسلمين فقط، بل سار إلى البيت الحرام عدد من غير المسلمين يريدون استكشاف أمره واكتناه سره، فلقد أحيطت مكة والكعبة بالكثير من الأساطير كونها المكان الذي انبعث منه الإسلام ووُلِد فيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، لقد كان القساوسة الأوروبيون في العصور الوسطى يعتقدون أن المسلمين يحجون إلى مكة ليَرَوْا نبيهم في الهواء في وسط حلقة حديدية موضوعة في نقطة اتزان وسط قبة حجر مغناطيسي فيحسب المسلمون أن نبيهم معلق في الهواء وأنها من معجزاته[1]، وفي عصور الاستعمار بعيْد انطلاق ما يسمى بعصر الكشوف الجغرافية والرحلات كان بديهيا أن تتطلع أنظار الرحالة الغربيين إلى المدينة الأقدس لدى المسلمين وإلى الرحلة الفريدة التي تجمع شتاتهم مرة في كل عام[2].

نبحث في هذه السلسلة الجديدة في رحلتين من رحالات غير المسلمين إلى الحج، لتستكشف منهما صفحة من التاريخ الاجتماعي للمصريين، باعتبار المجتمع المصري واحدا من أهم المجتمعات المحلية التي كانت مركزا من مراكز عبور الحجيج إلى مكة، ففيه تجلت العديد من الصور: السياسية والاقتصادية والثقافية لما لمصر من موقع جغرافي وثقل علمي ووفرة مالية وقوة بشرية، وبهذا صارت مصر مركزا شرقيا لم يفقد أهميته –في أمر الحج ورعاية الحجيج والحرمين- منذ دخله الإسلام وإلى وقت قريب بعد اختراع الطائرات وظهور النفط في الجزيرة العربية، ففي مصر رُبِط الشرق الإسلامي بغربه علميا وثقافيا، وكان اقتصاد الحرمين لزمان طويل فرعا من الاقتصاد المصري، وكانت الهيمنة السياسية على الحرمين لزمن طويل هيمنة مصرية. كذلك قصدت الورقة أن تفهم المجتمع المصري وترصد تطوره من خلال رحالتيْن غربييْن وذلك لقلة ما تعرض الباحثون لهذا الأمر مقارنة بتعرضهم له في مؤلفات الرحلة العربية.

وقد وقع الاختيار على رحلتي جوزيف بتس وريتشارد بيرتون لأسباب أهمها: أنهما من أهم الرحلات الأوروبية للبيت الحرام؛ فرحلة بتس من أوائل تلك الرحلات ورحلة بيرتون من أوسعها وأكثرها تفصيلا، ويفصل بينهما قرنان من الزمان تغير فيهما الكثير وبالذات في مصر التي دخلت في طور الدولة الحديثة واندمجت بالنموذج الغربي، فقد كان رحلة بتس في عصر المماليك تحت السيادة العثمانية، بينما كانت رحلة بيرتون في أعقاب وفاة محمد علي باشا الذي أسس حكما مستقلا في مصر وأنشأ دولة على النمط الغربي في المؤسسات والإدارة، ومن ثم ظهرت فروق واضحة بين العصرين تُمَكِّن من رصد تطورات فارقة.

الرِّحْلتان والرحَّالتان

كان جوزيف بيتس (1663 – 1735) بحارًا إنجليزيًا، وقع في أسر الجزائريين عند السواحل الإسبانية، وكان حينئذ في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره، وظل عبدا في الجزائر سنينا ثم رافق سيده في رحلة الحج (1091هـ = 1680م)، وهي أول رحلة تصف طريق الحج المصري في الشمال الإفريقي.

سلك بتس طريق البحر من الجزائر إلى الإسكندرية، ثم منها بحرا إلى رشيد، ثم نزل في النيل إلى بولاق، ثم برا إلى السويس ثم بحرا إلى الطور ثم إلى رابغ ومنها إلى جدة ثم إلى مكة، ثم إلى المدينة، ثم قفل راجعا إلى القاهرة ثم الإسكندرية ثم الجزائر.

أما ريتشارد بيرتون (1821 – 1890م) فواحد من أهم الرحالة الأوروبيين، إذ نشر رحلاته في ثلاثة وأربعين مجلدا، وهو مكتشف بحيرة تنجانيقا، وترجم ثلاثين كتابا من العربية والفارسية إلى الإنجليزية، وكان يتقن خمسا وعشرين لغة وأربعين لهجة، وطاف شرقا وغربا فزار باكستان والهند ومصر والحجاز وشرق إفريقيا وغربها والولايات المتحدة. ورحلته ثرية تدل على غزارة معارفه واتساع رحلاته.

وكانت رحلته إلى الحج كالآتي: ركب السفينة من ساوثمبتون البريطانية مبحرا إلى الإسكندرية، ثم عاش بها فترة، ثم سافر إلى القاهرة، ومنها برا إلى السويس، ثم إلى البحر الأحمر ونزل بالطور ثم إلى ينبع إلى المدينة المنورة، فكان حجه في عام (1269هـ = 1853م).

جاءت رحلة بتس مختصرة وسريعة وطُبِعت في أقل من مائة صفحة وتكاد كل فقرة منها تمثل موضوعا إذ يندر أن يشغل الموضوع أكثر من فقرة، بينما بلغت رحلة بيرتون ثلاثة أجزاء، استغرق الأول سفره من بريطانيا وحياته بمصر حتى المدينة المنورة. ولهذا حفلت رحلة الثاني بتفاصيل مطولة وقضايا كثيرة لم يتطرق إليها الأول أو تطرق إليها في فقرة واحدة لا أكثر.

في المقال القادم إن شاء الله تعالى نرى الفوارق بين الرحلتين، وكيف رصد كل منهما واقع المجتمع المصري لنرى كيف تطورت الأوضاع في مصر بين هذين القرنيْن.



[1] أفوقاي الأندلسي، رحلة أفوقاي الأندلسي، تحرير: د. محمد رزوق، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004م)، ص80.
[2] انظر في هذا الموضوع، محمد إلهامي، كيف نظر المستشرقون والغربيون إلى الحج، عربي 21، بتاريخ 8 سبتمبر 2016.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق