مقدمة
بعد أكثر من مائة وخمسين عاما من إنشاء قناة السويس يبدو
مستغربا الحديث عنها باعتبارها مشكلة سياسية جغرافية استراتيجية اقتصادية أيضا،
ولا يعرف الكثيرون أن التفكير في إنشاء قناة السويس تزامن مع التفكير في إنشاء
دولة إسرائيل في الوقت المعاصر، رغم أن جذور الفكرتين تمتد لآلاف السنين، وفي تلك
السنين رفضت جميع القوى المسيطرة على مصر والشام حفر القناة الواصلة بين البحرين
كما رفضت تحقيق الحلم اليهودي.
يبدو الربط بين القضيتين غريبا للوهلة الأولى، لكن
الواقع أن قناة السويس مثلت إسنادا في غاية الأهمية للدولة الإسرائيلية العازلة،
ويعزو بعض السياسيين والمؤرخين أن إسرائيل نفسها كانت إسنادا لقناة السويس كما في
القول الشهير المنسوب لكامبل بضرورة وجود دولة عازلة قرب قناة السويس لحماية
المصالح الغربية، وأيا ما كان الأمر فالواقع أن كلا القضيتين دعم وجود الأخرى،
فإسرائيل لم يكن لها أن تستطيع احتلال سيناء لولا وجود المانع المائي الذي وفر لها
حماية جغرافية وخطا أمنيا متقدما منع تدفق المقاومة المصرية الشعبية إلى سيناء، وأعاق
عبور الجيش المصري حتى صار الإنجاز العسكري في أكتوبر هو "عبور القناة".
ومنذ وقعت معاهدة السلام حرصت إسرائيل والسلطة المصرية
على مضاعفة العازل المائي وتوسيعه وزيادة تفريعاته وهو ما يستحيل معه تحقيق عبور
ثان، فضلا عن التفريغ السكاني المستمر لسيناء والحفاظ عليها كمنطقة عازلة خالية من
السكان والقوات العسكرية، وهو ما يعطي إسرائيل عمقا استراتيجيا واسعا كما يعطيها
مساحة فارغة ألهمت الكثير من المخططين أن تكون هي الحل لتفريغ فلسطين.
ولا تزال قناة السويس تمثل أساسا جغرافيا وخطا
استراتيجيا وعمقا أمنيا للكيان الإسرائيلي، وهو جزء حساس من عقيدته الأمنية
العسكرية. كما تمثل معضلة أمنية وسياسية كبرى أمام أي حكومة وطنية مصرية.
التشابه والارتباط بين قضيتي: إسرائيل وقناة السويس
ثمة
ثلاثة تشابهات وارتباطات كبرى بين قضيتي إسرائيل وقناة السويس؛ أولها:
العمق التاريخي، فكلاهما مشروعان ضاربان في عمق التاريخ، فحلم الربط المباشر بين
البحر الأحمر والأبيض يعود لعصر الفراعنة، وحلم إعادة إنشاء إسرائيل يمتد لثلاثة
آلاف سنة! وثانيها: الإرادة الاستعمارية الأجنبية التي عملت على إنشاء
كليهما، فعندما استطاع الغرب احتلال الشرق على يد نابليون ظهر المشروعان معا،
فنداء نابليون لإنشاء إسرائيل[1]
رافقته دراسة هندسية لحفر القناة بين البحرين. وثالثها: أن كلا المشروعين
نُفِّذا بالعقل والإرادة الأجنبية المهيمنة وبيد السلطات والحكومات المحلية
التابعة للمحتل والتي سخرت لكلا المشروعين الموارد المالية والبشرية للشعوب
العربية الإسلامية، ولولا هذه الثنائية ما كان ممكنا قيام واحد منهما.
وباعتبار
أن قصة إسرائيل معروفة ومشتهرة، وكذلك باعتبار أن قناة السويس هو موضوع الورقة
الرئيسي، فإننا سنركز في معالجة تلك العناصر الثلاثة على مشروع قناة السويس.
1.
العمق التاريخي
كانت فكرة ربط البحرين الأبيض والأحمر
قديمة، إلا أنه لم يوافق عليها أحد ممن حكموا مصر طوال تاريخها، بينما كانت الفكرة
البديلة المعتمدة منذ عصر الفراعنة هي ربطهما عبر النيل، بقناة تمتد من البحر
الأحمر إلى النيل الذي يصب في البحر
المتوسط. وقد تكرر طمر تلك القناة وتجديدها في عصور الفراعنة والبطالمة وبعيْد
الفتح الإسلامي جدد عمرو بن العاص تلك القناة وسمَّاها "خليج أمير
المؤمنين"[2].
وفي عصر هارون الرشيد، في ذروة التاريخ
الإسلامي طُرحت فكرة الربط المباشر بين البحرين، إلا أن وزيره ومستشاره يحيى بن
خالد البرمكي حذَّره من خطورتها، حيث ستسمح تلك القناة بدخول أسطول الروم من البحر
الأبيض إلى البحر الأحمر، فتهدد الحجاز والحرمين، فأحجم عنها الرشيد[3].
وتكشف هذه النصيحة بوضوح الفارق بين إنشاء
قناة تربط بين البحرين مباشرة، وإنشاء قناة تربط بينهما عبر النيل، ذلك أن أي غزو
عسكري يحاول الوصول إلى الحجاز سيكون مضطرا إلى العبور في الدلتا من أحد فروع
النيل حيث الكتلة البشرية الضخمة ذات القدرة الكبيرة على المقاومة، فضلا عن تعدد التضاريس
والمسالك، بينما الربط المباشر بين البحرين يمرّ من منطقة صحراوية مفتوحة قليلة
السكان ضعيفة المقاومة. كما يكشف هذا النص أن الدولة الإسلامية في عصر تفوقها
الدولي الكاسح امتنعت عن تنفيذ الفكرة لشعورها بالتهديد الاستراتيجي البعيد المدى.
وفي زمن الدولة العثمانية، وهي أعظم فترة سيطرة
إسلامية على البحر المتوسط، في عهود: سليم الأول وسليمان القانوني وسليم الثاني،
برزت فكرة شق قناة السويس لتسهيل عبور الأسطول العثماني إلى البحر الأحمر للقيام
بواجب الجهاد في الخليج العربي وخليج عدن والمحيط الهندي ضد البرتغاليين والإسبان،
وثمة وثيقة عثمانية يطلب فيها سليم الثاني (930 - 982هـ/1524-1574 م) دراسة وافية
عن تكاليف المشروع وفوائده، إلا أن الفكرة لم تنفذ[4]، مما يحملنا
على الشكّ بأن السبب هو نفسه ذلك التفكير الاستراتيجي، لأن البحريْن المتوسط
الأحمر حينها كادا أن يكونا بحيرتان إسلاميتان تماما!
وقد حاول الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، في
النصف الثاني للقرن السادس عشر، ثلاث مرات مع السلاطين العثمانيين لحفر قناة
السويس، إلا أنه أخفق فيها جميعا، رغم أنه كان معتمدا في مطلبه على فكرة مهندس
تركي، أي أن الفكرة كانت معروضة في أروقة العثمانيين ولم ينفذوها ولا استجابوا
لإلحاح حلفائهم في تلك الفترة بتنفيذها[5].
هذا الرفض المطرد تاريخيا قرين الرفض الدائم
للمحاولات اليهودية المستمرة إنشاء كيان في فلسطين.
2.
الإرادة الاستعمارية
بدأت أول محاولة تنفيذ جادة مع أول تمكن
أجنبي من احتلال مصر إبان الحملة الفرنسية، فقد سعى نابليون لتنفيذ المشروع إلا أن
مهندسي الحملة الفرنسية قدَّروا أن البحر الأحمر مرتفع عن مستوى البحر المتوسط مما
يعني أن شق القناة قد يؤدي لغرق مصر، فتوقف المشروع. إلا أن مهندسين فرنسيين آخرين
ممن ملأوا مصر في عصر محمد علي أعادوا الدراسة وتوصلوا إلى أن البحريْن مستويان
وأنه يمكن إنشاء القناة، لكن محمد علي رفض الفكرة متعللا بالرفض البريطاني القاطع[6]، وقد كان يعلم أن حفر تلك القناة يعني
"بسفورا ثانيا يجعل مصر واستقلالها عرضة للخطر"[7]
ويزيد من المطامع الاستعمارية فيها، لا سيما وقد صار الأجانب ملوك البحار، وتلك
الفترة هي نفسها التي بدأ فيها العمل لتأسيس دولة يهودية في القدس[8].
ثم بلغ اليأس الفرنسي من تنفيذ المشروع غايته في عهد عباس الأول الذي كان
يكره الفرنسيين، ورفض تماما شق قناة السويس، وأنفذ مشروعا بديلا يحفظ المصالح
المصرية ويُرضي البريطانيين، وهو تمهيد الطريق بين القاهرة والسويس وإنشاء خط سكة
حديد الإسكندرية القاهرة، وهو ما يسهل نقل البضائع والبريد والسياحة البريطانية
إلى الهند، ويحفظ لمصر الاستفادة من الحركة التجارية العابرة فوق أراضيها. إلا أن
عباسا اغتيل ولم يكمل السنوات الثلاث في منصبه، وجاء سعيد باشا عاشق فرنسا
والفرنسيين وربيب الرجل الخطير المشهور: فريدناند دي ليسبس[9]!
كان فريدناند دي ليسبس ابنا لماتييه ديليسبس القنصل
الفرنسي الذي مهد لمحمد علي حكم مصر، وبعد سبع وعشرين سنة من ولاية محمد علي جاء
فريدناند كنائب للقنصل الفرنسي في الإسكندرية فاستقبله محمد علي بحفاوة بالغة
وأولاه رعاية سابغة وعهد إليه بتربية ابنه الصغير سعيد! ومن هنا نشأت علاقة متينة
بينهما أثمرت فيما بعد أن يتولى عرش مصر أول حاكم غربي الروح والهوى والمزاج، فكانت
لهذا آثار بعيدة على العالم الإسلامي كله[10].
3.
التنفيذ الأجنبي عبر الحكومات التابعة
أثمرت العلاقة بين دي ليسبس وسعيد عن واحدة
من أبشع قصص التاريخ: قصة قناة السويس، لقد استطاع الثعلب الفرنسي إقناع ربيبه
الغر بالإقدام على ما رفضه كل من حكموا مصر من قبله، ومن فرط ثقة سعيد به تركه
يكتب بنفسه عقد الامتياز الممنوح له لحفر القناة، فكتب عقدا مدهشا وفريدا في تاريخ
التعاقدات استلب به موارد مصر من الأرض والأموال والرجال مقابل ثمن ضئيل مؤجل، بل
الواقع أنه عقد إنشاء دولة (شركة قناة السويس) داخل دولة (مصر)[11]، وقد وقعه
سعيد دون أن ينظر فيه!! ثم إن دي ليسبس فشل في جمع رأس المال اللازم فأكمله سعيد
بالأموال المصرية (ويبلغ النصف تقريبا)، ثم استرضى الإنجليز –المعارضين للمشروع-
بمنحهم امتيازات كبرى في مصر سياسية واقتصادية، ثم مات بعد عشر سنوات من توليه
العرش دون أن يرى مشروعه النور، وقيل أنه مات من الهم والغيظ والكمد بعدما صار
يشهد بعض نتائج اتفاقه هذا[12].
وهكذا كان أول حاكم رباه الغرب هو أول حاكم
يوافق على حفر تلك القناة.
حاول خلفه إسماعيل باشا، وهو أيضا فرنسي
الروح والهوى والمزاج[13]، أن يعدل من
شروط العقد فإذا به يلقى معارضة غاية في العنف والشراسة، لا من دي ليسبس وحده، بل
من فرنسا نفسها التي شنت عليه حملة إعلامية، ثم حَكَم نابليون الثالث بحكم لا يكاد
يوجد له مثيل في باب استنزاف الموارد المالية، خلاصته أن مصر دفعت ثمن القناة
مرتين كتعويض للشركة عن موارد لم تخسرها ولم تنشئها وعن عمال لم تعد في حاجة إليهم،
فضلا عما دفعته من الدماء والخسائر في الموارد والبشر وما دفعته من الاستقلال
والسيادة منذ تلك اللحظة حتى الآن[14].
كان يستحيل إنشاء قناة السويس دون مجهود
السلطات المحلية وتسخيرها الموارد البشرية والمالية لحساب المشروع، وهو الأمر نفسه
في حال إسرائيل التي كان يستحيل تأسيسها بدون مجهود السلطات في الدول المحيطة،
والتي كانت جيوشها وسياستها تمهد لإسرائيل وتوفر لها أسباب الانتصار والاستمرار،
وتكبح محاولات المقاومة.
آثار حفر قناة السويس على المنطقة قبل إنشاء إسرائيل
تحقق
ما خشي منه كافة من رفضوا حفر القناة في العصور السالفة، وانفتحت المياه العربية
الإسلامية للسفن والأساطيل الاجنبية دون توفر أدنى قدرة على مواجهة تهديداتها، واتصلت
مستعمرات الغرب في الشرق والغرب عبر طريق أقصر من رأس الرجاء الصالح فاشتد ساعد
الاستعمار بارتباط شبكة مواصلاته لا على المنطقة الإسلامية وحدها بل على سائر
الشرق الأدنى والأقصى، وازدادت الأطماع الاستعمارية في المنطقة فوق ما كانت لأنها
تحولت إلى مغنم ضخم وطريق مفتوح إلى مغانم أخرى.
لكن
أخطر وأبرز ما عزَّزَتْه ورَسَّخَتْ له فكرةُ القناة في العقل الاستعماري هو ضرورة
الحفاظ عليها بإنشاء دولة تابعة لهم على مقربة منها، كقاعدة عسكرية واستعمارية
متقدمة، فقد تحدث بالمرستون في منتصف القرن التاسع عشر عن ضرورة هجرة اليهود إلى
فلسطين "بقصد إيجاد حاجز بشري استعماري للحيلولة دون قيام دولة موحدة تجمع
مصر والمشرق العربي"[15].
وهكذا
كانت القناة بحد ذاتها وسيلة استعمارية، ثم كانت الدولة العازلة وسيلة أخرى ودعما
وحماية للوسيلة الاستعمارية الأولى، وهما نقطتان نلقي الضوء عليهما في هذا المبحث:
قناة
السويس كمركز للشبكة الاستعمارية
تطور
علم الجغرافيا حتى استطاع رسم خريطة دقيقة للقارات وسواحلها والطرق البحرية، وكانت
القوتان العُظْمَيان في القرن الثامن عشر هما بريطانيا وفرنسا، وبقدر ما تكون
القوة البحرية لدولة أوروبية تكون قدرتها على احتلال مناطق بعيدة وجمع ثروات أكبر.
وإذا نُظِر للخريطة من وجهة نظر بحرية ستكون بريطانيا أفضل في الموقع الجيوسياسي
من فرنسا بقربها من السواحل الأمريكية ومن طريق رأس الرجاء الصالح.
وفي
ظل التنافس الاستعماري كان طبيعيا أن تنبثق فكرة قناة السويس ومشروعها في العقل
الفرنسي الذي يبحث بكل وسيلة عن تحسين موقعه الجيوسياسي، إن "مصر تهيمن على
الطرق البرية إلى بلاد العرب والهند، وقد لقي مشروع شق قناة من السويس إلى البحر
المتوسط من اهتمام لويس الرابع عشر ما حمله على أن يقترحه على الباب العالي في
ثلاث مناسبات دون الوصول إلى نتيجة في واحدة منها"[16]، وبعد
قيام الثورة الفرنسية انطلق نابليون ذو الطموح الاستعماري ليعمل على تنفيذ المشروع
قسرا إبان الحملة الفرنسية، وهو ما تحركت بريطانيا ضده حتى أفشلت الحملة كلها،
وسكن الأمر إلى حين.
وقبل
حفر قناة السويس كان الرحالة الإنجليزي الشهير ريتشارد بيرتون في مصر، وسجل في
رحلته –الغامضة الأهداف- جملة استعمارية واضحة: "فلو وقعت مصر في أيدي الغرب سهلت السيطرة على الهند، ومَكَّنت من فتح إفريقيا
الشرقية كلها بشق قناة للسفن تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر عند السويس"[17].
بهذا صارت فكرة قناة السويس فكرة استعمارية مركزية، حيث
باتت قناة السويس مركزا للشبكة الاستعمارية الممتدة حول العالم، تصل بين
الاستعماريين في الغرب والشعوب المستعمرة في الشرق، ومن سيسطر عليها سيضاعف من
قوته ونفوذه وفارق قوته عن المنافسين.
يقول المؤرخ البريطاني جورج يانج: "من
الوجهة السياسية فربما كان يكون خيرا لمصر لو أن سعيدا أنفق تلك الأموال كلها في
زخرفة حجرة الاستقبال. لأن امتياز قناة السويس قد ترتب عليه أن مصالح بريطانيا في
مصر بعد أن كانت مجرد إحساس معنوي غامض بما يُحتمل أن يكون لمصر من الأهمية في نظر
سياسة الإمبراطورية البريطانية، قد تحولت إلى اعتبارات مادية جدا لها ارتباط
بالمسائل العسكرية والتجارية مما يؤثر أكبر تأثير في قوة بريطانيا البحرية وسيادة
إنجلترا في الهند. ثم إن بريطانيا كانت إلى هذه اللحظة قانعة بمنع الفرنسيين من أن
تكون لهم السيطرة على القاهرة كما منعت من قبل سيطرة الروس على الآستانة. ولكن
مصلحتها الحيوية صارت من الآن فصاعدا تتطلب انفرادها بالسيطرة على القاهرة دون
سائر الدول الأخرى"[18]،
وحين وقع الاحتلال الإنجليزي كانت القناة أعقد مسألة تمنع استقلال مصر أو خروج
بريطانيا مهما بُذِل لها من ضمانات مصرية بحرية الملاحة في القناة، وجورج يانج حتى
وإن أظهر تعاطفه مع المصريين إلا أنه يؤيد بقاء الإنجليز إلى جوار القناة لأنها
مركز الشبكة الدولية، يقول: "غير خافٍ أن ما للقناة من الأهمية العظمى في سير
العلاقات الدولية كان ولا يزال يعتبر إحدى الصعوبتين الرئيسيتين اللتين تحولان دون
حصول مصر على سيادتها التامة. أما الصعوبة الثانية فهي طبعا ما للمصريين من مصالح
إمبراطورية في السودان. فالقناة إذن أهم عامل في سبيل وضع مصر تحت الإدارة
البريطانية مدة ربع قرن كامل. لذلك نرى من حق الإنجليز أن يعلنوا على رؤوس الأشهاد
أنهم لم يلزموا مصر بحفرها"[19].
وهكذا
بات على المنطقة عموما، وعلى مصر خصوصا، أن تدفع الثمن الاستعماري كاملا!
أخطار
وأضرار قناة السويس على مصر
يرى
عبد الرحمن الرافعي أن حفر القناة نكبة استعمارية على مصر تساوي في ضررها الحملة
الفرنسية، ويقرر "مصر لم تستفد شيئا من فتح
قناة السويس، بل كانت القناة شؤما عليها"، وأن مصر بعد حفر القناة صارت
"ضحية قناة السويس، تلك حقيقة واقعة"، وأنها
"أكبر غلطة" في تاريخ سعيد باشا قصير النظر المخدوع الذي توهم أنه سيدخل
التاريخ بهذه الخدمة للإنسانية بينما الحقيقة الواقعة أن الأمم لا تضحي باستقلالها
ومصالحها في سبيل "وهم" خدمة الإنسانية، الذي هو على الحقيقة خدمة للدول
الاستعمارية فحسب[20].
لقد تحملت مصر تكاليف إنشاء القناة، بشريا
واقتصاديا وعسكريا وسياسيا:
1. فأما بشريا: فقد ساهم في حفر
القناة مليون مصري سيقوا بالسخرة إلى الحفر في ظروف مأساوية مات منهم مائة وعشرون
ألفا من الجوع والعطش والمرض وسوء المعاملة في قصة مريرة ليس هنا محل بيانها.
2. وأما اقتصاديا فقد "كان حفر
قناة السويس ضربة قاضية لتجارة الترنزيت في القاهرة"[21]، إذ "كانت
لها تجارة برية واسعة فقدتها كلية، وتمر السفن محملة ببضائع وفيرة خلال القناة
التي تشق الصحراء شرق أراضيها الزراعية، ولكنها لا تعود على مصر بالفائدة كما كانت
تمر خلال البحر الأبيض المتوسط"[22]، لقد تحول طريق
التجارة بين أوروبا والشرق "من داخل مصر إلى القناة المائية التي أصبحت ملكا
لشركة أوروبية. فخسرت مصر الأرباح التي كانت تعود عليها من مرور المتاجر في وسط
الدلتا بطريق النيل أو السكك الحديدية المصرية. وانتقلت هذه الأرباح إلى شركة
القناة (الأجنبية)"[23]، وهذا هو
الأثر الاقتصادي بعيد المدى، أما مجمل ما تكلفته مصر بأثر الخداع والتعويضات فيبلغ
16 مليون جنيها من 17.3 مليون جنيه هو مجمل تكلفة القناة! بخلاف عشرات آلاف العمال
الذين ماتوا جوعا وعطشا[24].
3. وأما عسكريا فمنذ اللحظة الأولى
ولتوفير أعداد للحفر قضى الخديوي سعيد على الجيش فأنقص عدده من ستين ألفا إلى
ثمانية أو عشرة آلاف، وكانت القناة حاضرة في كل كارثة حربية نزلت بمصر، فهي السبب
الأهم في هزيمة عرابي واحتلال الإنجليز لمصر (1882م) الذي كاد يردم القناة لمنع
نزول القوات الإنجليزية القادمة من البحر الأحمر لولا أنه خُدِع بتأكيد دي ليسبس
أن القناة ممر محايد محمي بالقانون الدولي يُحْظَر استخدامه في الأمور الحربية[25]، وعلى يد تلك
القوات هُزِم عرابي واستمر احتلال مصر لسبعين سنة فاصلة على كل المستويات، يقول
الرافعي كلمة مريرة كتبها (1932م) "لئن عادت القناة يوما إلى مصر فلا يمكن أن
ننسى أن مصر خسرت فيها ثمنا باهظا وتضحيات جسيمة... ثم حرمت ما هو أعز من المال،
وهو الاستقلال، وعندما تسترد مصر استقلالها تاما فستكون قد حُرِمَتْ استقلالها
بسبب القناة ردحا طويلا من الزمن"[26]، واستمرت
الخسائر العسكرية بعد الجلاء الإنجليزي (1956م) بدخول إسرائيل على الخط، وهو ما
نتناوله في المبحث القادم.
4. وأما سياسيا فمنذ حُفِرَت القناة
صار يُنظر إلى المسألة المصرية كأنها "هي مسألة قناة السويس، فكأنها اندمجت
فيها، وتبدلت أوضاعها تبعا لهذا الاندماج"[27]، وكانت
القناة عقبة رئيسية في كل مفاوضات جلاء، وفي آخر زمن الاحتلال تحول الإنجليز من
قلب القاهرة وتمركزت قواتهم عند القناة، ومنذ تلك اللحظة ومصر لم تزل فعليا تحت
النفوذ الأجنبي، إذ يُعامل مجرى القناة باعتباره ممرا دوليا تتكفل مصر بحمايته
وضمان حرية الملاحة فيه، مهما كانت حمولة السفن العابرة أو وجهتها، وهي لا تتكفل
بذلك بمعنى القيام به، بل بمعنى دفع تكاليف حمايته لشركات الحماية والأمن الأجنبية.
ولا
يزال نزيف الخسائر مستمرا على تلك المستويات الأربعة حتى لحظة كتابة هذه السطور،
بل ولا تبدو آفاق لنهاية ذلك النزيف.
قناة السويس كخط جيو سياسي – استراتيجي لإسرائيل
وجدت
إسرائيل عند قيامها وضعا أمنيا لم يتمتع به محتل نزل تلك المنطقة من قبل، لقد صنعت
قناة السويس حاجزا طبيعيا بين وادي النيل ذي الكثافة السكانية التي لطالما أمدت
الشام بالجيوش التي حررتها من الصليبين وتصدت للمغول، وبين سيناء القليلة السكان،
ثم إن قناة السويس نفسها تتمتع بحماية القوى العظمى بما يجعل منها مسألة دولية. ومنذ
نشأة إسرائيل وحتى الآن مثَّلت القناة دعما لا يقدر بثمن لإسرائيل وخسارة فادحة لا
توازيها خسارة بالنسبة لمصر والمنطقة.
وليس
من شك في أن السياسة المصرية منذ نشأة إسرائيل وحتى الآن كانت في سياق الدعم
للوجود الإسرائيلي، ومكافحة أية حركة مقاومة ضدها، إلا أننا في سياق بحثنا هنا لن
نتعرض للمشكلة السياسية بقدر ما يهمنا إلقاء الضوء على الوضع الجديد الذي مثلته
القناة جغرافيا وعسكريا. فحتى لو افترضنا وجود حكومات وطنية فستكون النتائج أفضل
بكثير لكن مع صعوبة واضحة يفرضها وقع القناة، تلك الصعوبات هي ما سنركز عليها
الحديث في هذا المبحث.
حرب
1956: قناة السويس كتهديد خلفي للقوات المصرية
لم
يكن عبد الناصر يفكر في حرب إسرائيل بشهادة صديقه وأمين أوراقه هيكل[28]،
وكان في أشد أوقات الهزيمة موافقا على صناعة سلام لا مجرد إنهاء حالة الحرب رغم أن
ما يعلنه على خلاف ذلك[29]. ولا
يهمنا الآن البحث في دوافع قراره غير المدروس بتأميم القناة، فالمهم أن قراره أثار
عدوانية الدول الثلاث: إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، فأما إسرائيل فقد كانت تريد أن
تنتزع حق الملاحة في خليج العقبة وتجهز لحربها قبل قرار التأميم، وأما بريطانيا
وفرنسا فقد كانتا تتطلعان للعودة إلى منطقة الشرق من بعد ما طُردا منها بيد
الأمريكان والروس باعتبارهما ورثة المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية.
تكشف
مباحثات الدول الثلاثة أن إسرائيل لم تكن تريد أن تبدأ الحرب خوفا من سلاح الجو
المصري المتفوق –وقتها- على سلاح الجو الإسرائيلي، ولم تكن بريطانيا وفرنسا تريدان
بدء الحرب تخوفا من الموقف الأمريكي الداعم لعبد الناصر والرافض لعودتهما إلى
المنطقة، فأرادتا أن تبدأ إسرائيل الحرب لتتوفر لهما الذريعة للتدخل، وانتهى الأمر
على أن تخوض إسرائيل المغامرة وتبدأ الحرب قبلهما معتمدة على أن الجيش المصري لن
يرد ولن يهاجم فتأتي قوات بريطانيا وفرنسا فتحطمان سلاح الجو المصري، وهو ما كان!
لا
ريب أن القرار السياسي والعسكري كان مثالا في السوء، لكن وضع قناة السويس ضاعف من
صعوبة الموقف، فهي قد وفرت للدولتين نزولا بحريا في بور سعيد ودخولا إلى القناة
فتكون جيوشهما تهديدا خلفيا وحصارا حربيا للقوات المصرية في سيناء والتي تواجه
الاجتياح الإسرائيلي، فصنعت القناة ممرا بحريا عازلا بين القوات في سيناء وما يمكن
أن يدخل إليها من خطوط الإمداد ثم تحول هذا العازل إلى خط مواجهة مواجهة خلفي.
خسرت
مصر سيناء والقناة معا في أيام، ولولا أن الموقف الدولي -والأمريكي بوجه خاص[30]-
كان حاسما في الاحتفاظ بمصر ضمن النفوذ الأمريكي وقطع الأمل في عودة الاستعمار
الإنجليزي والفرنسي لتجدد زمن الاحتلال مرة أخرى.
حرب
1967: قناة السويس كحدود متقدمة لإسرائيل
بعد أحد عشر عاما نفذت إسرائيل توسعها الجغرافي الأكبر، وكانت أول
قوة احتلال تستطيع أن تدخل من جهة الشمال الشرقي لمصر دون أن تتكلف المغامرة
بمواجهة القوة المصرية، فقد صنعت قناة السويس حاجزا جغرافيا يُمكنها من الاحتفاظ
بسيناء وإقامة خطوط دفاعية على طولها، كذلك إقامة ساتر ترابي يمنع محاولة عبورها، وصارت
المهمة الإسرائيلية في الاحتفاظ بحدودها حتى القناة تتمثل في المراقبة الجيدة
للقناة، وتفوق السلاح الجوي الذي يُمكنها من التعامل مع أي محاولة عبور لها.
لو أنه لم توجد قناة السويس لما خاطرت
إسرائيل باحتلال مصر؛ فإما أنها ستكون مجبرة على التوغل في عمق الأراضي المصرية، (وهذا
في وقته في حكم المستحيل عليها بشريا وماليا وعسكريا) وإما توقفت قبل الحدود
المصرية لئلا تجر مصر إلى الحرب، أو في أسوأ الأحوال توقفت عند منطقة المضايق في
سيناء التي توفر لها نوع حماية طبيعية ولكنها لا تُقارن على الإطلاق بالمزايا التي
وفرتها قناة السويس كمانع مائي سهل أتاح لها إنشاء ساتر ترابي وخط دفاعي على
حدوده، وهو ما لا يمكن حدوثه في منطقة المضايق.
وصارت القوات المصرية بدورها في وضع هو الأول من نوعه في التاريخ، إذ
لم تعد سيناء ممرا بريا واصلا بين آسيا وإفريقيا، بل تحولت بوجود قناة السويس إلى
شبه جزيرة تحيطها المياه من ثلاث جهات وممرها البري الوحيد تحت السيادة
الإسرائيلية الكاملة، وشريط القناة (أضعف جهاته البحرية) تحول إلى خط حربي متعدد
الموانع، وصفه السادات بقوله "أكبر عائق مائي في تاريخ الحروب لأن شواطئ
القناة مصنوعة من الحجر وهناك أيضا الساتر الترابي الذي يبلغ ارتفاعه 17
مترا"[31]، حتى إن موشي ديان بعد اطمئنانه لقوة
الموانع قال "لكي تستطيع مصر عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف فإنه يلزم
تدعيمها بسلاحي المهندسي الروسي والأمريكي معا"[32].
حرب
1973: قناة السويس كعائق منيع للقوات المصرية
كان
التفكير العسكري المصري منصبا وللمرة الأولى حول "كيفية عبور قناة
السويس"، والسبق إلى تحطيم أو السيطرة على الوسائل الدفاعية الإسرائيلية
الممتدة على طول القناة. فالعبور هو الجزء الأهم في كل المعركة، وهو مفتاح استرداد
سيناء.
هنا
يبدو واضحا كيف تحولت قناة السويس إلى مشكلة حربية عويصة، يسجل قائد حرب أكتوبر
سعد الدين الشاذلي في مذكراته "كانت قناة السويس –بما أضافه العدو إليها من
موانع صناعية كثيرة- تقف سدا منيعا آخر بين قواتنا وقوات العدو"[33]، و"تعتبر
عملية اقتحام مانع مائي مثل قناة السويس ضد عدو يتمركز في نقط قوية محصنة تحصينا
جيدا على الجانب الآخر من أصعب العمليات الحربية وأكثرها تعقيدا"[34].
وهي
مشكلة لم يواجهها جيش مصري من قبل، لقد قام عائق حربي في قلب الأرض المصرية يمنعها
من تحريك الجيوش، بل وتتحصن خلفه القوات المعادية.
ومن
هنا كان الإنجاز العسكري المصري في حرب أكتوبر هو "عبور القناة"، أو ما
يسميه صحافي السلطة الأشهر محمد حسنين هيكل "اجتياز حائط الخوف" المتمثل
في "عبور قناة السويس وفي اقتحام خط بارليف: القناة نفسها حاجز مائي من أصعب
الحواجز، وخط بارليف على حافتها سلاسل متصلة من المواقع الحصينة"[35].
ولو
تصورنا عدم وجود القناة لكان المجهود العسكري والموارد الهائلة التي هلكت في تحقيق
هذا الإنجاز قد أنفق في معركة حقيقية.
لقد
كانت كل الخطة العسكرية هي تغيير خط المواجهة من خط القناة إلى خط آخر، والفكرة
الأساسية التي اعتمد عليها سعد الدين الشاذلي هي أن إسرائيل بطبيعتها لا تتحمل حربا
طويلة، فمجرد تغيير خط المواجهة إلى شرق القناة سيجعلها غير قادرة على الحياة في
سيناء، ولا على تحمل حرب طويلة لارتفاع نسبة التعبئة من بين صفوفها، فالحرب
الطويلة "ترهق اقتصادها القومي وتصيب خدماتها وجميع نشاطاتها الأخرى بالشلل
الكامل"[36]،
وهذا الجزء من الخطة تحقق بنجاح وهو ما غير الوضع في طبيعة سيناء.
اتفاقية
السلام: قناة السويس كخط "سلام" فاصل
لكن
السياسة التي يديرها العسكر لم تكن وفية للدماء، وإنما ساقت المشهد في إطار تحقيق
السلام، وما يهمنا في الحديث هنا هو وضع قناة السويس التي كسبت إسرائيل حق الملاحة
فيها، وهو الهدف القصير السهل، أما الأثر الاستراتيجي الطويل فهو الاتفاق على بقاء
سيناء معزولة خالية من القوات العسكرية ومن المشاريع العمرانية، كمنطقة عازلة
لضمان أمن إسرائيل. ومن ثمَّ عانى سكان سيناء من الإقصاء
والتهميش والظلم لنحو نصف قرن (منذ 1967). ولو لم توجد هذه القناة لما كان ممكنا
بقاء سيناء بهذه العزلة والانفصال عن الجسد المصري، ولما كان ممكنا حرمانها من
التعمير والتنمية والانتقال الطبيعي بين سكان سيناء وسكان وادي النيل.
الخطة الدائمة: زيادة التفريعات
رغم
ما يبدو من الاختلاف الظاهري بين عهود الحقبة العسكرية: عبد الناصر، السادات،
مبارك، السيسي، إلا أن مما اتفقوا فيه جميعا هو مضاعفة وتوسيع قناة السويس! وهو في
ذاته دليل على أن الرؤية السياسية والأمنية والاستراتيجية لم تتغير بين تلك
الأنظمة، والفترة الوحيدة التي نُظِر فيها إلى محور قناة السويس برؤية أمنية
واستراتيجية مخالفة كانت هي الفترة القصيرة للرئيس محمد مرسي، وهو الرئيس الوحيد المنتخب من الشعب المصري بعد
ثورة 25 يناير.
زيدت
سبعة تفريعات على قناة السويس:
1.
في عصر الملك فاروق أضيفت تفريعة البلاح بطول عشر كم عند منطقة البلاح شمال
الإسماعيلية (1951م).
2.
في عصر عبد الناصر أضيفت تفريعتان: تفريعة البحيرات بطول 11.8 كم (1955م)، وتفريعة
كبريت بطول 7.0 كم (1955م).
3.
في عصر السادات أضيفت ثلاث تفريعات: تفريعة بورسعيد بطول 40.1 كم (1980م) وازداد
طولها أكثر من مرة في عصر مبارك، تفريعة التمساح بطول 4.3 كم (1980م)، تفريعة الدفرسوار
بطول 8.4 كم (1980م).
4.
وفي عصر السيسي حُشِدت حملة إعلامية هائلة لاجتذاب تبرعات شعبية واسعة لإنشاء أكبر
تفريعة جديدة "قناة السويس الجديدة"، مع إغراءات ووعود هائلة، ونُفِّذ
المشروع في سنة واحدة فقط، ليكون أطول مضاعفة لقناة السويس منذ نشأتها[37].
وهكذا
تقوم الحكومة المصرية على زيادة توسيع وتعميق قناة السويس التي كانت المشروع
المرفوض من كل من حكموا مصر قبل سعيد باشا، ومن بعد ما ظهر بجلاء عبر الحروب
المتعددة الخطر الكبير الذي تمثله القناة أمنيا وعسكريا واستراتيجيا. هذه المضاعفة
في المانع المائي تجعل تكرار عبور القناة لمواجهة أي اجتياح إسرائيلي لسيناء في
حكم المستحيل، أي أن السياسة المصرية ترسخ عمليا لعزلة سيناء وتقدمها كهدية
لإسرائيل.
وبعد
عامين من افتتاح المجرى الملاحي الجديد تبخرت الوعود المبذولة بالرخاء الاقتصادي،
وصرح السيسي مؤخرا بأنه كان مشروعا لرفع الروح المعنوية[38]!!
وبهذا الاعتراف بإخفاق المشروع اقتصاديا لم يبق إلا آثاره الأمنية الخطيرة والتي
تصب في صالح القوى الأجنبية، وبالذات في صالح إسرائيل.
مراحل زيادة طول وعمق القناة – المصدر: موقع
هيئة قناة السويس على الانترنت
مراحل زيادة طول وعمق القناة – المصدر: موقع
هيئة قناة السويس على الانترنت
الخاتمة: الحلول المطروحة لملف قناة السويس
قبل
نحو ثلث القرن حاول رئيس بنما عمر توريخوس أن يستعيد سيادة بلاده على قناة بنما
الواصلة بين المحيطين الأطلسي والهادي، والواقعة تحت السيادة الأمريكية، فخاض
معارك سياسية مع الأمريكان وصل فيها أن هدد بتفجير سد جاتون الواقع على القناة
ليوقف الملاحة فيها، ثم أفضت إلى اتفاق مع إدارة كارتر يقضي باستعادة القناة، إلا
أن ريجان -الذي خلف كارتر- لم يَرُقْ له الاتفاق وأَصَرَّ على عودة الأمور كما كانت،
وهو ما كان مستحيلا توريخوس، ففجَّرت المخابرات الأمريكية طائرته (31/7/1981م)، ونُصِّب
العميل "نورويجا" الذي لم يستطع أيضا تحقيق كل مطالب الأمريكان ولا
النزول الكامل من السقف الذي وصل إليه توريخوس، فلم يتردد ريجان عن قصف بنما
بالطائرات واختطاف نورويجا ومحاكمته في أمريكا في مشهد يكون به عبرة لكل من يفكر
في الوقوف أمام الغول الأمريكي.
لم
يجادل أحد في أن تهديد توريخوس بإيقاف الملاحة في قناة بنما عمل ثوري ووطني! فما
من بلد وما من حركة تحرر إلا وهي تنظر لمواردها في ضوء انتفاعها بها، فإن اقتصر
نفعها على عدوها لم تبال بتدميرها وهذه سنة مضطردة لا تتخلف لدى حركات التحرر، وقد
مرَّت بنا سخرية عبد الرحمن الرافعي من نظرية أن الأمم تفرط في استقلالها ومصالحها
خدمة للإنسانية!! فكيف وحقيقة الأمر أنها خدمة للأجانب الأعداء وليس للإنسانية؟!!
في
ضوء أزمة قناة السويس نرى أن الحل يمر بثلاث مستويات:
1.
التوعية
يجب
إزالة التراكم التاريخي الزائف حول منافع قناة السويس لمصر، وإبراز الحقيقة
التاريخية التي تنطق بها صفحات التاريخ وحقائق الواقع، وهو ما شهد به مؤرخون لا شك
في وطنيتهم بل ومؤرخون أجانب؛ فالقناة تحرم البلاد اقتصاديا من مركزها كمقر
للتبادل التجاري والخدمات والصناعات الوسيطة فضلا عن كلفة حمايتها وتأمين الملاحة
فيها. وتحرم البلاد عسكريا من اتصالها الجغرافي الذي سبب أضرارا هائلة
ونتجت عنه ثلاثة حروب على الأقل (1956، 1967، 1973) حتى صار الإنجاز العسكري
المصري الوحيد في تاريخ جيشها هو النجاح في "عبور القناة"، ويزيد هذا
الخطر العسكري أضعافا في ظل وجود إسرائيل وحاجتها لمنطقة عازلة وخط دفاعي وأمني
متقدم. وتحرم البلاد سياسيا من استقلالها بزيادة حرج موقعها كمركز تنافس
استعماري وهو ما عانت منه البلاد من اللحظة الأولى لولادة قناة السويس حتى الآن، إضافة
إلى القيود السياسية التي تلزم بمرور السفن وإن كانت عسكرية في مهمات تهدد مصالح
مصر أو عمقها العربي والإسلامي أو كانت تحمل مواد ضارة بالبيئة أو بالثروة
المصرية.
لا
يليق بحال أن تتشرب الصفوة المصرية خدعة فائدة القناة وأن تتمسك بها باعتبارها
مقدسا وطنيا، بل يجب أن يكون الشعب وقادته على وعي بخطورة هذه القناة وأضرارها حتى
وإن عجزوا عن الحل الشافي أو النهائي لمشكلة القناة. وأن ينتشر الوعي بين عموم
الجماهير.
2.
التنمية
وذلك
ما سعى إليه الدكتور محمد مرسي أثناء فترة رئاسته القصيرة، فلئن لم يكن ممكنا إزالة
القناة فلا بد من تعظيم وتكثيف الوجود البشري والعمراني والاقتصادي حولها، فهذا ما
يقلل أضرارها كعازل ويعيد الاتصال بين الجغرافيا المصرية، وهو ما يلقى معارضة قوية
من جهات كثيرة ليس أولها إسرائيل التي تستشعر في هذا التعمير والتكثيف تهديدا أمنيا
لسيناء كمنطقة عازلة، وليس آخرها العسكر المصري الحالي المرتبط والخادم للمصالح
الأمريكية والإسرائيلية[39].
بينما
تتعاظم الخشية من مشروعات توسيع القناة أو زيادة تفريعاتها، فهذا يضاعف المانع
المائي ويزيد الانفصال بين الأراضي المصرية، ويجعل إمكانية عبور القناة مستحيلا في
أي وقت قادم، وهو ما فعله عبد الفتاح السيسي، بل هو مشروعه الوحيد الذي اكتمل في
وقته القياسي.
3.
إزالة القناة
وهذا
حل تسوق إليه المعطيات التاريخية، وأول وآخر تفكير فيه كان لأحمد عرابي، آخر قائد عام
وطني قوي للجيش المصري، فكل من تولى القيادة العامة بعده كان تحت النفوذ والسيطرة
الأجنبية، وإزالة القناة لا تعني مجرد إزالة ممر مائي، بل هو:
1.
على مستوى الدائرة الإقليمية، إزالة أهم الخطوط الجيو - استراتيجية للدولة
العازلة، وهي إزالة لنظرياته الأمنية والعسكرية، وإقامة وضع جديد يعيد اتصال الأرض
المصرية والشعب المصري بما له من آثار واسعة تتجاوز الأمنية والعسكرية إلى الآثار
الاقتصادية والاجتماعية.
2. على مستوى الدائرة الدولية، هو إزالة
لمركز الشبكة الاستعمارية التي نشأت في القرن التاسع عشر، والتي لا تزال قائمة حتى
الآن، وهو ما يفرض أوضاعا جديدة على كل المستويات العسكرية والأمنية والاقتصادية، ويزيح
مركز الصراعات إلى حد ما من قلب العالم العربي إلى مواقع أخرى.
ولا شك أن هذه الحلول الثلاثة: التوعية،
التعمير، الإزالة تتوقف على امتلاك الشعب المصري خصوصا والمنطقة العربية عموما
لقراره وإرادته، وهو أمر دونه ملاحم ومصاعب هائلة، فالثقل الاستعماري الراسخ منذ
قرون لن يسمح بالتحرر ولن يعطيه إلا أن يُجبر عليه ويُنتزع منه.
يقول
الرافعي: "لو سلم عهد سعيد من القروض الأجنبية، ولم يمنح امتياز
القناة. لكان محتملا أن تتغير المصاير وتتبدل النتائج في تاريخنا القومي"[40]، هذا مع أن الرافعي لم ير ما سببته القناة بعد وفاته
(1966م)!
لو
تخيلنا تاريخ مصر بدون القناة فلا شك في أن دماء غزيرة كانت ستُحقن وأموالا طائلة
كانت ستُصان ووضعا سياسيا واقتصاديا آخر كان سيكون!
[1] انظر في
نداء نابليون لليهود: إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، ص106 وما
بعدها؛ عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 3/56، 57.
[2] انظر في
تاريخ قناة السويس: أنجلو ساماركو، قناة السويس تاريخها ومشكلاتها: وفقا
للمصادر المصرية والأوروبية غير المنشورة، ترجمة: ولاء عفيفي وآخران، ط1
(القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2015م)، ص35 وما بعدها؛ إلياس الأيوبي، تاريخ
مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا، ط2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996)، 1/325 وما
بعدها؛ عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ط4 (القاهرة: دار المعارف،
1987م)، 1/57 وما بعدها.
[3] المسعودي،
مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط5 (بيروت:
دار الفكر، 1973م)، 2/264.
[4] انظر:
يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عادل محمود سليمان، (اسطنبول:
منشورات مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م)، 2/443، 444؛ د. عبد القادر أوزجان: النظم
العسكرية العثمانية، ضمن: أكمل الدين إحسان أوغلو (إشراف)، الدولة
العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة صالح سعداوي، (اسطنبول: 1999م)، 1/417؛ مصطفى
بيلج، قناة السويس في الوثائق العثمانية، ترجمة: عمرو الزواوي، مجلة ذاكرة
مصر، (القاهرة: العدد 19، أكتوبر 2014)، ص76 وما بعدها.
[5] كريستوفر
هيرولد، بونابرت في مصر، ترجمة: فؤاد أندراوس، ط مكتبة الأسرة (القاهرة:
الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1998م)، ص20.
[6] كانت
بريطانيا تحتل الهند، وتسيطر بأسطولها البحري القوي على طريق رأس الرجاء الصالح
الملتف حول إفريقيا، فكان حفر قناة السويس يجعل غريمتها فرنسا أقرب إلى الهند
منها، لا سيما ومحمد علي من رجال فرنسا وحلفائها المقربين، وهو ما يغير موازين
القوى الاستعمارية.
[8] راجع
الورقة البحثية التي قدمها الباحث في المؤتمر الأكاديمي السادس عشر لدراسات بيت
المقدس (اسطنبول: 2016م)، بعنوان "تأسيس النفوذ الأجنبي في بيت المقدس في عهد
محمد علي باشا الكبير"، ففيها تناول للمحاولات العملية التي شرعت في تأسيس
الكيان اليهودي، وانظر: محمد إلهامي، في أروقة التاريخ: الجزء الأول، ط1
(القاهرة: دار التقوى، 2016م)، ص117 وما بعدها.
[11] يقول
المؤرخ والناشر الإنجليزي إدوارد ديزي: "لم يحدث أبدا أن مُنِح امتياز يكفل مثل
تلك المزايا للحاصل عليه، ويلقي مثل تلك الأعباء والتكاليف على عاتق من أصدره، مثل
الامتياز الذي منحه سعيد باشا لشركة السويس". انظر: جالينا نيكيتينا، قناة
السويس ملكية وطنية للشعب المصري، ترجمة: إبراهيم عامر، (القاهرة: مطبعة الدار
المصرية، 1957م)، ص18.
[13] مما يثير
الشك في اليد الأجنبية في مصر أن تولي كل من سعيد وإسماعيل الحكم كان بعد عملية
اغتيال أزاحت من قبلهما، فقد تولى سعيد بعد اغتيال غامض لعباس باشا في قصره، وتولى
إسماعيل بعد حادث غامض غرق فيه الأمير أحمد رفعت الأكبر منه سنا والأولى بمنصب
الولاية بحسب النظام المتبع في تلك الفترة.
[14] للمزيد
انظر: محمد إلهامي، في أروقة التاريخ، ص249 وما بعدها؛ ؛ عبد العزيز
الشناوي، السخرة في حفر قناة السويس، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة
للكتاب، 2010م)؛ إلياس الأيوبي، تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل، 1/341 وما
بعدها؛ الرافعي، عصر إسماعيل، 1/63 وما بعدها، 93 وما بعدها؛ ألبرت فارمان،
مصر وكيف غُدر بها، ترجمة: عبد الفتاح عنايت، ط1 (القاهرة: الزهراء للإعلام
العربي، 1995)، ص217 وما بعدها؛ جورج يانج، تاريخ مصر من عهد المماليك إلى نهاية
عهد إسماعيل، ترجمة: علي أحمد شكري، ط2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996م)، ص196 وما
بعدها؛ كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس
ومنير البعلبكي، ط5 (بيروت: دار العلم للملايين، 1968م)، ص575 وما بعدها؛ ريمون فلاور،
مصر من قدوم نابليون إلى رحيل عبد الناصر، ترجمة: سيد أحمد علي الناصري، ط
(القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2000م)، ص137 وما بعدها.
[15] عبد
الوهاب الكيالي، الموسوعة السياسية، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات
والنشر، بدون تاريخ)، 3/659.
[17] ريتشارد ف.
بيرتون، رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز، ترجمة وتعليق: د. عبد الرحمن عبد الله
الشيخ، (القاهرة: دار المعارف، 1994م)، ص98، 99.
[21] أولج
فولكف، القاهرة: مدينة ألف ليلة
وليلة، ترجمة: أحمد صليحة،
(القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1986م)، ص148.
[24] عبد
العزيز الشناوي، ما تكلفته مصر في إنشاء قناة السويس، المجلة التاريخية
المصرية، 1957م، 6/135 وما بعدها.
[25] انظر نص
تليغراف عرابي لقادة جيشه في محضر التحقيق معه في: د. عبد المنعم الجميعي، مذكرات
الزعيم أحمد عرابي: كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة
العرابية، (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2005م)، 2/767.
[29] انظر:
فلاديمير فينوجرادوف، مصر من ناصر إلى حرب أكتوبر: من أرشيف سفير، ترجمة:
أنور محمد إبراهيم، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2016)، ص14، 15.
[30] أنور
السادات، البحث عن الذات: قصة حياتي، ط3 (القاهرة: المكتب المصري الحديث،
أكتوبر 1979م)، ص159، 160.
[34] جمال
حماد، المعارك الحربية على الجبهة المصرية: حرب أكتوبر 1973، ط1 (القاهرة:
دار الشروق، 2002م)، ص85.
[35] محمد
حسنين هيكل، محاولة تصور الموقف، صحيفة الأهرام القاهرية، 12 أكتوبر 1973،
والنقل هنا عن: محمد حسنين هيكل، عند مفترق الطرق: حرب أكتوبر ماذا حدث فيها
وماذا حدث بعدها، ط3 (بيروت: شركة المطبوعات، 1983م)، ص35، 36.
[37] البيانات
عن موقع "هيئة قناة السويس" على الانترنت، لكن الخطأ التاريخي الشائع
أنهم يجعلون تفريعة البلاح ضمن ما حفر في عهد عبد الناصر، والصحيح أنه كان في عصر
الملك فاروق، وهو خطأ صحافي شائع لم ينتبه له القائمون على موقع الهيئة.
[39] حدثني
عضو لجنة الأمن القومي بالبرلمان المنتخب (2012م) أن العسكريين المصريين رفضوا صراحة
أي تنمية لمحور قناة السويس وأي زيادة في الوجود العمراني والبشري في سيناء بزعم
أن هذا يعيق حركتهم العسكرية إن كان ثمة احتلال إسرائيلي لسيناء، وهذا زعم كاذب
أبله يغني إيراده عن رده، فإن أهم ما يعيق الاحتلال ويخدم القوة المدافعة هو
الكثافة البشرية!