الجمعة، أكتوبر 07، 2016

مطلع حكم العسكر في التاريخ الإسلامي

لا بد من التنبيه في صدر هذا المقال إلى أمر غاية في الأهمية، ذلك هو: أن العسكر الذين وصلوا إلى السلطة في التاريخ الإسلامي سواء أكانوا من الأتراك أو الأكراد أو الأمازيغ أو الشركس أو غيرهم إنما كانوا من صميم هذه الأمة، لا يعرفون ولاءًا لغيرها، وكثير منهم بذل في إقامة مجدها أروع البطولات، وهم قد وصلوا إلى الحكم في سياق الحضارة الإسلامية وعبر تفاعل خريطة القوى الداخلية، وأولئك الذين فسدوا منهم وأفسدوا إنما كانوا يصنعون لأنفسهم سلطانا فسلكوا في هذا سبيل الحق والباطل. أما حكم العسكر الذي تعانيه الأمة هذه الأيام فأمرٌ مختلف تماما، فأولئك وصلوا إلى الحكم بتمهيد ورعاية ودعم عدو الأمة الذي احتلها ونكبها ثم رأى أنه يمكن له السيطرة عليها بالوكالة من خلال الحكم العسكري المستند إلى الأقليات العرقية والطائفية والدينية، وأولئك العسكر الآن لم يكن لهم إنجاز مطلقا ضد هذا العدو، بل سائر حروبهم هزائم ونكبات، وسائر انتصاراتهم إنما هي مذابح ضد شعوبهم، ولا يرحل حكم أولئك العسكر إلا بتسليم البلاد مرة أخرى إلى الاحتلال كما استلمها من الاحتلال (كما حدث في العراق)، وهم يستدعون قوات الاحتلال لتحفظ لهم عروشهم ومناصبهم، بل هم إذا تهددت عروشهم يعلنون أن مصالح العدو ستكون في خطر حال زوالهم من مناصبهم.

فنحن حين نتحدث عن مساوئ الحكم العسكري في التاريخ الإسلامي إنما نتحدث عنه لبيان حقيقة أن الحكم العسكري شرٌ ووبالٌ على الأمم لأنه حكم عسكري، لكن لا نرمي أبدا أحدا من أولئك بشيء من الخيانات التي يمارسها عسكر اليوم[1].

(1) بداية الأزمة

دخل هارون الرشيد على ولده الصغير المدلل، الذي صار فيما بعد الخليفة العباسي الثامن المعتصم بالله، فأراد أن يعزيه في صديقه الذي كان يرافقه كل يوم إلى الكُتَّاب، فقال له: يا محمد مات غلامك؟! فقال: نعم يا سيدي واستراح من الكُتَّاب. ففوجئ الرشيد وقال: وإن الكُتَّاب ليبلغ منك هذا المبلغ أن تجعل الموت راحة منه؟! دعوه حيث انتهى لا تعلموه شيئًا، فوجَّهه إلى البادية ليتعلم الفصاحة، فكان أمُّيَّا ضعيفا في القراءة والكتابة[2].

لم يكن يُتوقع أن تؤول الخلافة إلى المعتصم لوجود أخويه الأمين والمأمون، لكن كليهما مات صغيرا، فوصلت إليه الخلافة، وكان الفارق هائلا بينه وبين المأمون الذي سبقه، فلقد كان المأمون عالما واسع الذكاء قوي العقل وفي أيامه نبغ شأن المعتزلة، فلما جاء المعتصم لم يكن أهلا أن يفهم هذه الأمور، فكان رجلا أقرب إلى العقل العسكري منه إلى العقل المدني، فمضى على منهج أخيه لكن بوتيرة عسكرية أشد.

قامت الدولة العباسية على قاعدة من الفرس الذين كانوا جماهير دعوتها ثم كانوا رجال دولتها كالبرامكة والطاهريين وغيرهم، إلا أنه وبعد مرور مائة عام بدأت الفرقة والتمزق تنتشر بين الفارسيين، واحتاجت الدولة لعنصر آخر تغذي به الجيش، فوقع اختيار المأمون على العنصر التركي، فبدأ في شراء المماليك الأتراك وتقوية الجيش بهم، ثم زاد المعتصم في هذه الوتيرة فصار الأتراك يمثلون في عهده عصب جيش الخلافة، واستطاعوا بالفعل إنقاذ الدولة العباسية وتحقيق انتصارات تاريخية وتعويض الدولة عما فقدته من القوة العسكرية، إلا أنهم في نفس الوقت أسسوا لدخول الدولة العباسية تحت نفوذ الحكم العسكري، ومن أبلغ ما يدل على هذا أن أهل بغداد لم يتحملوا غلظة الأتراك وبداوتهم، وخاف المعتصم من الاضطرابات فقرر بناء عاصمة جديدة للدولة هي (سامراء)، لتكون عاصمة عسكرية مقابل العاصمة المدنية الحضارية (بغداد) وإليها انتقلت مؤسسات الدولة وقصر الخلافة[3].

ولما مات المعتصم سار ابنه الواثق بالله –الخليفة التاسع- على نهجه في الاعتماد على الأتراك فاتسع نفوذهم جدا، وبدأت من هاهنا دخولهم في نفوذ القرار السياسي، والواثق هو الخليفة الذي يمكن للمؤرِّخ أن يحمله مسئولية ما آل إليه حال الأتراك، فإنه طوال فترته «لم يقم بفعاليات عسكرية تذكر، فكان حكمه فترة ركود جعل الترك يشعرون بأهمِّيَّتهم ويتدخَّلون في السياسة، وبدل أن يقف الخليفة ضد هذا الاتجاه ويقصر فعاليتهم على النواحي العسكرية -كما كان يفعل المعتصم- نراه يسهل الطريق لهم بتعيينهم في الإدارة، فاتَّسع مدى نفوذهم، ولعلَّ ضعفه وقلة إدراكه مسئولان عن خطئه الخطير، وهو عدم تعيين ولي عهده بعده، ففتح للترك باب التدخل في آخر مراحل السلطة وهي اختيار الخليفة، فلم يترددوا في استغلال الفرصة؛ بل كانت لهم اليد الطولى في انتخاب المتوكل فكانت هذه سابقة جرت الويلات على العباسيين»[4].

ولم تطل أيام الواثق في الخلافة، فلم يحكم سوى خمسة سنوات وشهور، لكنها كانت كافية لترسيخ نفوذ العسكر الأتراك، فلما جاء بعده ابنه المتوكل على الله –الخليفة العباسي العاشر- حاول كثيرا حصار نفوذ الأتراك، واتخذ عددا من الإجراءات التي من شأنها إعاة هيبة الخلافة لتكون فوق العناصر جميعها ولتكون قادرة على الموازنة بينهم، إلا أنه لم ينجح، ويكفي دليلا على هذا أنه لما حاول التخلص من نفوذ كبير القادة الترك بذل مجهودا في عملية خداع واسعة تُخرجه من سامراء إلى الحج ثم إعادته إلى بغداد وهناك قُبِض عليه ثم قُتِل، ولولا ذلك لم يكن أحد ليمكنه شيء، بل يقول الطبري: "لو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه ولو دخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك"[5]، ولقد حاول المتوكل تغيير عاصمة الخلافة مرتين ليبتعد عن الحاضنة العسكرية التركية إلى حاضنة أخرى، لكن الأمر لم يتم له.

ومن إجراءات المتوكل أيضا تسميته ولي للعهد منذ وقت مبكر، بعد وصوله إلى الخلافة بقليل، رغم صغر أبنائه، وكان بذلك يحاول تثبيت شأن الخلافة من بعده لكي لا يتحكم العسكر الترك فيمن يكون خليفة كما كان لهم ذلك بعد موت أبيه الواثق، فوضع ترتيبا لولاية العهد يكون فيه الأمر من بعده لمحمد المنتصر بالله ثم لمحمد (أو الزبير) المعتز بالله، ثم لإبراهيم المؤيد بالله.

لكن المتوكل بدا له أن ابنه المعتز بالله أصلح للخلافة من ولي عهده المنتصر بالله، وقد ظهر هذا في كثير من المواطن والمواقف، فصار المتوكل يُقَدِّمه ويزيد في تقديمه، ثم طلب صراحة من المنتصر أن ينزل عن ولاية العهد لأخيه المعتز، فرفض المنتصر، فكان المتوكل بعدها يُحَقِّره ويهينه ويُنْقِص من شأنه أمام الناس، فزاد هذا من تغيُّر المنتصر على أبيه. وعلى جهة أخرى كان المتوكل قد عزم على مصادرة ضياع القائد التركي وصيف في مناطق أصبهان والجبل، وكتب هذا القرار ولم يبقَ إلَّا أن يُختم، فبلغ هذا وصيفًا، فكانت لحظة اجتمع فيها حنق المنتصر والأتراك على المتوكل.

تحالف الطرفان الغاضبان، وكان المتوكل مريضًا في تلك الأيام من عيد الفطر (247هـ)، لكنه بدأ يتجه نحو العافية في صباح الثلاثاء (3 من شوال 247هـ)، فلما جاء الليل وعزم على الجلوس إلى السمر مع الشعراء والسُمَّار كعادته، دخل عليه جماعة من الأمراء فقتلوه في تلك الليلة ثم بايعوا ولده المنتصر بالله.

كان عمر المتوكل في هذه اللحظة أربعين سنة فحسب، ونحسب أنه لو امتد به العمر لكان قد استطاع القضاء على نفوذ الأتراك وإعادة قوة الدولة، ولكن هكذا جرت الأيام ولا يعلم الغيب إلا الله! إلَّا أنها كانت سابقة جديدة في نفوذ الأتراك الذين وصلوا إلى قتل الخليفة نفسه، فكان لهذا ما بعده، وأعلنت هذه الحادثة عن فشل الخليفة في مسعاه بإنهاء نفوذ الأتراك، لا سيما وأنهم «على الرغم من انقسامهم على أنفسهم كانوا يشعرون بالمصلحة المشتركة، وساعدهم تخليط الخليفة في أمر العهد وانقسام العائلة المالكة على نفسها فاستغلُّوا ذلك لقتل خصمهم والتخلص منه، وتلا ذلك فترة فوضى مريعة»[6].

استطاع المنتصر بالله أن يصل إلى الخلافة وأن يصير الخليفة العباسي الحادي عشر، لكنه لم يدر أنه سيكون الخليفة الأول في عصر سيطرة العسكر، لتبدأ معه رحلة انحدار الدولة العباسية العظيمة الزاهرة ذات الحضارة المتألقة إلى الانهيار!





[1] انظر في المقارنة بين حكم العسكر الآن وحكم المماليك هذين المقالين المنشورين على "المعهد المصري": المقال الأول، المقال الثاني.
[2] ابن عبد ربه، العقد الفريد، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1994م)، 2/275؛ ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ط1 (بيروت، دار الكتب العلمية، 1992م)، 11/27.
[3] لمزيد من التفصيل: محمد إلهامي، رحلة الخلافة العباسية، ط1 (القاهرة: مؤسسة اقرأ، 2013م)، 1/556 وما بعدها. وانظر: الأتراك في بلاط الخلافة العباسية.
[4] د. عبد العزيز الدوري، دراسات في العصور العباسية المتأخرة، (بغداد: مطبعة السوريان، 1945م)، ص13.
[5] الطبري، تاريخ الطبري، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1995م)، 5/302، 303.
[6] عبد العزيز الدوري، دراسات في العصور العباسية المتأخرة، مرجع سابق، ص14.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق