الأحد، نوفمبر 05، 2017

المغامرة الخطيرة

افتتاحية العدد الرابع من مجلة كلمة حق

كنت قبل أيام في مؤتمر منعقد باسطنبول، وقابلت طالب علم من إخواننا في تركستان الشرقية، سألته عن الطلبة التركستان الذين قبضت عليهم السلطات المصرية ورحلتهم إلى الصين، فأخبرني أن جميع أولئك قد حُكِم عليهم بالسجن عشرين سنة، وأن واحدًا منهم قُتِل تحت التعذيب، وسُلِّمت جثته لأهله. ثم شرع في الحديث عن أحوال المسلمين في التركستان، وهي مريرة مؤسفة، ويكفي أن يُعلم منها أن الصين ترى مجرد التعلم باللغة العربية دليلا على الإرهاب، وتهدم المساجد في القرى وتطارد سائر مظاهر الإسلام.

هذا الحادث دليل واحد، وهامشي، وبعيد من أدلة أن الانقلاب العسكري في مصر هو انقلاب على الإسلام، ففي أي تصور آخر –حتى بالمنظور الوطني العلماني- يعد تسليم طلبة الأزهر ضربا في مكانة مصر ونفوذها وقوتها الناعمة العريقة (الأزهر)، وهو ما لا تفسير له إلا أن تلك السلطة هي سلطة ضد الدين وضد البلد، هي على الحقيقة سلطة عميلة تخدم المصالح الإسرائيلية والغربية في المنطقة.

***

يضع كل محب لفلسطين وللمقاومة ولحماس يده على قلبه خوفا إزاء موضوع المصالحة الأخير، ذلك أنها مغامرة سياسية في غاية الخطورة، ونحن أمة حافلة بالتجارب التي تُثْبِت بسالتنا وبأسنا وشدتنا لكنها كثيرا ما تضيع في ساحة السياسة.

يعلم الجميع أن الفارق بين حماس وسلطة فتح هو نفسه الفارق بين الجهاد والعمالة، فمتى تصالح الجهاد مع الخيانة؟!
ويمكن سوق الكثير من الأسباب التي نتفهم بها ما تفعله حماس، التي حملت عبئا مضاعفا في إدارة قطاع غزة لأحد عشر سنوات تحت حصار شيطاني، وفي ظل أربعة حروب إعجازية مع ميزان القوى المنهار بينها وبين إسرائيل المدعومة بالأنظمة العربية المجرمة والعميلة. مما جعل غزة تصنع بنية تحتية متينة للمقاومة الباسلة. ويعرف الجميع بمن فيهم حماس أن الهدف هو سلاحها وكوادرها، بل والكوادر أهم من السلاح.. وقد عانت إسرائيل في ظل تلك السنوات من سد منافذ العمالة التي مكنتها من إيقاع ضربات مؤلمة للمقاومة، وفاجأتها المقاومة بما لم تكن تحتسب.. فالآن لا هدف لها –ولعملائها في سلطة فتح، والنظام العسكري المصري- إلا الحصول من جديد على المعلومات وتجديد شبكة العملاء.

لنكن صرحاء.. إنه مهما بلغ نظام حماس الأمني فلا نظام بلا ثغرات، ولا يعرف التاريخ حركة لم يحدث فيها اختراق، وفتح غزة أمام سلطة فتح سيمثل عبئا ضخما إضافيا على نظام حماس الأمني لحماية نفسه، وهو عبء لا يمكن ضمان نجاعته في نهاية المطاف، لأن إسرائيل وفتح ومصر ستدفع إلى غزة بنخبتها الأمنية لتحقيق أهدافها بأسرع ما يمكن.

وقبل دقائق من بداية كتابة هذه السطور جاء الخبر بمحاولة فاشلة لاغتيال توفيق أبو حصين مدير الأمن الداخلي في قطاع غزة بتفخيخ سيارته. وقبلها بيوم واحد نشرت كتائب القسام خبرا عن وفاة القائد القسامي محمد أبو جزر في حادث سير! ولم تُنْشَر أي تفاصيل مما يجعله مفتوحا على كل التفسيرات. أي أن "ثمرات" المصالحة ظهرت قبل وقوع المصالحة نفسها. كما أن تصريحات يحيى السنوار منذ بدأ ملف المصالحة تزيد في المخاوف، ليس أولها تهديده بكسر من يعترض على المصالحة من أبناء حماس ولن يكون آخرها تصريحه المحتمل للتأويلات حول سلاح حماس ووضعه تحت إشراف مظلة جامعة، ومن جهة أخرى فازدياد تسرب أخبار عن تحول بعض العناصر القسامية إلى تنظيم ولاية سيناء (داعش) يؤشر على أزمة مكتومة تجري في الدهاليز بين عناصر حماس العسكرية وبين القرار السياسي.

على الجانب الآخر فتصريحات عباس صريحة في استهداف سلاح المقاومة، وهي التصريحات التي انزعج لها مدير المخابرات المصرية وطلب التوقف عنها مؤقتا، فأجيب إلى طلبه، ثم السكوت الإسرائيلي عن عرقلة المصالحة حتى وُقِّع إعلانها في القاهرة، ثم التصريح الفج للمجلس الوزاري المصغر. والأهم من هذا كله أن المشهد على الأرض لم يشهد تغيرا بل صدق عباس لما قال أنه لن يرفع إجراءاته العقابية عن إلا حين يتمكن منها فعليا.

هي إذن مغامرة كبيرة وتحتاج يقظة وانتباها وذكاءا بالغا في إدارتها، نسأل الله أن يوفقهم فيها ويعينهم عليها.

ثم يبقى السؤال الكبير قائما: إن المصالحة إما ستفشل على الأرض، أو أنها ستصل إلى النقطة الحرجة: نقطة سلاح المقاومة. وقبل ذلك ستكون بعض الأحداث قد أسفرت عن مدى النجاح في الانكشاف الأمني لكوادر القسام. وفي كل الأحوال ما الذي تملكه حماس في حال فشل المصالحة وبقاء الوضع في غزة على ما هو عليه؟!

لا يكاد يُرى في الأفق إلا ثلاث مسارات كبيرة:

1.    الاستسلام والتخلي عن مشروع المقاومة، تحت إكراه الواقع العصيب، ثم التحول إلى نسخة جديدة من فتح
2.    الانفجار بوجه إسرائيل، وهي الحرب التي قد تكون انتحارية في حال وقعت بعدما حصل قدر من الانكشاف الأمني لقطاع غزة عبر زمن محاولة إنجاح المصالحة.
3.    الانفجار بوجه مصر، لمحاولة تصدير أزمة غزة إلى الجوار، لإجبار الأطراف المعنية لإعادة إحياء المصالحة وإيصال رسالة أن أزمة غزة لن تدفع غزة وحدها ثمنها.

نعم.. ربما جاء الوقت بأحداث تغير من المشهد، فتكون فائدة المصالحة أنها كسبت الوقت وأجلت الأزمة، إلا أنه لا ينبغي في أي حال الاعتماد على ما قد يأتي به الزمن.

***

لا يزال ابن سلمان ماضيا في جر السعودية إلى العلمانية والتطبيع مع اليهود.. كان نظام السعودية يمارس العلمانية والتطبيع بعيدا عن الشعب، فالنظام علماني، مشارك في كل ما يقتل المسلمين ويخمد ثوراتهم ويعيد تركيعهم للمستبدين.. وتلك سياسة السعودية على الأقل من بعد وفاة الملك فيصل، وإن كان كثير من الباحثين يمتد بها إلى سياسة الدولة السعودية الثالثة كلها.

الجديد هنا أن النظام السعودي خلع البرقع، ومضت وسائل إعلامه في هدم الدين وتسويق التطبيع مع إسرائيل صراحة.. وهو الثمن الذي يدفعه بن سلمان للأمريكان والإسرائيليين لتمكينه من عرش المملكة، أي أن الزلزال الذي تتعرض له السعودية له يشمل الأسرة المالكة كما يشمل عموم الجماهير، وهو ما يجعل البلاد على صفيح ساخن لا يُدْرَي من سينفجر أولا: الأسرة الحاكمة أم المجتمع، ولا من سيتلوه في الانفجار وكيف تتفاعل الأمور ويسند بعضها بعضا.

الواقع أنه ليس أصعب على المسلمين من تهدد بلاد الحرمين لمكانتهما في النفوس، والواقع أيضا أنه ربما لم يُجرم نظام في القرن الأخير بحق المسلمين كما أجرم نظام آل سعود، وبقدر ما يضع المرء كل مخاوفه على أمن الحرمين وأهل الحرمين، بقدر ما يبدو أن أي اختلال يصيب نظام آل سعود سيكون تنفيسا عن المسلمين في أماكن كثيرة.


قضى الله أن يهلك المجرمين بكيد من عند أنفسهم (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق